موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الخميس، ١٨ مارس / آذار ٢٠٢١
هل ستؤثر زيارة البابا فرنسيس للعراق على مستقبل شعوب الشرق الأوسط؟
 د. شارلي يعقوب أبو سعدى - بيت لحم

د. شارلي يعقوب أبو سعدى - بيت لحم

د. شارلي يعقوب أبو سعدى :

 

في زيارتي الأخيرة للعراق قبيل هذه الجائحة قابلت العديد من المهجّرين السوريين والعراقيين، وأمام مشهد الدموع التي سالت من عيني تلك الأم التي فقدت زوجها وطفلها في الحرب انتحبنا معها وأمامها. لكننا دعونا الله القدير أن يمنحها ويمنح كل المعذبين الصبر والرجاء والأمل في مستقبل أفضل. لقد جاء البابا فرنسيس إلى العراق من أجل تلك السيدة وأمثالها من البؤساء، فوقف على أنقاض الكنائس الأربعة والبيوت المدمرة في حوش البيعة وسط الموصل ورفع صوته النبوي قائلاً: "إن كان الله إله الحياة، وهو كذلك، فلا يجوز لنا أن نقتل إخوتنا باسمه. وإن كان الله إله السلام، وهو كذلك، فلا يجوز لنا أن نشنّ الحرب باسمه. وإن كان الله إله المحبة، وهو كذلك، فلا يجوز لنا أن نكره إخوتنا... ليتوقف العنف باسم الله".

 

إن ما حصل وما زال يحصل في شرقنا العربي من مأساة وقتل للإنسان ودمار شامل يُعد وصمة عار في تاريخنا الحديث. بغداد دار السلام، ودمشق الدار الواسعة التي تجمع جميع الفرقاء فيها، تخلى عنها الأشقاء وما زالت الشعوب تذبحها، وبيروت مدينة الآلهة ومدينة الشرائع إذ كانت فيها أكبر مدرسة للقانون إبان حكم الإمبراطورية الرومانية، غاب عنها القانون وقتلها ظلم أبنائها لها. والمدينة المقدسة ما زالت تدمع منذ مئات السنين وصوت النوح ما زال يُسمع على أسوارها العتيقة. ماذا حصل لك يا شرقنا العزيز؟ ولماذا سمحنا وما زلنا نسمح لأنفسنا ولغيرنا بقتل الأبرياء باسم الدين؟

 

جاء البابا فرنسيس ليشدّ على أيدينا وليلتقي بأولئك المعذبين والمهمشين والمهجرين من مختلف الأعراق والطوائف العراقية وخصوصا المسيحيين منهم. جاء ليقول لهم إن المسيح قام وانتصر على الشر، وهم بدورهم سينتصرون حتما بإيمانهم وصلاتهم وتمسكهم بكنيستهم وبإنجيلهم وبوطنهم وبانفتاحهم على كل مكونات المجتمع بالرغم من الظروف المأساوية التي يعيشونها والفساد المتفشي في بلداننا. البابا فرنسيس واع كل الوعي لما يجري في العراق والمنطقة بأسرها وكانت كل كلمة من كلماته مدروسة إلى حد كبير. فهو لم يرد أن يقول للمعذبين إن عذابهم سينتهي بعد هذه الزيارة، فالبابا ليس ساحراً وهو يدرك مختلف التناقضات التي واكبت رحلته هذه وأهمها مثلا أن بعضاً من السياسيين الذين استقبلوه كانت أيديهم ما زالت ملطخة بالدماء.

 

