موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمة
الكلمة الإلهيّة نور بين العهديّن، فهذا ما أكتشفه من خلال جمال الدراسة والتعمق في هذه السلسلة الكتابيّة الّتي ننمو بها مكتشفين الكثير من الأنوار والرسائل الإلهيّة الّتي لا تنقطع بفضل الكتب المقدسة. سنلتقي بالعهد الأوّل مع رسالة كاتب سفر الحكمة اليّوم (6: 12-16) عميقة في دعوته للقاء فتاة تستمر شابة بالرغم من الوقت والزمن إلّا أن من يرغبها يفاجأ بأنه لا يتمكن من الإستغناء عنها. أمّا بالعهد الثاني سنتوقف أمام مثل شهير بحسب إنجيل متّى (25: 1-13)، حيث يدعونا إلى الدخول في أفق التاريخ والعيش في الزمن الإلهي من خلال إهتيارنا الحكيم أمّ الجاهل! وهنا عامل الزمن المسيحي وهو زمن يسكنه الانتظار، ويهدف إلى اللقاء. وهذا يجعل نوعية وقت الإنتظار يختلف. يدعونا كلا النصيين إلى التمتع بحمل شيئين لا يمكن أن يحملهما أي آخر بدلاً عنك.
مُلاقاة فتاة الحكمة (حك 6: 12- 16)
يُذكرنا مقطع العهد الأوّل إلى قول لّاهوتي في الدراسات الكتابيّة، وهو جون فون راد القائل بأن الكتب الحكميّة في الكتابات اليهوديّة المسيحيّة تظهر لنا إسرائيل أمام أدوناي، إيّ الإنسان أمام إلهه. وهذا الشكل من الكلمة البشرية افترضته كلمة الله أيضًا لتكون قادرة على التواصل إلى الإنسانية. إنّ تجاوب الإنسان مع الله الّذي يتصرف ويتكلم متخذاً شكل الحكيم. ففي سفر المزامير "البطل" هو الكلمة الّتي استجاب بها إسرائيل لإلهه بالتوجه إليه في الصلاة، أو بالترنم بأعماله، أو بالصراخ في موقف الاختبار. لكن في كتب الحكمة الأخرى، الحياة هي البطل! إن حياة إسرائيل تصير بمثابة إستجابة الشعب لإلههم.
لذا سنتوقف في الكتب الحكميّ على الحِكمة تأتي لِمُلاقاةِ الإنسان، ففي هذه الآيات القليلة يصف الكاتب الحكمة بالفتاة الّتي تصير فرحة لـمَن يجدها، هذا هو اللقاء الّذي يغير حياة الإنسان ويجعل حياة الرجل تتحقق معها بالكامل: «الحِكمةُ ساطِعةٌ لا تَذبُل تَسهُلُ مُشاهَدَتُها على الَّذين يْحِبَونَها وَيهتَدي إِلَيها الَّذينَ يَلتَمِسونَها تَسبِقُ فتُعَرِّفُ نَفْسَها إِلى الَّذين يَرغَبون فيها. ومَن بَكَّر َفي طَلَبِها لا يَتعَب لأنّه يَجِدُها جالِسةً عِندَ بابه» (6: 12-14). تُعاون وتتنتظر، السيدة الحكمة، مَن يرغب في الإرتباط بها إذ ينمو في علاقته بالله وبالآخرين. هذا يصير نوع من تجاوب المؤمن لله في معايشته للحياة. أما الأحمق، لا يرتبط بهذه الفتاة ولا يرغب في التعّرف عليها، فهو إنسان ينكر الله والإنسان معًا. فوجوده ليس في الامتلاء، بل يتجه نحو الانغلاق والتعاسة. لذا يختم لكاتب هذا المقطع مشيراً إلى تفاعل الحكمة الّتي تأتي لملاقاة مَن يرغبها: «لأَنَّ الَّذينَ أَهلٌ لَها هي الَّتي تَجولُ في طَلَبِهم وفي سُبُلِهم تَظهَرُ لَهم بِعَطْف وفي كُل خاطِرٍ يَخطر لَهم تأتي لِمُلاقاتِهما» (6: 16). مما يدل على إمكانية الوصول إليها ليست بعيدة وليست أيضًا مستحيلة بالنسبة للشخصيّة البشريّة الّتي ترغب فيها حقًا. ومن هنا تأتي دعوة كاتب النص الحكميّ الواضحة لكلًا منا كيف في كلماته إلى قراءة العلاقة بين هذا الإعلان عن حكمتين الأوّلى قريبة والأخرى مُتاحة. يشدد هذا النص على أنّ الحكمة نفسها هي الّتي تبحث عن أولئك الّذين يرغبون فيها وتجد نفسها. إذن عامل الرغبة في نوال نعمة الحكمة لابد منه من قب الشخصية البشريّة. وهذا ما سنتعمق فيه، بشكل آخر، من خلال تعليم يسوع بالأمثال.
