موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

أَتُرَى الْمسيحُ انقَسَم!

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أَتُرَى الْمسيحُ انقَسَم!

أَتُرَى الْمسيحُ انقَسَم!

 

عظة الأحد الثّالث عَشَر من زمن السّنة العادي

 

أَيّها الأحبّة، اللهُ رَبُّ الكُلِّ وَإلهُ الجَميع! وهوَ وَاحِدٌ دُونَ تجزأةٍ أَو تَقسيم! أَمَّا بَنو البَشرِ فَمُقَسَّمَونَ، وانْقِسامَاتُهم سَببُ خِلافَاتِهم وَعَدَاواتِهم! وَفي أَيَّامِ يَسوع كَانَت العَداوةُ شَديدَةً بَينَ اليهودِ، سُكَّانِ القُدسِ وَما حولها، وبينَ السّامريين سُكّانِ نَابلس وما حولها، لأسبابٍ دِينيّةٍ وَسِياسيّة. وَهي عداوةٌ مُستَمِرّةٌ حَتّى اليَوم.

 

الْمسيحُ بِدَورِهِ أَرَادَ أنْ يَسموَ عَن تِلكَ الخِلافات، وألّا يكونَ جُزءًا مِنْها، فَعَمِلَ على فَرضِ وَاقِعٍ مُغايِر. وَمِن خلالِ تَعليمِيهِ وسُلوكِهِ، أرادَ أن يُظهِرَ أنَّ العلاقَة ممكِنة بَينَ اليهودِ والسَّامِريّين. فالْمسيحُ جَاءَ لِيَبني جُسورَ الّلقاءِ ويَمُدَّ خُطوطَ التَّواصُل، ويُزيلَ العوائِقَ وَيهدِمَ الجُدران، الّتي تَحولُ دُونَ ذَلِك. وَفِعلًا، نَراهُ يَنجَحُ في بَعضِ الْمَواقِف، كَمَا جَرى سَاعَةَ لِقائِهِ الْمرأةَ السّامِريّة، وَما نَجمَ عن ذلِك الّلقاء مِن إيمانِ عَدَدٍ من سَامِرييِّ مَدينَتِها سيخارة (يوحنا 1:4-42). وَأَيضًا، عِندَ شِفائِه العَشرَةُ البُرص، لَم يرجِع مِنهم شاكِرًا سِوَى السَّامريِّ الغَريب (لوقا 11:17-19). أَمّا البقيّةُ ناكِرو الْمَعروف، فَلا حمدًا ولا شُكرًا!

 

أَضِف إلى ذَلِكَ، أنَّ الْمسيحَ لَمَّا ضَرَبَ مَثَلًا عَن الرّحمة، جَعَلَ السّامريَّ الشَّخصَ الرَّحيم، بَينَما بنو قَومِ الرّجُلِ الْمُصاب، تَرَكوه كُلُّهم وَلم يُسعِفوه، مُلْقَىً بَينَ الْمَوتِ وَالحياة! (راجِع لوقا 25:10-37)! وَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنّكَ أَحيَانًا كَثيرَة، قَد تَجِدُ الخيرَ في غَيرِ أَهلِكَ وَعشيرتِكَ وَأبَناءِ جِلْدَتِكَ، أَو مَن يُعتَبَرونَ غُرَبَاءَ عَن الرَّعية إذا تَحدَّثنا مِن مَنظورٍ رَعَوي، أو رُبَّما مَن كُنتَ تَنظُرُ إِلَيهم عَلى أَنّهم أَعدَاء!

 

في رَأيي، حَدَثُ اليوم وَباقي الأحداثِ الْمُستَمَدّةِ مِن حَياةِ الْمَسيحِ وَتَعَاليمِهِ، تُعَلِّمُنا أن نَنهَجَ سياسةَ رَبطِ الجسور، عَلى قَدرِ مَا الأمر بِأَيدينا! لأنّنا في نَفسِ الوَقت، نُدرِكُ أَنَّ بِناءَ الجُسور، لَيسَ بِالْمَهَمَّةِ السّهلةِ مَع كُلِّ النّاس، بَل هي أَيضًا مَهمّةٌ مَصيرُها الفَشَلُ مَع البعض، لأنَّكَ حَيثُ تَبني قَد تَجِدُ مَن يُدَمّرُ وَيَهدم! أَلَيسَ هذا مَا حَدَثَ مع الْمسيحِ في إنجيلِ اليوم؟! إذْ: ﴿لَم يَقبَلوه، لِأنّهُ كان مُتَّجِهًا إلى أورشَليم﴾ (لوقا 53:9).

