موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الإثنين، ٢٥ يوليو / تموز ٢٠٢٢
مأساة "نيرة أشرف" والتبرير الديني للعنف

رشيد سعدي - المغرب :

 

شكلت حادثة مقتل الفتاة "نيرة أشرف" في مصر أخيرًا صدمة فكرية حقيقية، حيث برز خطاب تبريري ذو حمولة دينية يُحمِّل النساء مسؤولية العنف الذي يتعرضن له، لأنهن -وبسبب طريقة لباسهن- أصبحن مصدرًا لـ"الفتنة والغواية". لذا، أصبح لزامًا عليهن أن يلبسن الحجاب، ويلتزمن ما يعتبره كثيرون زيًّا شرعيًّا لكي يعشن بسلام.

 

وبدل الانخراط في فقه جديد يقوم بتفكيك الأسس الثقافية، ومنها الدينية، بمعنى بعض طرق فهم وتفسير الدين، التي أدت إلى تفشي جرائم القتل والاغتصاب والعنف الجسدي أو الرمزي ضد النساء، انخرطت مواقع التواصل الاجتماعي في نوع من الانفصام الأخلاقي الجمعي، في جدل فقهي حول شرعية الحجاب، وجرى تحويل المرأة المعنَّفة إلى موضوع فقهي يدرس ما يجوز وما لا يجوز أن يظهر من جسدها، مع الاستمرار في وصف جسد المرأة بأنه عورة، وهو مفهوم أعتقد أنه ينتمي إلى لغة فقهية ولاهوتية متجاوزة.

 

قد تكون نية الكثير ممن عابوا على ضحايا العنف من النساء "تبرجهن"، هو الانخراط بسذاجة في خطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنه خطاب تحريضي بالغ الخطورة بالطريقة التي يطرح فيها، إذ ينتهي في آخر الأمر إلى صناعة حتميات ثقافية وسلوكية، عبر برمجة ذهنية بدائية تربط بين "السفور" و"الاستحلال الجنسي" للمرأة. لذا، استرسَل بعض الدعاة في فكرة أن "غرائز" الرجال تُستثار عند رؤيتهم لـ"المتبرجات"، فيتحولون إلى "ذئاب مفترسة". هكذا، يصبح "الجنس" أساس العلاقة بين الرجل والمرأة، وتصبح هذه الأخيرة مادة للإخضاع، ووسيلة إلى منح تفسير لـ"الهوس والجنون الذكوري".

 

أيضًا تترسخ في الفهم الجمعي للدين فكرة أن المرأة التي لا ترتدي الحجاب، هي امرأة متبرجة لا تستحق الاحترام، وعاصية أو فاسقة، بل هناك من يجعلها زانية؛ ما قد يشكل تبريرًا اجتماعيًّا واعيًا أو غير واع بأشكال العنف ضد النساء. وعليه، فإن ما حدث في مصر جزء من بنية ذهنية عامة في الكثير من الدول العربية، حيث شهد المغرب مثلًا منذ سنوات -ولا يزال يشهد- خطابًا مماثلًا يبرر العنف ضد النساء بأنه تطبيق للشريعة. وهو خطاب انتهى إلى إنتاج عنف حقيقي، تَجسد من خلال الكثير من جرائم العنف والتحرش، التي تورط فيها شباب فقَدُوا البوصلة الأخلاقية، معتقدين أن "المتبرجات" أجساد مشاعة. كل ذلك يبين الجذور الدينية المحتمِلة للعنف ضد المرأة.

 

هذا الخطاب التبريري أو الذرائعي ليس وليد اليوم، بل يشكل في حقيقة الأمر جزءًا من خطاب أصولي مترسخ في أجزاء واسعة من العالم الإسلامي، يشيطن النساء ويعتبرهن مصدر فتنة. فتتحول المرأة إلى كبش فداء، يُسقِط عليه الفكرُ الديني الجمعي انحطاط المجتمعات وتراجع في فهم الدين، وقد يصبح تبرج المرأة من العلامات التي تنبئ بقيام الساعة.

 

هوس الأصوليات الدينية بصنع طهرانية النساء عن طريق قواعد اللباس، يحوِّل جسد المرأة إلى شيء يجب أن يخضع لآليات المراقبة والضبط الاجتماعي، حيث لا يجري فهم الأخلاق إلا من خلال مقولة السيطرة. فيسمح موضوع المرأة لهذا الفكر الأصولي بتعزيز تماسكه الداخلي، والمصادقة على فرضياته وأسسه الذهنية، عبْر نمط "النبوءة الذاتية التحقق"، لأنك عندما تقول: إن المرأة غير المحجبة ستكون أكثر تعرضًا للعنف، فإنك تخلق القابلية الاجتماعية لكي يحدث ذلك. ومع تهافُته المعرفي، فإن مثل هذا الخطاب يحظى بقبول كبير في الكثير من المجتمعات بسبب بساطته وقدرته التفسيرية الخادعة، لكونه يفسر جميع مظاهر التخلف بخطيئة الابتعاد عن الدين وتطبيق شرعه.

 

في هذا السياق، نفهم كيف يمكن أن تُحول الشريعة إلى إيديولوجيا تبريرية تكرس ديكتاتورية الأشكال الخارجية للتدين، وناموس المظاهر، و"العفة القهرية"، والتدين الزائف، بدل التركيز على قيم التقوى والجوهر الأخلاقي وقيم الحرية والمسؤولية.

 

لا شك أن ما حدث في مصر يستدعي تحميل المؤسسات الدينية المسؤولية الأخلاقية عن فهم الدين، بوصفه أساسًا للأخلاق المدنية المبنية على التعاقد الأفقي بين المواطنين الأحرار. ولا بد أن ننوِّه بموقف الأزهر الذي أدان ربط العنف بترك الحجاب، واعتبره "حديث فتنة"، وأيضًا رفض الانتقاص من "أخلاق غير المُحجَّبة"، لكنه يا للأسف لم يتجاوز في تصريحه فكرة "شرعية الحجاب"؛ ما يعني استمرار تراتبية أخلاقية مبنية على فكرة الأشكال الخارجية للتدين، ومِن ثَمَّ استمرار أشكال التمييز الاجتماعي. وذلك بدل الدخول في أخلاق الحديث النبوي: "إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

 

فإنْ أردنا حماية المرأة من العنف، فإنَّ السبيل إلى ذلك ليس هو تسييج المجتمع بقواعد دينية شكلية، بل هو بناء إنسان جديد يؤمن بقدسية قيمة الإنسان (الرجل والمرأة)، منفصلًا عن كل مرجعية فقهية أو إيديولوجية. أيضًا يجب أن نكون واعين أن لغة مرجعيتنا الدينية قد تكون أحيانًا أصل العنف نفسه، وأن صلاح المرأة رهين بتمكينها فكريًّا واقتصاديًّا، وليس بجعلها بابًا من أبواب الفقه؛ إذ إنها الباب إلى المجتمع الصالح نفسه. والله أعلم.

 

(تعددية)