الزمن أمّ الوقت؟ (مت 25: 1-13)
يرشدنا المقطع المأخوذ من سفر الحكمة، إلى قراءة مثل العذارى العشر الّذي رواه يسوع بحسب إنجيل متى، الّذي سنفتتح في هذا المقال، الإصحاح الخامس والعشرون بحسب اللّاهوت المتاويّ (25: 1-13) وسيستمر هذا الإصحاح في مرافقتنا في سلسلة مقالاتنا حتّى بدء زمن المجئ الّذي يهيئنا لميلاد الرّبّ. إنّ هذا المقطع بحسب إنجيل متّى يستنير بخاصية هامة وهي الحكمة الكتابيّة. هنا أيضًا نتحدث عن الحكمة وما يناقضها أيّ الجهالة، وهنا بطل السياق المتاويّ هو الزمن الحياتي! يُشبه يسوع ملكوت السموات بعُرس. هناك عشر عذارى يمثلن العروس، وهناك عريس متأخر في حضور عرسه. ينظر الإنجيلي إلى الجماعة الّتي يُدّون إليها بشارته وهي بمثابة الكنيسة-العروس الّتي تنتظر العريس الّذي تأخر في المجئ وتعيش هذه العروس زمن الانتظار.بأي رّوح تنتظر؟ هل إستعدادها يفتر بسبب تأخر غريسها أمّ لاتزال تنتظر بلهفة وإشتياق حبي عميق؟ هل ثقتها وإيمانها بعريسها لايزال منتعش أمّ تهمل مشاعر قلبها وتنسى إنها العروس المرغوبة؟
مصباح الزيت (25: 12-13)
قد يدهشنا ردّ العريس القائل: «“الحَقَّ أَقولُ لَكُنَّ: إِنِّي لا أَعرِفُكُنَّ!” فَاسهَروا إِذاً، لأَنَّكم لا تَعلَمونَ اليومَ ولا السَّاعة» (25: 12- 13) وبعيدًا عن الإشارة إلى المجئ الثاني دون أنّ نجعل الأمر مشكلة بتحويل إنتباهنا عن واقع "هنا والآن". يصرّ يسوع على حقيقة ذات أهميّة خاصة وهي أنّ أولئك الّذين يتبعونه، ككنيسة أي عروسه، يعيشون دائمًا برّوح اليقظة أيّ في حالة يقظة مستمرة، منتبهه لأصغر إشارة لوجوده. لهذا السبب من الضروري أنّ تحافظ العروس المحبوبة على مصباحها الـمُزوّد بزيت الإيمان. علينا بالإنتباه، ليس لزيت التديّن الزائف بل بحقيقة إيماننا الّذي تحمله قلوبنا، الّذي يكون أصيلًا فقط عندما يتم إعلانه، ويتشكل بواسطة المحبة الملموسة، اليومية، والغير المرئية، الّتي لا تعطي مجدًا أو تكريمًا، ولكنها تدرك حقيقة التعرف على العريس الغير المرئي. وهكذا تصبح كل حقيقة بسيطة kairòs، وهو المكانً اللّاهوتي للإعتراف بحضور العريس الإلهي. إذا كان الزيت الموجود في مصابيحنا يزداد بالمشاركة الدؤوبة في جميع الصلوات الممكنة. جهلنا بحقيقة العريس الإلهي لا يعطي نكهة ولا لون للحب، فهو الزيت الّذي ينقصنا بل سيوخرنا في الوصول إلى الوليمة، عند إنعماسنا في يجهلنا سنخاطر بسماع: "يا... أنا لا أعرفك". لذلك فإن السهر يعني البقاء حذرين للغاية للتأكد من أنّ زيتنا أصلي ولدينا آنية أخرى باطنية نجل فيها من الحكمة الّتي تجعلنا ننتظر مهما تأخر العريس. ومصدر إنتظارنا هو حب العريس يجعلنا تستمر في جعل السائل الثمين يتدفق إلى مصابيحنا مما سيسمح لنا بالتعرف على العريس حتى في لحظات الحياة المظلمة والمشاركة معه في وليمة الحياة.
