موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣

"أيّها الكاهن لك أقول: ..." بين كاتبي نبؤة ملاخي والإنجيل الأوّل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ملا 1: 14- 2: 10؛مت 23:1-12)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (ملا 1: 14- 2: 10؛مت 23:1-12)

 

مُقدّمة

 

دُمتم أيّها القراء الافاضل في حضور دائم أمام الكلمة الإلهيّة. في هذا الأسبوع سنناقش  موضوع كتابي صعب لأنه يحمل تحدي حقيقي في عالمنا اليّوم. كثيراً ما كنا نتردد في أن نربط الكتاب المقدس بجراءة ووضوح ولكن نصيّ العهدين يجثونا على ذلك في هذا المقال. الآن وقد إنتهت أعمال السينودس الكاثوليكي والّذي دام ثلاث سنوات أين نحن من علميُا من ثماره. هذا المقال يضع أقدامنا على الأرض بواقعيّة هادفين للتحرر من الرّوح النرجسيّة الّتي تسلب حقيقة إيماننا دون أن ندري والسبب هو "الكرسي".

 

نص العهد الأوّل من نبؤة ملاخي بالمقطع التالي 1: 1- 2: 14 ومفتاحه الكتابيّ هو إنحراف الكهنة والّذي يدعونا فيه النبي إلى التوبة والعودة لإعطاء الأولويّة للرّبّ. ثمّ سننتقل للعهد الثاني للتمعن في تعليم يسوع حول كل ما هو يتناقض مع التواضع أيّ ما ينتمي للكبرياء من جانب حارسي الشريعة أي كهنة وبطاركة وأصحاب كراسي الكنيسة اليّوم، فنحن امام تحدي السلطة. لذا تأتي كلمات يسوع لتنيرنا من جانب بتواضعه الإنساني والإلهي ليرفعنا إلى المجد الإلهي ومن الجانب الآخر ليحررنا من رّوح التواضع الزائف والنرجسيّة المميتة الّذي يُغلف حياتنا بشكل يومي إذ لم ننتبه ونتوب لوقعنا في فخ النرجسيّة الّتي تحرمنا من التمتع بالكثير من النعم ومعنى الحياة الحقيقي.

 

 

1. النرجسيّة (ملا 1: 14- 2: 10)

 

تحمل رسالة آخر الأنبياء الصغار رسالة نبويّة حادة بل نعتبرها قاسية. فهو مجرد حامل الرسالة الإلهيّة ولا أكثر هذه الكلمات الّتي يتفوه بها النبي اليّوم هي كلمات الرّبّ الّتي يوجهها لشعبه، نحن اليّوم. الشعب بقيادة الكهنة م يعد يعطي الأولويّة لله فصار كلّاً منهم بمثابة "مرجعًا لذاته". وفي هذا الوقت بالتحديد، وقت الوقوع في "حب الّذات" و "الكرسي المريح"، يتدخل الرّبّ برسالته ليوقظنا كمؤمنين، من نساء ورجال، من غفلتنا محرراً إيانا من خطر كبير وهو النرجسيّة.

 

تبدأ رسالة الرّبّ للنبي ملاخي بقوله: «هكَذا قالَ رَبُّ القُوَّات» (ملا 1: 4). وفي هذه الصيغة الكتابيّة قوة لا يعلم بها سوى مَن ينتمي لشعب الله أو مَن يؤمن به حقًا، أيّ نحن الّذين ندعو ذاتنا مسيحيين هذا العصر! ماذا يقول الرّبّ؟ هل هناك من جديد؟ نعم. هذه الرسالة هي رسالة تهديد من الرّبّ لشعبه حينما رغب في أنّ يصير مرجعًا لذاته ويخطط لحياته بعيداً عن الرّبّ خالقه. فقد نسي الشعب ، بسبب قيادة كهنتهم الباطلة، أنّ الرّبّ إلهه هو خالقه وعليه أنّ يتبع مخططه أو يسأله المشورة فيما يفعله.

 

تأتي نبرة النبي في هذه الرسالة تهديديّة لكهنته، فيقول الرّبّ على لسانه: «مَلْعونٌ الماكِرُ الًّذي عِندَه في قَطيعِه ذَكَر، وهو يَنذِرُ ويَذبَحُ لِلسَّيِّدِ ماهر مَعيب، فإِنِّي مَلِكٌ عَظيم، قالَ رَبُّ القُوَّات، واسْمي مَهيبٌ بَينَ الأُمَم» (ملا 1: 14). قد تخيفنا هذه الرسالة الإلهيّة ولكن الرسالة موجهة في المرتبة الأوّلى لكهنة هيكل الرّبّ الّذين لم يضعوا الله في أولوياتهم ولم يساعدوا الشعب على ما يليق بالله حقًا. مدعوين مع كهنة الرّبّ إلى التمييز فيما يتم تخطيطه في الأعمال الرعوية. هذا بالإضافة إلى السمع والطاعة كمؤمنين بالقرن الحالي، لصوت الرّبّ الّذي يحبنا ويهدف لخلاصنا وتحررنا من الأنا النرجسي الّذي سيُفقدنا العلاقة معه.

