موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٧ أغسطس / آب ٢٠٢١

أعطيني لأشرب

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا
أعطيني لأشرب (محاولة لاهوتية)

أعطيني لأشرب (محاولة لاهوتية)

 

"فجاءت إمرأة سامريّة تستقي من ماء البئر، فقال لها يسوع: "أعطيني لأشرب" (يوحنا 4 : 7).

 

يعتبر الحوار في هذا النص (يوحنا 4: 1–42)، من أطول الحوارات في إنجيل يوحنا وأكثرها تأملاً. ونلاحظ قابلية السامريّة في النقاش مع المسيح بكل جرأة، مع إن الرب يسوع هو من يبدأ الحديث معها، ليطلب منها أن يشرب ماءً: "أعطيني لأشرب"، وكأنه هو المحتاج إليها. وبطلبه هذا يتغلب يسوع على ما وُجِدَ من "حواجز" العداء بين اليهود والسامريين: "لأن اليهود لا يخالطون السامريين" (يوحنا 4 : 9)..!؟، بل والأهم من هذا أنه يكسر قالب "التحيّز" ضد المرأة والنظرة إلى تلك النفس الخاطئة .. وكأنه يشير في هذه الجملة: "أعطيني ما لديكِ، أفتحي قلبكِ وأعطيني ما أنتِ عليه". فنراه كمَن يشحذ (يتسوّل)...! وهو واهب الحياة، ليعطينا وليعطي لهذه المرأة "ماءً حيّاً". فهل يا ترى نعيش حقيقة رسالة المسيح المخلص، في عروسته الكنيسة...!؟ وهل كنيستنا اليوم تنحني بحب على حقيقة الإنسان، وما الذي تشحذه منه ومن نفسه المهلهلة...!؟

 

عطش يسوع .. عطش للحب

 

عند موضع بئر يعقوب، هناك دهشة وتبادل أدوار: يسوع يطلب أن يشرب ولكنه هو الذي يعطينا لنشرب..! أتينا مع -السامريّة- لنشرب لنجد أن يسوع يتسوّل منّا..! أي أن هناك: (عطش إلهي لخلاصنا / عطش قلوبنا إلى الله). فبقدر ما كان عطشنا كبيراً، فإن عطش يسوع كان أكبر. نشعر بأن يسوع فَهِمَ عطشنا، ضعفنا، ظلامنا الأشد عمقاً، وأنه يتعطش للبحث عنّا والأتصال بمكنونات نفسنا. رغبته تشير إلى عطش آخر: "لو كنتِ تعرفين عطيّة الله، ومن هو الذي يقول لكِ أعطيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماء الحياة" ( يوحنا 4 : 10). هنا ينطفئ عطش يسوع ليعلن عن "ذاته" بأنه هو نبع الماء الحي، وليفتح لنا باب عطيّة المحبة وهبة الروح القدس: "مَن كان عطشاناً فليأتِ، ومن شاء فليأخذ ماء الحياة مجاناً" (رؤيا يوحنا 22 : 17). أنه عطش تسليم الروح ونقله للآخرين، أي إننا مدعوين لدمج حياتنا بحياته. نخرج من ذواتنا، عزلتنا، تشتتنا، إنحرافاتنا، ونرتوي "في" المسيح "مع" عطشه على الصليب: "أنا عطشان" (يوحنا 19 : 28). عطشه هو عطش للحب .. حبه لنا وبكل ما فينا: ضعفنا وقلقنا، فقرنا وجراحنا، أقنعتنا وأساليبنا. وعطشنا هو الإيمان بيسوع، والشرب هو المجئ إلى يسوع. ولكن حالما نصرف النظر عن هذا العطش، ستبدأ رحلة الموت فينا .. فترانا نفقد اليوم جذورنا ومحبتنا وأصالتنا وإيماننا، بل للأسف فقدنا طعم الحياة. فبتنا تائهين في فراغ المتاهة، لنتبع وقعات خطانا الفردية، وبالتالي نصغي إلى صوت العالم وإستهلاكات سعادته الزائفة. وهذا ما يدّعيه البعض منا إلى إضفاء الطابع الطبي لرحلة الموت هذه، معتبرينه مرضاً يجب معالجته من الناحية النفسية..! بينما يدعونا الرب يسوع: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والرازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم" (متى 11 : 28)، ليحرر - من خلال عطشه - الطاقات الكامنة فينا لنعيش الحب ونصنع السلام.

 

 

سلطة المسيح هي تقدمة ذاته

 

إن العقبة الكبيرة أمام حياة الله فينا هي القساوة والتصلب، التكبر والإنعزال، تبرير الذات وحب السلطة. فالكنيسة اليوم لا يجب أن تنعزل في برجها العاجيّ، بل أن تنحني أمام حقيقة الإنسان بكل حب وتواضع. أن تبادر بالإصغاء على خطى يسوع الذي علمنا أن نقدم العطش والصمت والتخلي كصلاة. من أجل اللقاء مع تلك الروح الجافة - المتمثلة بتلك المرأة وبإنساننا اليوم - ليفتح قلوبنا: "طلب شرابًا .. ليضئ عطشنا". وهذا الطلب البسيط من يسوع / الكنيسة هو بداية حوار صريح للولوج إلى الحياة الداخلية لكل واحد منا. وعندها ستنبثق عدة أسئلة عميقة نحملها ولكن غالبًا ما نتجاهلها أو نتخوف من طرحها. ولكن يسوع يبادر ويفعل ولا يخاف، يمضي قدماً لأنه يحب، يحبنا جميعاً دون تردد أو تحيّز. لا يحكم علينا ولكن يجعلنا نشعر بأننا نستحق التقدير والخلاص، وبالتالي يثير فينا الرغبة في تجاوز مكامن الظلام في نفوسنا وفي نمط سلوكنا اليومي. وهنا تتوضح وتستمد سلطة الكنيسة من سلطة المسيح لتقدمة ذاته / ذاتها، على صورته: "لأننا رعاة .. ولسنا أسياد".

 

يسوع شديد الرحمة، لذلك لم يخاف من مخاطبة المرأة السامرية: الرحمة أعظم من التحيّز، وعلينا أن نتعلم هذا جيدًا. فكانت نتيجة هذا اللقاء عند عتبة البئر، تحوّل الخطة: "وتركت المرأة جرتها ورجعت إلى المدينة" (الآية 28)، والتي جاءت بها لسحب الماء، فتعود لتخبر الناس عن تجربتها الغير عادية: "تعالوا أنظروا رجلاً ذكر لي كل ما عملت، فهل يكون هو المسيح!" (الآية 29). فها هو المسيح يسعى وراء هذه السامرية المهمشة ليحوّلها إلى كارزة. وهكذا يسعى الله وراء كل نفس خاطئة ليجددها. عندما نترك جرة الماء الخاصة بنا (رمزاً لكل شئ يبدو مهماً)، والتي تثقلنا وتبعدنا عن "محبة الله". وهكذا فإن كل لقاء مع يسوع -وعروسته- يكشف حقيقتنا ويغيّر حياتنا، عندما نسمع صوته وهو يقدم لنا نوعاً آخر من الماء، ماء الرحمة الحيّ الذي تنبع منه الحياة الأبدية. فالكنيسة مدعوة لإعادة أكتشاف أهمية حياتنا المسيحية من خلال فرح اللقاء مع يسوع. أنها خطوة إلى الأمام، خطوة أقرب إلى الله، عندما نخبر عن الأشياء الرائعة التي يفعلها الله في قلوبنا .. عندما نترك جرة الماء الخاصة بنا جانباً.