إنتظار العروس (مت 25)
ففي هذا النص ترمز الكنيسة، الّتي هي أنا وأنت، بالعُروس الّتي تنتظر عريسها من خلال رمزيّة شخصيات العذارى العشر. نحن مدعوين ككنيسة شابة وعروس، للتأمل في طريقة عيشنا في تاريخنا البشري، بالإستمرار في التمتع بحالة شبابية قلبيًا وإنتظارنا لعريس كلّ نفس بشريّة ليس كعبء بقدر ما هو إشتياق وإنتظار حقيقي. يمكننا الإنتظار في الزمن التاريخي كجهلاء أو كحكماء. الجهل والحكمة، ما هما سوى طُرق كتابيّة نموذجية لوصف الحياة البشرية من خلال تقديم إمكانية وجود طريقيّن للتقدم للأمام، وهذا يعتمد علينا وعلى إختيار الطريق المناسب لنا. وفي هذه الآيات يُقارن الإنجيلي بين الشخصية الجاهلة والأخرى الحكيمة، كما قارن سابقًا بين رجلين يبنيان بيتهما، واحد على الرمل والآخر على الصخر (راج مت 7: 21- 28). وأدركنا أنّ الحكيم هو مَن يبني على الصخر، أيّ مَن يسمع كلمة الله ويعمل بها. أمّا في هذا المثل العشر فتيات، خمس منهن وهي اللاواتي حملن الزيت الإضافي بخلاف الزيت بمصابيحهن وأطلق عليهم يسوع بالمثل الحكيمات، بينما هناك خمس فتيات أخريات وهن الجاهلات وقد آخذن معهن المصابيح فقط.
آنيّة الحكمة (مت 25: 3-5)
ينقسمن العذارى إلى خمس حكيمات يتمتعن بالفطنة، وخمس جاهلات، يمكننا أنّ نقول مجنونات. ما الّذي يميز الحكيمات عن الجاهلات؟ كنّ جميعهن ينتظرن العريس، وإذ أضحى ليلاً فنمن جميعهن بينما كنّ في حالة إنتظار للعريس الّذي لأسباب غير واضحة تأخر في المجئ. إذ فجأة وعند منتصف الليل، تمّ إعلان صرخة قدوم العريس، استيقظن الفتيات من نومهن وأشعلن مصابيحهن. هناك فارق واحد الذّي كشف حقيقة ما بقلوب الفتيات العشر: «فأَخذَنِ الجاهِلاتُ مَصابيحَهُنَّ ولَم يَأخُذنَ معَهُنَّ زَيتاً. وأَمَّا العاقِلات، فَأَخَذنَ معَ مَصابيحِهِنَّ زَيتاً في آنِية» (مت 25: 3-4). هذا هو ما يصنع الفرق، هنا تكمن حكمة الحكيمات وجهل الحمقاوات. الفتاة الجاهلة كالرجل الّذي بنى بيته على الرمل. فهو الّذي لا يسمع لكلمات الإنجيل ولا يعمل بها. وللمرة الثانية، يكشف يسوع عن الرغبة في التمتع بفضيلة الحكمة أو برذيلة الجهل.
