موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٢ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٣
من لامبيدوزا إلى مرسيليا، كيف جعل البابا فرنسيس البحر الأبيض المتوسط أولويّة؟
منذ انتخابه عام 2013، أصبح البابا يدرك تدريجيًا، عبر رحلاته، أهمية البحر الأبيض المتوسط، الذي يعتبر في نظره نموذجًا مصغرًا لتحديات العالم وهشاشته. في هذا المقال يتم نظرة إلى الوراء في ستة تواريخ على العلاقة بين البابا والبحر المتوسط.

ترجمة موقع أبونا :

 

في 14 أيلول، تم تركيب جهاز تلفزيون على طاولة القهوة في غرفة المعيشة في بيت القديسة مرتا. في هذا المبنى الصغير داخل الفاتيكان، حيث يعيش ويعمل فيه، دعا البابا فرنسيس المخرج الإيطالي ماتيو غاروني، حيث جاء ليعرض عليه فيلمه Io Capitano، "أنا الكابتن"، الذي نال قبل أيام جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي.

 

وكان من بين المرافقين له مامادو كواسي، الشاب من ساحل العاج الذي ألهمت شهادته بشكل مباشر قصة هؤلاء المهاجرين الذين يسافرون من نصف القارة الأفريقية، معرضين حياتهم للخطر، في محاولة منهم للوصول إلى أوروبا، من خلال عبور البحر الأبيض المتوسط ​​على متن قوارب مؤقتة.

 

يُعدّ الاجتماع، الذي نظمه الأب الأب أنطونيو سبادارو، مدير مجلة "الحضارة الكاثوليكيّة" اليسوعيّة، نموذجًا لأولئك الذين يفضلّهم البابا فرنسيس عندما يكون مهتمًا بموضوع ما: الشهود المباشرين، بدلاً من الخبراء أو الأساقفة.

 

من المحتمل أن يكون لدى فرنسيس هذا الفيلم والملحمة المحفوفة بالمخاطر التي يرويها عندما تطأ قدمه مدينة مرسيليا يوم الجمعة 22 أيلول، في ختام اجتماع للأساقفة والشباب من جميع أنحاء المنطقة، من إسبانيا إلى لبنان. إنّ زيارته إلى المدينة الفرنسيّة هي بالنسبة له الخطوة الأخيرة من "رحلة الحج" إلى ضفاف "بحرنا" Mare nostrum (الاسم الذي أطلقه الرومان على البحر الأبيض المتوسط)، والتي بدأت في عام 2013، في بداية بابويته.

 

لقد ساعدت هذه الزيارات في جعل البابا المنحدر من أمريكا اللاتينيّة متحمسًا ومهتمًا بشكل متزايد بهذه المنطقة، كما وأن يبلّور رؤيته للبحر الأبيض المتوسط ​​على شكل برنامج للكنيسة، إذ تلخص هذه المنطقة في عينيه كل هشاشة العالم وتحدياته.

 

 

لامبيدوزا، 8 تموز 2013. صحوة الضمير

 

في ذلك اليوم، غلي دم البابا. وقد علم خورخي ماريو بيرغوليو، الذي تم انتخابه حبرًا أعظمًا قبل أقل من ثلاثة أشهر، بالمأساة المستمرّة والتي تدور رحاها في جنوب إيطاليا. في جزيرة صغيرة تدعى لامبيدوزا، على بعد 138 كيلومترًا قبالة الساحل التونسي، تنزل القوارب المهاجرين الذين يأملون في العثور على عالم أفضل في أوروبا. على مدار عشرين عامًا، فقد 20 ألف شخص حياتهم أثناء محاولتهم العبور، وقرّر فرنسيس، في 8 تموز، القيام برحلة إلى هناك من دون وزراء أو كرادلة، مع وفد تم تقليصه إلى الحد الأدنى: خمسة أشخاص.

 

تم إنجاز هذه الرحلة الأولى لمجرد رغبة شخصيّة، ولكنها أصبحت العمل التأسيسي للحبريّة. وهي ولادة الاهتمام بالبحر الأبيض المتوسط، والذي سيتعزّز بمرور الوقت. فرنسيس، وهو ابن لمهاجرين إيطاليين، يندّد لأول مرة بعولمة اللامبالاة تجاه المهاجرين. يقول المونسينيور جان بول فيسكو، رئيس أساقفة الجزائر العاصمة، إنّ "تجربة الخراب والموت في لامبيدوزا كانت إحدى الأحداث التي دفعته إلى الاهتمام بالبحر الأبيض المتوسط".

 

بالنسبة للبابا، فإنّ البحر الأبيض المتوسط ​​هو بحر "تمازج الأجناس" الذي اختبره هو نفسه في الأرجنتين. يؤكد الأب أنطونيو سبادارو أن "منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وأمريكا اللاتينية مختلفتان للغاية، لكنهما تشتركان في هذه الديناميكية المشتركة للقاء الثقافات". يُعيد بيرغوليو اكتشاف المنطق الذي كان يعرفه في المنزل".