 

 

2. النسيان أم التناسي؟ (ملا 2: 1- 14)

 

إنغلق كهنة بني إسرائيل على ذواتهم وإنخرطوا في عادات الشعوب الأخرى، لم يجدوا في حضور الله النعمة لحياتهم! بدأوا بتخطيط حياتهم وحياة الشعب بأنفسهم، إذّ تناسوا مُلك الرّبّ العظيم ومهابة إسمه القدير بين الشعوب. فتأتي كلمات الرّبّ التحذيريّة بنبرة قاسية معلنًا التهديد للكهنة قائلاً: «والآن، إِلَيكم هذه الوَصِيَّةَ أَيُّها الكَهَنَة: إِن لم تَسمَعوا ولَم تَجعَلوا في قُلوبِكم أَن تُؤَدُّوا مَجداً لاِسْمي، قالَ رَبُّ القُوَّات، أُرسِلُ علَيكمُ اللَّعنَة، وأَلعنُ بَرَكاتِكم، أَلعَنُها لِأَنَّكم لم تَجعَلوا ذلك في قُلوبِكم. [...] فتَعلَمونَ أَنِّي أَرسَلتُ إِلَيكُم بِهذه الوَصِيَّة، لِيَبْقى عَهْدي مع لاوي، قالَ رَبُّ القُوَّات. كانَ عَهْدي معَه حَياةً وسَلاماً فوَهَبتُهما لَه، وتَقْوى فاتَّقاني وهابَ اسْمي. [...] سار معي بِالسَّلامةِ والإستِقامة، ورَدَّ كَثيرينَ عنِ الإِثْم، لِأَنَّ شَفَتَيِ الكاهِنِ تَحفَظانِ المَعرفَة، ومِن فَمِه يَطلُبونَ التَّعْليم، إِذ هو رَسولُ رَبِّ القُوَّات. أَمَّا أَنتُم فحِدتُم عنِ الطَّريق وعَثَّرتُم كَثيرينَ بِالتَّعْليم، ونَقَضْتُم عَهدَ لاوي، قالَ رَبُّ القُوَّات. فأَنا أَيضَا جَعَلتُكم حَقيرينَ وأَدنِياءَ عِندَ جَميعَ الشَّعْب، بِقَدْرِ ما أَنَّكم لم تَحفَظوا طُرُقي وحابَيتُمُ الوُجوهَ في تَعْليمِكم» (ملا 2: 1- 9). سماح الكهنة، بعد معايشتهم خبرة السبي، بالمحاباة والتفضيل وشجعوا الشعب على كسر الشريعة والوصايا الإلهيّة. رسالة الله هي التذكير به وبكلمته المقدسة إذ له الكلمة الأخيرة وكلمته هي الّتي تبقى وتسود. تدعونا رسالة ملاخي، وهو آخر الأنبياء، إلى الإستنارة فيما نعيشه ولتكن كلمة الله هي مقياس لحياتنا.وإذ نسينا أو تناسينا بسبب إلتزامات الحياة علينا بالتوبة وتغيير المسار.

 

 

3. معلمين أمّ شهود؟ (مت 23: 1- 12)

 

نسمع من جديد كلمات قاسية من يسوع المعلم، وهذا النص يتوازي بشدة مع نص ملاخي الّذي ناقشناه سابقًا. ففي هذا المقطع، يعلن يسوع تهديداً جديدًا لحافظي شريعة عصره: «إِنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسيِّينَ على كُرسِيِّ موسى جالِسون، فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم واحفَظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون: يَحزِمونَ أَحمالاً ثَقيلَة ويُلقونَها على أَكتافِ النَّاس، ولكِنَّهم يَأبَونَ تَحريكَها بِطَرَفِ الإصبَع» (مت 23: 2- 5). فقد سعى موسى إلى إعطاء الشعب قانونًا يهدف إلى ولادة شعب ينتمي للرّب ويشرق فيه نور العدل. فالقانون وسيلة تستخدم كمنارة ومعيار لللتعامل السلمي بين الأخوة وبين جميع الشعوب الأخرى. وبمجرد أن أصبحت الشريعة حكراً على فئة الكتبة والفريسيين. باحتكارهم هذا، نجد إنّهم اختزلوها إلى مجرد وسيلة للسيطرة على الشعب، مما خلق حالات خطيرة للغاية من الظلم دائمًا أفعالهم سواء الحسنة أم السيئة، ومع الأسف باسم الله.