تكمن حكمة العذارى الخمس اللاواتي حملن الزيت معهن في أواني خارجية. فهذا الزيت الّذي وضعنه الفتيات الحكيمات في أواني خارجية هو نموذج لـمَن يعرف كيف يعيش زمن انتظار العريس حينما يتأخر في مجيئه.لم يستطعن الحكيمات أنّ يعطيّن زيتهن للفتيات الأخريات لأنهن إدركن إنّه لنّ يتمكن أحد أنّ يحلّ محلّ الآخر في الإتباع اليقظ للإنجيل. هناك بعض الأشياء المهمة في الحياة الّتي لا يمكن استبدالنا فيها بشئ آخر، لابد من القيام بأنفسنا بها ولا يمكن لأحد أن يحلّ محلنا، لابد أنّ يهتم كلّا منا بذاته للدخول لوليمة العرس بفطنة القلب ويقظة الفكر.
قد يدفعنا هذا النص للتوقف أمام قيمة العهد العُرسي من خلال إدراك الفرق بين الجهل والحكمة الّذي لا يكمن في عدد الفتيات المنتظرات للعريس، بل في نوعيّة حبهم له وإستعداههم اليقظ لمجيئه. في نهاية المطاف، يحملن هؤلائي الفتيات العشر جميعًا شيئًا ما، المصابيح المليئة بزيت الحب وهو ما يدل على إيمانهم بوصول العريس ورغبته كلاً منهن في الإتحاد به. كحال الرجلين في حالة البنيان (راج مت 7: 21- 28)، لكن هناك شيئًا ما يصنع الفارق بين أولئك الّلاواتي يحملن الزيت وأولئك الّلاواتي ينسونه، وهو ذاته السبب الفارق بين الرجل الحكيم الّذي بنى بيته على الصخر والآخر الّذي بنى بيته على الرمال. في النهاية، يدعونا النص الإنجيلي لطرح تسّاؤل ما على أنفسنا وتحديدًا عن هذا الفرق بين الحكمة والجهل في حياتي اليّوم؟ وما يتكون منه فعليًا في طريقة انتظاري الشخصي للقاء العريس الّذي قد يصل في منتصف الليل أم في أوّل اليّوم. هذا يعتمد فقط على التمتع بالحكمة أمّ بالجهل الشخصيين.
الخلّاصة
سعينا في مقالنا هذا من خلال كلمات الحكيم (حك 6: 12- 16)، وكلمات يسوع المعلم في مثل العشر عذارى (مت 25: 1- 13) للبحث عن حكمة القلب وحمل المصباح وآنيّة الإيمان اليوميّ. قضى تلاميذ يسوع ساعات الآمه ووقت السهر معه في البستان (راج مت 26: 38) والصلاة حتى لا تعوقهم التجربة عن الطريق الّذي إتبعه معلمهم. بالنسبة لكنيسة متّى الإنجيلي ولكنيسة عصرنا، سيعني ذلك المرور عبر تاريخ البشرية، ووضع زيت أمانتنا النشطة في أوعية صغيرة أثناء إنتظارنا لعريس القلب المتأخر. وهكذا تصبح الوليمة الإلهيّة وهي برمز العرس الإلهي مع البشري، حياة الله هي الّتي تأخذ دور البطولة، ومكان استجابة الإنسان لإلهه في الأمانة المتعبة واليومية لله، ويكافح الإنسان في العيش بحسب الحكمة وليس الجهل. وإدراك إنه لا يستطيع أيّ آخر أنّ يحل محله، وأنّ يكون له من الجرأة أنّ يحمل زيتًا غضافيًا في آنية أخرى دون أنّ يعطني زيته لئلا ينتهي مصباحه من الزيت الحبي والإيماني النابع من حكمته. لذا تشتغل يقظة حكمته حينما يرتفع الصراخ في قلب الليل مُعلنا عن وصول عريس النفس البشريّة "ها هو العريس". ففي هذا الوقت يشتعل مصباح حكيم القلب ويدخل معه إلى وليمة العُرس، حيث لن تكون هناك حاجة لنور الشمس ولا المصابيح لأنّ النّور الإلهي سينير بشكل أبدي ويصير مصباحًا. عندها ستكون حياة الله هي حياة كل نفس بشريّة. دُمتم، أيها القراء الأفاضل، متمتعين بحكمة القلب وحمل أنيّة الزيت الإيماني يوميًا.