موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٧ فبراير / شباط ٢٠٢٤
نحو خطوة جديّة

الأب أثناسيوس شهوان :

 

يقول المثل الشعبيُّ: «المكتوب يُقرَأ من عنوانه»، لهذا نحن نقول: «المحبَّة هي يسوع، ويسوع هو المحبَّة»، ونكمل مع ما قاله الربُّ يسوع المسيح: «ليس لأحد حبٌّ أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبَّائه» (يوحنَّا 15: 13).

 

هذا تمامًا ما فعله الربُّ معنا، فدانه بدمه الطاهر، وأحبَّنا حتَّى الموت، موت الصليب، ليميت الموت ويقيمنا معه من قبر خطايانا المميتة إلى الحياة الأبديَّة.

 

يقول يسوع لنا في كلامه، الآية أعلاه، أنَّ الحبَّ يُترجم ببذل الذات، وبالتالي الحبُّ وبذل الذات مترابطان ويسيران معًا جنبًا إلى جنب، ولا ينفصلان إطلاقًا.

 

من الناحية اللاهوتيَّة، هذا كلام أكثر من رائع، وقد برهنه لنا الربُّ بشخصه. هو أحبَّنا لأنَّنا أبناؤه، فنزل إلينا، ورفعنا إليه، كيلا نبقى ساقطين وتائهين وقابعين في ظلام جهنَّميٍّ.

 

ومن الناحية اللغويَّة، ورجوعًا إلى جذور الكلمات والأفعال وتطوُّر اللغات، وهنا جمال آخر، نجد أنَّ المحبَّة والعطاء هما من جذر لغويٍّ واحد. ففي اللغات الساميَّة فِعْلُ «hab» في اللغة الآراميَّة يعني «يَهَبُ»، وهو يُلفَظ «hav» في اللغة العبريَّة. كما أنَّ كلمة «محبَّة» في اللغة العبريَّة هي«ah-ha-VAH» وتأتي من الجذر «ahav» الَّذي يعني محبَّة أو حُبًّا. وهي كلُّها لغات من أصل كنعانيٍّ. وفعل الحبِّ في اللغة العربيَّة ليس بعيدًا عن هذا الجذر. إذًا العلاقة جذريَّة بين المحبَّة والعطاء، وهي علاقة جوهريَّة.

 

ولكي يكتمل الجمال ويسمو، علينا أن نحوِّل هذا الترابط عيشًا، عملًا بما قاله الربُّ لنا جميعًا: «هذه هي وصيَّتي أن تحبُّوا بعضكم بعضًا كما أحببتُكم» (يوحنَّا 15: 12).

 

لذا دون أيِّ تردُّد وتباطؤ وتلكُّؤ، ودون الاختباء خلف أيَّة أعذار، نحن مدعوُّون إلى أن نحبَّ بعضُنا بعضًا، ونعطي ونبذل أنفسنا على غرار ربِّنا يسوع المسيح. فلا محبَّة دون عطاء وبذل للذات. والعطاء دون محبَّة لا قيمة له. ومن يحبُّ يعطي ويهب، لأنَّ المحبَّة لا تتقوقع حول نفسها وتنعزل عن الآخرين، بل تمتدُّ، وتنمو في البذل والتضحية.

 

لهذا يبقى صليب ربِّنا أيقونتنا الأولى، فهو ختم إلهيٌّ ومن ضمن مقاصد صيرورة الله إنسانًا، وهو الخطوة الَّتي تسبق القيامة مباشرة، إذ لا قيامة لنا دونه، أي دون صلب أنانيَّتنا وكبريائنا. فالصليب هو علامة المحبَّة الكبرى.

 

نعم، وبكلِّ محبَّة وإيمان، نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا، فهذا فخرنا ولا فخر بعده: «مَن افتخر فليفتخر بالربِّ».

 

وإن كان الربُّ يسوع المصلوب هو لليهود عثرة، ولليونانيِّين جهالة!، وكلمة «يونانيِّين» تمتدُّ إلى شعوب كثيرة، وإلى عصرنا اليوم، فإذا كان الصليب إذًا جنونًا، فنحن نعلن بفرح كبير: نحن عاشقون الربَّ بجنون، لأنَّه عشقنا هو أوَّلًا بجنون.

 

هنا علينا الانتباه واليقظة، فبالرغم من حماسنا الإيمانيِّ، قد يحدث أن نسقط نتيجة ضعغاتنا البشريَّة والتراخي في جهادنا، ونماثل بطرس الرسول بنكرانه للربِّ ثلاث مرَّات، إلَّا أنَّ توبة بطرس تبقى نموذجًا مثاليًّا لتوبتنا وعودتنا للربِّ. فلا بدَّ لنا إذًا أن نتوقَّف أمام هذا الحوار الرائع بين المخلِّص وبطرس.

 

قد تبدو الأسئلة الثلاثة الَّتي طرحها الربُّ على بطرس مكرَّرة ومتشابهة، ولكنَّ هذا في الترجمة العربيَّة. أمَّا النصُّ الأصليُّ في اللغة اليونانيَّة، فيظهر أنَّ السؤال في المرَّة الثالثة يختلف. إذ في المرَّتين الأوليَين كان الفعل الَّذي استعمله يسوع في سؤاله لبطرس: «أتحبُّني» هو «αγάπη/agape»، أي المحبَّة، أمَّا في المرَّة الثالثة فاستعمل فعل «φιλώ/philo»، ويعني محبَّة مع تقبيل، والقيام بترجمة هذه المحبَّة بشكل ملموس وحسِّيٍّ. وتكون محبَّتنا أفعالًا مثمرة ومباركة ترضي الله، وليس أقوالًا فقط ومشاعر. فالربُّ يريدنا أن نكون صادقين.

 

كما هناك أمر لافت وهو أنَّ بطرس في المرَّات الثلاث استعمل فعل «philo» هذا تأكيد لتوبته الصادقة واستعداده الجدديّ للعودة إلى الرعاية وبذل الذات، وهذا ما حصل فعلًا.

 

بمقابل هذا كله، ينتصب أمام أعيننا مشهد قبيح لنتجنَّبه ونأخذ منه العبر: "خيانة يهوذا ليلًا للربِّ في بستان الزيتون، وهو يقبِّل يسوع قبلة غاشَّة ليسلمه مقابل ثلاثين من الفضة".

 

ولا ننسَ أنَّ يهوذا بانفصاله عن الربِّ انتهى الأمر به أنَّه رمى الفضَّة أرضًا وذهب وشنق نفسه، لأنَّ الشرَّ في النهاية يقضي على صاحبه مهما طال الأمر.

 

خلاصةً، يبقى أمانًا أن نقوم بخطوة صادقة، ونأخذ قرارًا جدِّيًّا ونسير به، عملًا بما قاله الربُّ: «أنتم أحبَّائي إن فعلتم ما أوصيكم به» (يوحنَّا 15: 14). وندرك تمام الإدراك أنَّ العالم سيبغضنا، ولكن بالمقابل تعزية الربِّ لنا لا تقاس، وهو لا يتركنا أبدًا.

 

إلى الربِّ نطلب.