 

 

 الأرض المقدّسة، من 24 إلى 26 أيار 2014. العالم في حالة حرب

 

كانت خطوة لامبيدوزا استجابة لدافع. ويبدو أن ما حدث في إسرائيل وفلسطين أشبه بممرّ إلزامي. الرحلة الثانية خارج حدود إيطاليا، الرحلة إلى "الأرض المقدسة" هي خطوة أساسيّة في أيّة بابويّة، منذ رحلة بولس السادس التاريخيّة في كانون الثاني 1964.

 

بالنسبة لفرنسيس، فإنّ الأمر يتعلق بالوعي إزاء التوترات والحرب التي تهز حوض البحر الأبيض المتوسط. يتذكّر الأب رفعت بدر، مدير المركز الكاثوليكي الأردني للدراسات والإعلام: "كانت هناك لفتات قوية للغاية من قبل البابا فرنسيس، الذي توقّف للصلاة بالقرب من الجدار العازل بين إسرائيل والضفة الغربية، كما فعل في اليوم التالي عند حائط المبكى". وهو يرى أن ذلك قد أتى من رغبة البابا في "تجديد التأكيد على ضرورة التوقّف عن ارتكاب أعمال العنف باسم الله".

 

وهناك أيضًا عزّز البابا علاقته مع الأب بييرباتيستا بيتسابالا، حارس الأراضي المقدسة آنذاك، حيث تمّ تعيينه بطريركًا للاتين على القدس عام 2020. وهذا الإيطالي، الذي يعيش في المنطقة منذ ثلاثين عامًا ويتحدّث العبريّة بشكل جيد، سيتم أيضًا تعيينه كاردينالًا في 30 أيلول. وهنا، كما في رحلاته الأخرى إلى البحر الأبيض المتوسط، تمكّن البابا من نسج شبكة لتغذية تفكيره ومواقفه.

 

في ذلك الوقت، لم يأتِ البابا فرنسيس حاملاً لخطة سلام، لكنه التقى بقادة سياسيين إسرائيليين وفلسطينيين. ويدعو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز للذهاب إلى الفاتيكان للصلاة من أجل السلام. وكان كلاهما حاضرين في روما في 8 حزيران 2014، يوم عيد العنصرة. يقول المطران رفيق نهرا، النائب البطريركي للاتين في الناصرة: "شهدنا خلال هذه الرحلة ظهور مبادئ توجيهية مهمة لبابويّة فرنسيس"، مشيرًا إلى عدة مواضيع: الحوار بين الأديان، والمهاجرين، والسلام، والحصول على المياه.

 

 

مصر، 28 و29 نيسان 2017. البابا والإمام الأكبر

 

"هل فعل البابا الكثير من أجل المسلمين؟" يأتي السؤال من أولئك الذين يتواصلون بانتظام مع فرنسيس في روما. وفي هذا الصدد، إذا كانت هناك خطوة واحدة برزت كأحد مفاتيح "رحلة البابا إلى البحر الأبيض المتوسط"، فهي رحلته إلى مصر. فمنذ رحلته إلى الأرض المقدّسة، واصل بصبرٍ جولته في حوض البحر الأبيض المتوسط: ألبانيا في أيلول 2014، وتركيا بعد شهرين، والبوسنة والهرسك في حزيران، ثم اليونان في عام 2016، حيث أعاد معه 12 لاجئًا سوريًا.

 

ولكن في ربيع عام 2017، كانت مصر هي التي اختارها البابا. الأولويّة كانت: التوقيع مع شيخ الأزهر أحمد الطيب على إعلان تاريخي حول الأخوّة الإنسانيّة (في ابو ظبي 2019). لم يحدث من قبل أن قام أي بابا أو شخصية بارزة في الإسلام السني بالتوقيع بالأحرف الأولى على نص مشترك بهذه الطريقة. هذا الفعل نبع بشكل مباشر من لقائهما. إنها سمة من سمات "أسلوب فرنسيس"، التي تفضّل اللقاءات الشخصيّة على المناقشات اللاهوتيّة الكبرى.

 

وهنا مرة أخرى، يفضّل الاعتماد على هذه اللقاءات الثنائية بدلاً من خدمات الكوريا الرومانيّة، التي نادرًا ما يتم استدعاؤها لتنظيم هذا الحدث. لقد التقى البابا والإمام الأكبر بما يقرب من عشر مرات حتى الآن. يوضّح عالم الإسلام أدريان كانديارد، الذي كان حاضرًا في القاهرة أثناء زيارة البابا، أنه "لا توجد رغبة، بما في ذلك في علاقاته مع شيخ الأزهر، في بناء حوار لاهوتي في حد ذاته. يفضّل فرنسيس التواصل الشخصي والشعور بالأخوّة والحاجة إلى تحسين الحياة".

 

 

باري، 23 شباط 2020. أمل في مساحة سياسيّة

 

مرّت سبع سنوات بالفعل منذ اعتلاء فرنسيس السدّة البطرسيّة، ويبدو أن طابعه المتوسطيّ قد تضخّم بشكل أكبر، كما أظهرت رحلاته الجديدة إلى البرتغال، في أيار 2017، وإلى المغرب، في آذار 2019. ولكن هذه المرة، أراد أن يلقي خطابًا في مدينة باري الإيطاليّة، في ختام مبادرة جديدة تمامًا اتخذها مجلس الأساقفة الإيطاليين.

