موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
من الهند جاء إدراج «أم الجمال» على لائحة التراث العالمي بحسب منظمة الأمم المتحدة اليونيسكو، وهذا ليس بغريب عن تاريخ أم الجمال، ذلك بأنّها كانت مركزًا أساسيًّا لاستراحة القوافل –ومن هنا أتت تسمية «أم الجمال»- القادمين من الشرق إلى بلاد الشام والغرب، مرورًا بمدينة البتراء، ومنها كانت قوافل كثيرة تأتي من الهند التي أعلن منها الإعلان السار قبل أيام.
ومن هنا، عندما نتحدّث بفخر عن هذه المدينة الأثريّة الساحرة، فإنّنا نتحدّث عن تاريخ عابق بالحضارات التي مرّت على هذا المكان، ومنها طبعًا المملكة النبطيّة التي اشتهرت بآبار المياه المتقنة، ثمّ مملكة الرومان الذين أسموها «المقاطعة العربيّة» وفيها كان اسم الجمال «كانثا» وتم ادراجها ضمن المدن العشر المسماة ديكابوليس. ولكن فخر أم الجمال في كونها مكانًا بنيت فيه 15 كنيسة بدءًا من القرون الأولى للمسيحيّة، وذلك بأنّ عشرات الألوف من البشر والقوافل كانت تمرّ بها، وتحطّ الرحال بها، ولذلك كان على السلطة الكنسيّة أن تهتمّ اهتمامًا موصولاً بالمسيحيين الوافدين إلى المدينة، فبنت لهم الكنائس وقدّمت لهم خدماتها الروحية.
ويذكر كتاب «الآثار المسيحيّة في الأردن» للمطران سليم الصائغ أطال الله بعمره، وهو يدخل بعد أشهر عامه التسعين، أنّه في سنة 557 جرى حدث تاريخي في مدينة أم الجمال، ألا وهو تدشين كاتدرائيّة المدينة، فجاءت الوفود المشاركة من مختلف الأبرشيات المجاورة في الأردن وسورية وفلسطين. وكانت أم الجمال آنذاك في أوج عزها ومجدها. وقد عثر في مدينة أم الجمال على خمس عشرة كنيسة وهي تدلّ على ازدهار المسيحية وأصولها العريقة، وعلى تقوى أهلها. أما أقدم كنيسة فيذكر الكتاب فهي كنيسة يوليانوس التي تعود إلى سنة 345 للميلاد، وقد يكون هذا الإسم إسم المهندس المعماري الذي بناها، كما هي الحال بالنسبة لكنيستي كلوديانوس وماسيشوس، أو اسم المحسن الذي تبرع ببنائها.
وفي العصر البيزنطي تحوّلت الثكنة العسكرية إلى دير وهي تسمى اليوم «الدير»، وتشير إلى ذلك الكتابة التي عثر عليها على دائر البرج في الزاوية الجنوبيّة الشرقيّة منه. وللبرج ستة أدوار يبلغ ارتفاعه ستة عشر مترًا، وتبرز منه شرفة فوق كل جهة من جهاته الأربع كتب عليها اسم أحد رؤساء الملائكة: جبرائيل وميخائيل وروفائيل. ومن أبرز كنائسها، الكنيسة الغربية الواقعة على مقربة من بوابة كومودوس، ويبلغ طول مدخلها الرئيسي حوالي أربعة وعشرين مترًا، ويبلغ صحنها حوالي اثنين وعشرين مترًا وعرضه ستة عشر مترًا، وبجوار الهيكل قوسان نقش عليهما صليبان، ويحيط بالكنيسة رواقان من الشمال ومن الجنوب، وبين صحن الكنيسة والأروقة صفان من الأقواس. وأما بقية الكنائس فبعضها يتخذ شكل قاعة كبيرة وبعضها يحوي صحنًا في الوسط تفصله عن الأروقة الجانبية أقواس قائمة على قواعد. ومن الجدير بالذكر أنّه وابّان العصر الأموي، لم ينقطع بناء الكنائس في أم الجمال، بل استمر، كعلامة على الشراكة الإنسانية والتقبل المتبادل بين الديانتين المسيحية والإسلام.
وفي عام 2018، أذكر بأنّنا أقمنا قداسًا حاشدًا حضره قرابة الألف شخص، وكان إيذانًا بتدشين العهد الجميل والجديد من هذه المدينة التي استقبلت، في العام نفسه، العديد من الرؤساء الروحيين، مثل البطريرك بشارة الراعي، الذي أقام صلاة فيها. وهنا نذكر بعرفان جميل الجهود التي تبذلها وزارة السياحة والآثار، وهيئة تنشيط السياحة، وبلدية أم الجمال التي نال رئيس بلديّتها حسن الرحيبة في السابق جائزة في نيويورك كأنشط رئيس بلديّة في العالم.
كلنا فخر بهذه الإنجازات المتتاليّة لسياحتنا الدينية العزيزة، وبأنّ تنضم أم الجمال إلى لائحة التراث العالمي، إلى جوار ست شقيقات لها، أعلنت في الماضي، وكان آخرها السلط، وقبل ذلك البتراء وقصر عمرة وأم الرصاص ووادي رم وموقع المعموديّة (المغطس). هذه جهود كبيرة تبذل، ونأمل من العليّ القدير أن يشيع أجواء الأمن والإستقرار لتعود السياحة إلى الإزدهار، تمامًا كما كانت في العصور الأولى، وفي بداية تأسيس أم الجمال، فتبقى مركزًا لاستراحة الحجاج القادمين من مشارق العالم ومن مغاربه، يستريحون في هذه المدينة «السمراء» بلون حجارتها، ويفخرون بتاريخها الضارب الجذور في الأعماق.