 

لَيسَ سهلًا يا أحبّة أن تكونَ رَجُلَ تَلاقٍ مَع كُلِّ النّاس، وأن تُحافِظَ عَلَى مَسافَةٍ شِبهِ واحِدَة مع الجَميع! وَنعلَمُ أَيضًا أنَّ التّصافُحَ يحتاجُ لِيَدين اِثْنَتَين مَمْدُودَتين! الْمَسيحُ نَفسُه لِمُجرَّدِ أنَّهُ مَحسوبٌ عَلَى اليَهود، وَمُتّجِهٌ إلى أُورشليم، قُوبِلَ هو وَرِسالَتُه وتلاميذُه بالرّفض! وَهذا ما نَختبِرُه نحنُ عِندَ بَعَضِ الْمَواقِف وَمع بعضِ الأشخاص. وَمَا اَخْتَبَرتُهُ كَكَاهِن رعيّة، حَيثُ يُريدني البَعضُ أَن أَكونَ لَهُم فَقَط، وَطبعًا هَذَا مَرفُوض لأنّه مُنافٍ لِرِسالَتي، حَيثُ يُفتَرَضُ بي أَن أكونَ للكُلِّ دُونَ تَمييز، وَألّا أَكونَ مَحسوبًا عَلَى أَحَدٍ ضِدَّ أَحد! دُونَ أَن أُنكِرَ أَنّني، وَبِحُكمِ طَبيعَتي البَشريّة، وَتَكوني الإنسانيّ، قَد أَشعرُ بِالرّاحةِ والانسجامِ مع البَعضِ، أَكثرَ مِن البَعضِ الآخر، دونَ أن يَسلَخَني شعوري هَذا عن البَاقين. فَعَلَى الرّاعي الصّالِح، أَن يُعنَى بِالخرافِ جَميعِها، وَيَرعَاهَا كُلَّها، وَيَسعى لِخِدْمَتِها دُونَ استِثنَاء!

 

نَقرأُ في الرّسالةِ إلى أهلِ أَفَسُس: ﴿فَقَدَ جَعَلَ مِن الجَماعَتينِ جَماعَةً واحِدة، وَهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الّذي يفصِلُ بَينَهُما، أي العَداوَة﴾ (أفسُس 14:2). وَهَذا ما نَجِدُه أيضًا في سِفرِ أَعمَالِ الرُّسل، حِين يَصِفُ الجمَاعَةَ الْمَسيحيّةَ الأولى قائِلًا: ﴿وَكَان جَميعُ الّذينَ آَمَنوا جَماعَةً واحِدة﴾ (أعمال 44:2). وَيسوعُ قَبلَ آلامِه وَصَلبِه، يُصلّي قائِلًا: ﴿لِيَكونوا واحِدًا، كَما نَحنُ واحِد﴾ (يوحنّا 11:17). اللهُ يا أَحبَّة مِثالُنا في الوَحدَة، وَيَدعونا إلى نَبذِ الخِلافات، وإلى مَدِّ جُسورِ التّلاقي والوِفَاق. أَمّا التّفرقةُ والانقِسَام، فَهيَ كُلُّها دَلَالاتُ شَرٍّ وَغِيابٍ لِلخَير!

 

لِذلك، مِن أَسوءِ الشُّرورِ والعِلَلِ الّتي أَصَابَت الكنيسة، عِلَّةُ الانقِسامِ وغيابِ الوَحدَة! والأسوءُ مِنها، مَن يستخدِمُ اسمَ الْمسيح، لِتعزيزِ هَذهِ الرّوحِ البَغيضَة. وهُنا أُذَكِّرُ بِكَلِمَاتِ بُولس مُوبِّخًا أَهلَ قورنتوس، يَقول: ﴿أَتُرَى الْمسيحُ انقَسَم؟﴾ (1قورنتوس 13:1).

