موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عقد المطران شكرلله نبيل الحاج، رئيس اللجنة الأسقفيّة "عدالة وسلام"، التابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، مؤتمرًا صحفيًّا في المركز الكاثوليكي للإعلام، قدّم خلاله رسالة قداسة البابا فرنسيس لليوم العالمي الخامس والخمسين للسلام، والتي أتت تحت عنوان: "الحوار بين الاجيال والتربية والعمل، ادوات من اجل بناء سلام دائم".
وجاء في كلمة المطران الحاج:
المقدّمة: لمحة عن تاريخ يوم السلام العالمي
قبل نصف قرن ونيّف أطلق البابا القديس بولس السادس مبادرة الصلاة والعمل من أجل السلام في كل أنحاء العالم، معبّراً عن رغبته بالإحتفال بيوم السلام العالمي في رأس السنة مع حلول كل عام جديد، وداعيًا جميع ذوي الإرادة الصالحة من مؤمنين وغير مؤمنين إلى التعاون مع الكنيسة الكاثوليكية، ليكونوا من صانعي السلام.
ومنذ حينها تعاقب بعده ثلاثة بابوات: كان أوّلهم القديس يوحنا بولس الثاني الذي كتب طوال حبريته، ما مجموعه سبعٌ وعشرون رسالة سلام، ومن أجملها رسالة "لا سلام دون عدالة، ولا عدالة دون غفران"، وذلك قبل عشرين عامًا. ومن بعده، توجّه البابا الفخري بنديكتس السادس عشر إلى الأجيال الصاعدة، فجاءت رسالته قبل عشرة أعوام بالضبط، يدعو فيها إلى تربية الشبيبة على العدالة والسلام. وكان البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون قبلهم جميعًا، أول من حدّد أسسًا أربعة للسلام في رسالته العامّة الشهيرة "السلام في الأرض" Pacem in Terris، وهي: الحقيقة والعدل والمحبة والحرية.
رسالة البابا فرنسيس ليوم السلام في هذه السنة
وركّز قداسة البابا فرنسيس في رسائله الخاصة بيوم السلام لسنة 2022، على مبدأ الحوار من جهة، ومفهوم الأخوّة من جهة أخرى. لذلك، اختار لرسالته في اليوم العالمي الخامس والخمسين للسلام، العنوان التالي: "الحوار بين الأجيال، والتربية والعمل: أدوات من أجل بناء سلام دائم". وقد استهلّ رسالته بكلمات للنبي أشعيا: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر، المخبر بالسلام"! ثم ناشد قداسته الجميع للسير معًا على دروب الحوار والتربية والعمل بشجاعة وإبداع، وبدون أية ضوضاء، بل بتواضع ومثابرة...
كما أشار إلى أن مسيرة السلام التي أطلق عليها القديس بولس السادس الإسم الجديد للتنمية المتكاملة، لا تزال بعيدة المنال لكل العائلة البشرية. فعلى الرغم من الجهود المتعدّدة الهادفة إلى حوار بنّاء بين الأمم، نرى شبح الحروب يتعاظم، ناهيك بالأمراض والأوبئة، وأضف إليها آثار تغيّر المناخ والتدهور البيئي، وسيطرة الفردية على المشاركة التضامنية. هكذا تصبح مأساة الجوع والعطش أكثر خطورة.
شرح البابا فرنسيس قائلاً: "إنَّ السلام في كلِّ عصر، هو عطيّة من العُلى وثمرة التزام مشترك. هناك في الواقع، "هندسة" للسلام، حيث تتدخّل مؤسسات المجتمع المختلفة، وهناك "حرفية" للسلام تشمل كل فرد منا بطريقة شخصيّة. يمكن للجميع أن يعملوا معًا من أجل بناء عالم أكثر سلامًا: بدءًا من قلوبهم وعلاقاتهم في العائلة والمجتمع والبيئة، وصولاً إلى العلاقات بين الشعوب والدول".
من هنا إقترح قداسته ثلاث طرق لبناء سلام دائم. أولاً، الحوار بين الأجيال كأساس لتحقيق المشاريع المشتركة. ثانياً، التربية كعامل حرية ومسؤولية وتنمية. وأخيرًا، العمل من أجل التحقيق الكامل للكرامة البشريّة. وقد وصفها بأنها "ثلاثة عناصر أساسية لإعطاء الحياة لميثاق اجتماعي، الذي بدونه يظهر كل مشروع سلام متناقض وغير منسجم"..
أولاً: عن الحوار بين الأجيال من أجل بناء السلام
على الحوار أن يكون صادقاً، ويقوم على الثقة بين المسنّين الذين وصفهم البابا بحرّاس الذاكرة، وبين الشباب الذين يسيرون قدماً بالتاريخ. إن الحوار يعني الإصغاء بعضنا إلى بعض والمناقشة والاتفاق والسير معًا. "فمن ناحية، يحتاج الشباب إلى الخبرة الوجوديّة والحكميّة والروحيّة للمسنّين؛ ومن ناحية أخرى، يحتاج المسنّون إلى دعم الشباب ومحبّتهم وإبداعهم وديناميكيّتهم". هكذا يتعاونون، ويتبادلون المعارف والخبرات والمهارات من أجل الخير العام.
