موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 1965 وفي بازيليكا القديس بطرس بالفاتيكان، شهد العالم تاريخًا مفصليًا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فبعد أربع سنوات من النقاشات العميقة خلال أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني -الذي يُعدّ بلا شكّ أهم اجتماع كنسي في القرن العشرين- تم التصويت على وثيقة بالغة الأهمية، وهي وثيقة العلاقات مع الديانات غير المسيحية وسميت "في عصرنا" أو بالأصل اللاتيني Nostra Aetate.
الجميل في الأمر أن هذه الوثيقة لم تكن مجرد نص لاهوتي، بل ثمرة مسيرة فكرية وروحية طويلة، وقد حظيت بموافقة ساحقة، إذ صوّت لصالحها 2221 من ضمن 2309 من الآباء المشاركين في المجمع. وبعد أسبوع واحد فقط، قام البابا بولس السادس بالتوقيع عليها رسميًا في الثامن من كانون الأول من العام نفسه، لتصبح إحدى أبرز ثمار المجمع.
واليوم، ونحن نُحيي الذكرى الستين لهذه الوثيقة التاريخية، نستحضر ما أحدثته من تحوّل عميق في نظرة الكنيسة إلى الآخر، إذ فتحت أبواب الحوار على مصراعيها بين المسيحيين وغير المسيحيين في العالم. وفي سياقنا العربي، كان لهذه الوثيقة أثر خاص، إذ شكّلت نقطة الانطلاق الرسمية للحوار المسيحي-الإسلامي، الذي ما زال حتى اليوم يشكّل جسرًا من الاحترام المتبادل والتعاون الإنساني والإيماني بين أبناء الديانتين.
كان المخطّط في البداية أن تقتصر الوثيقة على العلاقة بين الكنيسة واليهود. لكن إذا عدنا عامًا إلى الوراء، أي إلى عام 1964، نرى حدثًا مهمًا لتوسيع أفق هذه الوثيقة. ففي ذلك العام، حطّت طائرة البابا بولس السادس، كأول طائرة بابوية تخرج من حدود إيطاليا، في مطار ماركا، ليكون الأردن أول بلد يستقبل قداسة الحبر الأعظم خارج أسوار إيطاليا. وقد استقبله جلالة الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، ثم ألتقى خلال زيارته التي دامت ثلاثة أيام بالعديد من الشخصيات في الأردن وفلسطين.
ويُقال، بحسب الكثير من المتابعين، إنّ زيارة الأردن وفلسطين شكّلت دافعًا قويًا للبابا بولس السادس لتوسيع أفاق الوثيقة في المجمع المسكوني، بحيث لا تقتصر على العلاقة مع الديانة اليهودية فحسب، بل تشمل أيضًا أتباع الديانة الإسلامية وسائر التقاليد الدينية الأخرى. ومنذ ذلك التاريخ، يمكن القول إنّ الحوار المسيحي-الإسلامي قد بدأ نشاطاته رسميًا.
ومن هذا المنطلق، عقد المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام قبل أيام ندوة هامة بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في مادبا، بحضور بطريرك القدس نيافة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، عضو دائرة الحوار بين الأديان في الفاتيكان، وفضيلة الدكتور أحمد الخلايلة، إمام الحضرة الهاشمية. واستذكر المشاركون، بحضور عدد من الشخصيات الدينية المسيحية والإسلامية، أهمية هذه الوثيقة التاريخية، وأهمية النشاطات والمبادرات التي أُقيمت خلال العقود الستة الماضية على صعيد الحوار بين الأديان، وبالأخص بين المسلمين والمسيحيين.
ونؤكد هنا أنّ هنالك لحظات تاريخية لا تُنسى، ومن أبرزها الإعلان عن انفتاح أتباع الأديان بعضهم على بعض من أجل الحوار. فالحوار ليس فكريًا فحسب، بل هو أيضًا حوار حياة، متجذّر في الفطرة الإنسانية، خصوصًا في بلدان مثل الأردن وبلاد الشام، حيث يعيش المسيحيون والمسلمون جنبًا إلى جنب، يبنون معًا حضارتهم ومجتمعاتهم، ويعملون من أجل التنمية الشاملة للإنسان في أوطانهم العزيزة.
لقد كان الأردن من الدول السباقة في احتضان ندوات وجلسات الحوار الديني الفكري، لا سيّما في ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأت اللقاءات مع مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي، ثم مع المعهد الملكي للدراسات الدينية، لتنظيم لقاءات سنوية مع الفاتيكان بهدف تعزيز القيم المشتركة بين المسيحية والإسلام. وتطوّرت هذه المبادرات مع تبوّء جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين العرش الهاشمي، حيث شهد عهده إطلاق مبادرات عالمية رائدة مثل رسالة عمّان، وكلمة سواء، وأسبوع الوئام العالمي بين الأديان، وهي محطات استذكرها المشاركون في ندوة الجامعة الأمريكية.
وفي الختام، نذكّر القراء الأعزاء بما جاء في تلك الوثيقة قبل ستين عامًا، وبما استشهد به البابا لاون في أول لقاء له مع القيادات الدينية غير المسيحية، ومن بينهم عدد كبير من المسلمين، حين قال: "أستذكر وثيقة ’في عصرنا‘ التي فتحت أبواب الحوار وجاء فيها: «أمّا العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والمسلمين، فقد تميّزت بالتزام متزايد من أجل الحوار والأخوّة، مدفوعًا بالتّقدير للإخوة والأخوات "الذين يعبدون الإله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحيم القدير، خالق السّماء والأرض، الذي تكلّم إلى البشر" (في عصرنا، رقم 3). هذا النّهج، المبني على الاحترام المتبادل وحريّة الضّمير، يُشكِّل أساسًا متينًا لبناء الجسور بين جماعاتنا»".
إنّ الحوار الإسلامي-المسيحي اليوم بخير، وهو مرشّح لمزيد من الأنشطة والفعاليات، خصوصًا حول التعاون ما بين المسلمين والمسيحيين في مجالات العدالة والسلام، والهجرة، والبيئة، وغيرها من القضايا ذات الاهتمام المشترك، والتي تتطلّب تعاونًا صادقًا وبحثًا مشتركًا عن حلول إنسانية حقيقية تخدم الأسرة البشرية الواحدة.