 

تواجد في هذا الحدث حوالي ستين أسقفًا من المنطقة، من إسبانيا إلى البلقان، أتوا من 20 دولة. ثمّ إن أسقف مرسيليا المساعد، الذي لم يكن بعد الكاردينال جان مارك أفلين، كان حاضرًا هناك، دون أن يعلم أنه هو نفسه سيستقبل البابا ككاردينال في مدينته، ​​بعد ثلاث سنوات، في لقاء على نفس النمط.

 

يتذكّر المطران بول ديفارج، رئيس أساقفة الجزائر السابق، قائلاً: "عندما دعوناه، أعلن البابا بسرعة كبيرة أنه سيكون هناك". بعد صدمة أزمة الهجرة والحاجة إلى الحوار بين الأديان، يُعتبر لقاء باري فرصة له، كما يعتقد ديفارج، للتعبير عن تمسكه بهذا الدواء المفيد.

 

أمام الأساقفة، حدّد البابا لأوّل مرة رؤيته للبحر الأبيض المتوسط، "مفترق طرق المصالح والأحداث الهامة من النواحي الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة" و"منطقة استراتيجيّة تعكس آثار توازناتها على مناطق أخرى في العالم".

 

أوضح رئيس أساقفة برشلونة، الكاردينال خوان أوميلا، أن "الاجتماع في باري، ثم الاجتماع في فلورنسا عام 2022، ثم اجتماع مرسيليا هذا العام، يهدف إلى تشجيع المجتمع المدني والسياسي على تناول المشكلة"، كما ومتابعة المسيرة منذ بدايتها.

 

 

قبرص واليونان، من 2 إلى 6 ديسمبر 2021. العودة إلى ليسبوس أو إدراك العجز!

 

كان هناك عجز في ذلك اليوم في جزيرة ليسبوس اليونانيّة. وقبل موكبه، يدخل البابا إلى "مركز التسجيل وتحديد الهوية" المحليّ. في هذه الأماكن المحاطة بالأسلاك الشائكة، حيث يتم تنظيم الخيام والمباني الجاهزة في الأحياء، لتجميع طالبي اللجوء حسب جنسياتهم، يكون لهذا لمخيم تأثير السجن في الهواء الطلق.

 

في الأيام التي سبقت ذلك، بذلت السلطات اليونانيّة قصارى جهدها لتقييد الوفد المرافق للبابا قدر الإمكان والحدّ من حضور الجسم الصحفي. لكن فرنسيس رفض هذه الشروط بشكل قاطع، وتمكّن الفاتيكان من استقدام الوفد البابوي كاملاً، والصحفيين السبعين الذين رافقوه في ذلك الوقت.

 

في ذلك اليوم، بدت صرخة فرنسيس، التي أثيرت بالفعل في هذا المخيم في عام 2016، وكأنها اعتراف بالفشل. ويبدو أن البابا نفسه يصلي في خضم اللامبالاة التي كان يحاربها منذ عشر سنوات. يتوسل إلى الله أن "يوقظنا من النسيان"، وأن "ينتزعنا من الفردية التي تستثنينا”؛ لقد أصبح الـMare nostrum (بحرنا) أصبح Mare mortuum، أي "بحر الموت".

 

تمّ إرسال هذه الرسالة البابويّة في الوقت المناسب وفي وقت غير مريح. ويفك رموزها الكاردينال أوميلا حيث يقول لأوروبا: "أنتم تعيشون في مجتمع الرفاهية. يجب أن نفكر في الفقراء. انظروا إلى منغوليا وأوكرانيا والمغرب وأفريقيا. هذا يهمكم أيضًا. البابا يحثنا على ذلك".

 

 

مرسيليا من 22 إلى 23 أيلول 2023. الخطوة النهائيّة

 

كان الكاردينال روجر إيتشيجاراي، رئيس أساقفة مرسيليا خلال الأعوام 1970 و1985، يقول: "هنا، نسافر حول العالم في ثمانين ساعة». إنّ هذه الشخصية المتعدّدة الثقافات، الواقعة على مفترق طرق منطقة من الكرة الأرضية تمثّل كل تحدّيات عالم اليوم، وهي التي دفعت البابا إلى الحضور واختتام الاجتماعات المتوسطيّة في 23 أيلول.

 

"مرسيليا هي عاصمة البحر الأبيض المتوسط"، يقول أحد الذين يتواصلون بانتظام مع البابا. ويصرّ رئيس أساقفة مارسيليا الحالي، جان مارك أفلين، على أن "هذه هي الفرصة للسماح له بمواصلة رحلة الحج التي بدأها في لامبيدوزا قبل عشر سنوات"، مضيفًا: "سيقدّم لنا بلا شك خريطة طريق"، خطة للمستقبل ستكون تتويجًا لوعي بدأه في لامبيدوزا قبل عشر سنوات.

 

(عن مجلة لاكروا الفرنسية، تقرير Loup Besmond de Senneville et Malo Tresca)