وقد زرع قداسته بارقة أمل بقوله: "سننكبُّ على المستقبل، لكي نُغذِّي الحماس، ونجعل الأحلام تنبت، ونولِّد النبوءات، ونجعل الرجاء يُزهر. وبهذه الطريقة إذ نكون متّحدين يمكننا أن نتعلم من بعضنا البعض. لأنّه بدون الجذور، كيف يمكن للأشجار أن تنمو وتعطي الثمار؟ يكفي أن نفكّر في موضوع العناية ببيتنا المشترك.
ثانيًا: عن التربية والتعليم كمحرِّكَين للسلام
أثار قداسته موضوع تخفيض ميزانية التربية والتعليم على الصعيد العالمي، بدلاً من الإستثمار فيهما، نظراً إلى أنهما القوّتان الأساسيتان للتنمية البشرية المتكاملة، وللدفاع عن السلام وتعزيزه. وللأسف زادت في المقابل النفقات العسكريّة، بل تخطّت المستوى المسجّل في نهاية "الحرب الباردة"...
وعليه أضاف البابا فرنسيس: "آمل أن يترافق الاستثمار في التربية بالتزام أكبر من أجل تعزيز ثقافة العناية. لأنها إزاء انقسامات المجتمع وجمود المؤسسات، يمكنها أن تصبح اللغة المشتركة التي تكسر الحواجز وتبني الجسور. ينمو البلد عندما تتحاور ثرواته الثقافية المختلفة بشكل بنّاء: الثقافة الشعبية، والثقافة الجامعيّة، وثقافة الشباب، والثقافة الفنية، والثقافة التكنولوجية، والثقافة الاقتصادية، وثقافة العائلة، وثقافة الإعلام. لذلك من الضروري أن نصوغ نموذجًا ثقافيًّا جديدًا، من خلال ميثاق تربوي عالمي للأجيال الشابة ومعها، يُلزم العائلات والجماعات والمدارس والجامعات والمؤسسات والأديان والحكام والبشرية جمعاء في تنشئة أشخاص ناضجين... إنَّ الاستثمار في تربية وتعليم الأجيال الشابة هو الدرب الرئيسي".
ثالثًا: عن أن تعزيز العمل وتأمينه يبني السلام
أوضح قداسته أنه لا غنى عن العمل في بناء السلام. فهو تعبير عن الذات وعن العطايا الشخصيّة، ولكنه أيضًا التزام وجهد، وتعاون مع الآخرين. وقد تفاقم الوضع في عالم العمل بسبب وباء الكورونا، ما تسبّب اليوم في زيادة البطالة بشكل مأساوي.
وكالعادة لا ينسى البابا أن يتطرّق من ناحية، إلى تأثير الأزمة الإقتصادية على المهاجرين الذين يعيشون مع عائلاتهم في ظروف محفوفة بالمخاطر، ويتعرضون لمختلف أشكال العبودية ويُحرمون من نظام رعاية يحميهم... ومن ناحية أخرى، إلى تزايد العنف والجريمة المنظّمة، اللذين يخنقان حريّة الأشخاص وكرامتهم، ويسمّمان الاقتصاد ويمنعان الخير العام من التطوّر. وبالتالي لا يمكن للإجابة على هذا الوضع إلا أن تمُرَّ من خلال توسيع لفرص عمل كريم. ذلك أن العمل هو الأساس الذي يُبنى عليه العدل والتضامن في كل جماعة. ولهذا السبب، نبّه البابا إلى أنه يجب ألا نسعى على الدوام لاستبدال العمل البشري بالتقدّم التكنولوجي...
كما تمنّى قداسته على الشركات أن تحترم حقوق الإنسان الأساسية للعمال والعاملات، وعلى أهل السياسة أن يعزّزوا التوازن العادل بين الحريّة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، مؤكداً أنه يمكن لجميع الذين يعملون في هذا المجال، بدءًا من العمال ورجال الأعمال الكاثوليك، أن يجدوا إرشادات أكيدة في العقيدة الاجتماعية للكنيسة Doctrine Sociale De L'Eglise.
أخيرًا بعد أن وجّه شكره وصلاته إلى كل المسؤولين الذين "يكرّسون أنفسهم بسخاء ومسؤولية من أجل ضمان التعليم والسلامة وحماية الحقوق، وتأمين الرعاية الطبية، وضمان الدعم للمحتاجين، ختم البابا فرنسيس مناشداً الحكام وجميع الذين يشغلون مسؤوليات سياسية واجتماعية، والرعاة ومُنشِّطي الجماعات الكنسية، وجميع ذوي الإرادات الصالحة، للسير معًا على الدروب الثلاثة التي شرحها في رسالة السلام. ولكل صناع السلام، رفع دعاءه "لتسبقهم ولترافقهم على الدوام بركة إله السلام!"
لا ننسى أن البابا بولس السادس في أول رسالة أصدرها في العام 1968 بعنوان "يوم السلام"، أكّد أن مسيرة تحقيق السلام بين شعوب الأرض، لطويلة تتطلّب جهودًا جبّارة من كل الأطراف والجهات. ونحن في لبنان من أكثر الشعوب التي اختبرت هذا الواقع الأليم. غير أن أمير السلام يسوع المسيح يبقى وحده رجاءنا، ولشفاعة أمه مريم العذراء، ملكة السلام سيدة الرجاء وسيّدة لبنان، نرفع بثقة صلواتنا وابتهالاتنا: سلام للبنان، سلام للعالم، نسألك يا رب!