 

مَا يَطلُبُه الْمَسيحُ مِنّا في إنجيل اليوم، أن نَكُونَ دُعاةَ سَلام، أَبناءَ اللهِ نُدعَى، بُنَاةَ جسورِ المحبّةِ والوئِام! وَالكَفَّ عَن الادِّعَاء بِأَنَّنا أَفضَلُ النّاس وأَحسَنُهُم، وَأَكثرُهم دينًا وتَقوَى وَنزاهَةً وَاستِقَامَة، أَمَّا هم فَفي ضَلالٍ مُبين! أليسَ الْمسيحُ مَن قَالَ للسّامِريّة: ﴿تَأتي سَاعَةٌ فيها تَعبدونَ الآب، لا في هذا الجَبَل ولا في أورشَليم... فيها العُبّادُ الصّادِقون يَعبدونَ الآبَ بالرّوحِ والحَق﴾ (راجِع يوحنّا 21:4-25﴾. أَلَيسَ العَشّارُ مَن نَزَلَ إلى بيتِه مَبرورًا، وأَمّا الفرّيسيُّ الْمُتَطرّف فَلَا! (راجع لوقا 9:18-14).

 

كَثرةُ التَّديُّن وَمَا يُرافِقُه مِن مَظَاهِرَ خَارِجيّة وَمُمارسَاتٍ عَلَنيّة، لَيسَت بِالضَّرورَة مِعايرًا لِصدقِ التّقوَى، وَلا دَليلًا على حُسْنِ العِبادَة! أَلَيسَ الْمسيحُ مَن قال أيضًا: ﴿فَسَوفَ يَقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: ((يا ربّ، يا ربّ، أَمَا بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وَبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ فأَقولُ لَهم عَلانِيةً: ((ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!﴾ (متّى 22:7-23).

 

يا إخوتي، أَمامَ العَداوةِ عِندَنا مَوقِفان اِثنَان، يَصلُحُ أَن نَتَبنّى مِنهُما واحِدًا فَقط: إمّا موقِفُ يعقوب ويوحنّا: ﴿يا رَب، أَتُريد أنْ نَأمُرَ النّار، فَتنزِل مِن السّماءِ وَتأكُلَهم﴾ (لوقا 54:9) وَهوَ مَوقِفٌ انتِقاميٌّ نَابِع مِن غَريزةِ بَشريّة، تَعَوَّدَت أن تُقابِلَ الشّرَّ بِشَرٍّ مُساوٍ لَه أو يفوقُهُ! وإمّا مَوقِفُ يَسوع: ﴿فَالتَفَت وانْتَهَرَهُما﴾ (لوقا 55:9). الّذي لَم ينتَقِم مِن رَدّةِ فِعلِ أَهلِ القريةِ السَّيئة، إنّما انتهرَ تَلاميذَهُ على مَوقِفهم العِدائي! البَعضُ سَيقول لي: "يا أبونا، نحنُ لَسنَا مثلَ يَسوع!" وَمَن قال: إنّني أنا مثل يَسوع! وَلَكنّني على الأقل أُحاوِل أن أَتَشَبّه بِه وأن أتبنّى رَدّاتِ فِعلِهِ وَأُسلوبِه، بِالرّغمِ مِن طَبيعتي البشرية، وما يشوبُها من ضِعفٍ يجُرّني لأسفل!

 

إنَّ ((الغَيرةَ عَلى الله أو الغَيرةَ على الدّين))، والْمَشحونَةَ بمشاعرِ العَداوةِ والانتِقام والكُرهِ والبُغضِ، وَالّتي تَطلبُ الشرَّ والضَّرَرَ للآخرين، مَا هي إلا حَمِيّةٌ باطِلة، صادرة عن روحِ شرٍّ مُتأصِّلٍ فيما مَن ينتَهِجُها، وَلَو كَانت الغَايةُ تَبدو جَيّدة!