إن أهم ما لفت انتباهي كان تركيز البابا فرنسيس الدائم على مبدأ التوبة. في كلماته العديدة ذكر التوبة عدة مرات فقال: "جئت هنا كتائب ورسول سلام". وما أحوجنا جميعا إلى التوبة الحقيقية اليوم وليس غداً، أن يتوب السياسي على خياراته والفاسد على سرقاته. كلنا أخطأنا لكن الله يفتح لنا المجال للتوبة أي التغيير مائة وثمانين درجة. قال البابا فرنسيس: "فلتصمت آلات الحرب، ولتتوقف المصالح الحزبية والفئوية... يجب إعطاء مساحة لأولئك الذين يلتزمون بالمصالحة والصالح العام". علينا اليوم في القرن الحادي والعشرين قراءة التاريخ باسلوب منطقي حديث ومتنور فنحن أبناء اليوم ولا يجوز التركيز فقط على ما حدث من حروب باسم الدين قبل قرون من الزمن الغابر. فمن المستفيد من ذلك؟ المستفيد هو فقط الجاهل الذي يريد أن يستمر في جهله فلا يقبل الآخر المختلف عنه في الدين واللون والعرق، فيتشبث بأفكاره بأسنانه الكبيرة. ومن جهة ثانية علينا أن ندعو الله لأن يتوب قادة العالم جميعاً وخصوصاً أولئك المستعمرين الذين كانوا قد غزوا العراق، والذين يبسطون سيطرتهم بالقوة على الآخرين، فيسطون عليهم وعلى أرضهم وغلاتهم وممتلكاتهم.

 

يريد قداسة البابا من المسيحيين العراقيين والسوريين والفلسطينيين والاردنيين وغيرهم أن يبقوا في ديارهم وكنائسهم ليكونوا ملحاَ ونوراً للجميع. الملح قليل لكن مفعوله عظيم ولن يكون شرق أوسط بكامل خيره وكيانه من دون المكون المسيحي. فعلى  المسيحيين المساهمة وبكل جدية في النهوض بهذا البلد بالرغم من الشدائد والمصاعب التي من حولنا، فالاستسلام للأمر الواقع ولمواقف بعض أصحاب المصالح الضيقة وعديمي الضمير هو انتحار. وإذا أمعنا النظر فإننا سنجد أن أعداد المتنورين في مجتمعاتنا المصارعة من أجل البقاء هي أكثر بكثير من أولئك الذين يكفّرون ويرفضون غيرهم، ويرفضون أن يفتحوا عيونهم ليروا ويحبوا كل خلق الله.

 

سألني الكثيرون حول النتائج العملية المنتظرة لزيارة البابا فرنسيس للعراق. الجواب صعب جداً لكن المعجزة يعملها صاحب الدار أي العراقيون أنفسهم. الجرح فينا، وكلٌ منّا يجب أن يضمد جراحه أولاً. لقد مهّد قداسة البابا فرنسيس الطريق ليس فقط للعراقيين فقط ولكن لكل مواطن في الشرق الأوسط للمصالحة ولبناء الثقة بين الأفراد والجماعات الدينية والعرقية المختلقة. فكما يقولون الكرة الآن في ملعبنا، ودور كل واحد منّا قد أتى وتجلّى. فمن الضروري العمل الفوري على التعاضد والتكاتف والتعاون بين جميع مكونات المجتمع المحلي وتشجيع الحوار الفعّال والبنّاء ما بين الأديان، وفصل الدين عن السياسة واحترام وترسيخ مبدأ سيادة القانون وتطبيق القانون الدولي وإحقاق مبادئ وقيم حقوق الإنسان وكرامته بشكل كامل ونبذ القبلية واحترام التنوع بكل أشكاله وألوانه. فلكل مواطن الحق في الحصول على حقوقه الإنسانية على قدم المساواة وبدون تمييز، وهذا كله سيقود شعوبنا العربية إلى تحقيق العدل والوئام والسلام. كلنا اخوة لا أعداء، فنحن أبناء إبراهيم، خلقنا الله سواسية ولنا نفس الواجبات والحقوق بالرغم من اختلافاتنا العقائدية والفكرية والمجتمعية. والإيمان يتعلق بصلة الشخص بربه، وكل منا حرٌ في معتقداته وإيمانه ما دمنا نحترم ونحب الجميع، والله فقط هو المحاسب.

 

فهل نبقى إخوة متخاصمين، أم نصبح إخوة متحابين؟ إن نحن سعَيْنا سَعْيَنا واجتهدنا لنحقق الأخوة والمحبة، منحنا الله نعمته لنكون كلنا خليقته وإخوة وأبناء لإله أب واحد لجميع الناس. وأصبحت أختنا هي القاعدة المتينة للحرية والسيادة والازدهار.