 

الجديد الّذي تحمله رسالة يسوع اليّوم، قد يوجه لمسئولي الكنيسة الجالسين على كراسي المسئولية: بطاركة، أساقفة، كهنة، راهبات، علمانيين، خدام، مربيين بالأنشطة الرعويّة، ... أيّ ليّ ولك! لا يوجد مكان في جماعة يسوع منطق لهذا النوع من السلطات الفاسدة الّتي تنغلق على ذاتها. لا وجود لفئات الكراسي وأصحاب السلطات والعلماء الّذين يحتكرون كرسي بطريرطي أو أسقفي أو تعليم كتابي بالجامعات مثلنا أو مّن يعيش الكهنوت بعظمة فارضًا على من يقع تحت يديه عبء سلطته. وعلى هذا المنوال لا وجود لفئة عامة الشعب الّتي يتوجب عليها الطاعة فقط، نفس طريقة تعامل الجثث الميتة الّتي بلا إرادة! علينا بالإستيقاظ من نومنا النرجسي والّذي به نغلق بذاوتنا باب الأبدية أمامنا. هذا ما يفعله الّذي يحتكر دوره داخل المؤسسات الدينية بشكل إناني ومنفتح فقط على ذاته وليس على الله أو على المخدومين.

 

لقد ولدت جماعة يسوع في خدمة الإنسان ولفتح مساحات للملكوت، أي لطريقة إنارة كلّ آخر لحضور الله الحي في التاريخ، ونقل محبته للجميع. لا نحتاج كتلاميذ يسوع اليّوم أنّ نُعلن أنفسنا أسيادًا وأصحاب كراسي عريقة، بقدر ما نشهد بحياتنا الأخويّة فنصير إخوة شهود لهذا الحب. كما هو الحال دائمًا، يطلب منا يسوع في هذا المقطع الإنجيلي أنّ نتخذ موقفًا: هل نحن مّن نطلب مكانًا على كرسي ما للحصول على القليل أو الكثير مِن السلطة، أم نعمل من أجل خير الإنسان من خلال نقل محبة الآب التي تصبح خدمة؟ هل يسعى كلّاً منًا بالأنا الّذاتية أنّ يضع ذاته في المركز ساعيًا لمركز مرموق داهسًا من بجواره ليعلو عليه؟ هل الأنا الّذاتية المنتفحة بحبها الخالص فقط لذاتها تسعى أن تكون المركز مستغلة مَن حولها دون إحترام لحقوقهم؟

 

 

4. التواضع والأنا! (مت 23: 5- 12)

 

هذين اللفظين: "التواضع" و "الأنا" قد يتناقضان وقد يتوازيان، هذا يعتمد على يقظة تهذيب الأنا اليومي، من كل مسيحي بممارسته للتواضع. سيتناقضان، حينما نتحدث كثيراً عن التواضع وأعمالنا لا تتوافق مع أقوالنا، وهنا الرياء والنفاق يأخذ مجالاً بحياتنا ولا نتبع بارادتنا منظق الملكوت. فتصير رسالة الرّبّ بالعهدين ليس فقط للكهنة أو للفريسيين أو للكتبة بل ليّ ولك.

 

يتوازيان هذين اللفظين حينما نفحص يوميًا ذاوتنا ونتسأل على ضوء كلمات اليوم: أين أنا من نعمة التواضع؟ لذا تأتي كلمات يسوع الختاميّة لتوقظنا من غفلة النرجسيّة مشجعُا إيانا، بتحذيره، لفتح باب الملكوت قائلاً: «لْيَكُنْ أَكبرُكُم خادِماً لَكم. فمَن رَفَعَ نَفَسَه وُضِع، ومن وَضَع نَفسَه رُفِع» (مت 23: 11- 12).

 

 

الخلّاصة

 

رسالة نصي العهدين اليّوم قويّة وتحارب بقوة الكهنة وأصحاب الكراسي، منشطي الخدمات النيسة تحت شعار "الخدمة" وهم يتعاملون بفساد وإنحراف عن رسالتهم وكلمة الله. ليس الكلّ بالطبع فهناك القليلين الأمناء. ومع ذلك يأتي صوت الرب بحسب ملاخي وصوت يسوع بحسب متّى، مهددين حبًا بنا. يعلن الصوت الإلهي إنّه لازال باب التوبة مفتوح، والبدء من جديد حياة تتناسب مع حقيقة الله دون نرجسيّة وتزييف. لذا أعطينا عنوانًا "أيها الكاهن لك أقول: ...". أتبث فيمن حولك أوّلويّة الرّبّ أم أوّلويّة الكرسي؟ لا يوجد كاهن بدون مؤمنين، فنحن في قلب الكنيسة بل وفي الأماكن الأوّلى ولكن أين قلوبنا؟ باطننا يتحد بالله أمّ نعيش حياة مزدوجة نحمل قناع التواضع أمام المجتمع الكنيسي وأمام الكرسي نضع قناع النرجسيّة؟ فلننتبه خاصة نحن وعاظ الكتاب المقدس، ونحن كاستاذ كتاب مقدس بالمقدمة، هناك كرسي يبعدنا عن التواضع وعن المكان الآخير والتمتع برّوح الخدمة الحقيقيّة، فهلا تيقظنا! دُمتنا يقظين أيّها القراء الأفاضل.