موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٢
الأخت الراهبة كارولين... وصلاةٌ بأصواتٍ ملائكية تأنس لها السماء

محمد الجغبير :

 

"بابا في شهداء بالجيش.. ناس ما بفهموا طخوهم.. بابا انت زعلان عشان عمو الشرطي مات..؟؟". هكذا تحدثت طفلتي شام، وهكذا تحول "لثغ" الكلام إلى مرساة تأخذك من أعاصيرك وأنواءك لتحط بك على مساحة دفء، تسمى وطن.

 

طالما أذهلني بريق العينين حين تفرح شام، وكأنما الطفلة كَبُرت واستشعرت أن ثمة أمر في الجوار، وأن هذا الوطن لم يكن ليروح الى ما راح اليه كما في الايام الماضية الى فيض الم وحسرات لو أن المارقون الفاسدون أدركوا سر البريق في الحدقات.

 

لم أُفاجئ بجواب شام حين سألتها من اخبرك، لتقول لي "السيستر كارولين"، ليتبين لي لاحقا، ان الأخت العظيمة كارولين بدر مديرة روضة كلية الراهبات الوردية – الشميساني قامت بمبادرة اكاد اجزم بأنه لم يلتفت او يفطن اليها الجميع في مدارسنا. اجتمعت في طلبة الروضة الأولى والثانية (Kg1 & Kg2) لتدعوهم وبما يتفق ومخيلتهم الصغيرة البيضاء بقولها لهم (بدنا نصلي وندعي للوطن)، نصلي لأجل السلام، والشهداء، والوطن ولأجل أن يحفظ الله جيشنا وعناصر امننا، خطاب أبيض يغرس فيهم معاني ومفاهيم كيف تحب وتنتمي، وكيف يصير الوطن بيت وأهل وعشيرة وعزوة، مفاهيم ستكبر في المخيلة البيضاء حتى ليكبروا ويعاركوا الحياة لحين يصير الشعر أبيضا...

 

السير كارولين ورئيسة الدير السير غلوريا الربضي والاخوات الراهبات العزيزات، وفي غمرة الاستعداد للاحتفال بالأعياد المجيدة، وضعوا الوطن وما عايشه من أحداث أليمة على رأس أولوياتهم، ليبدأوا بنثر روح الحياة والتسامح والالتصاق بهموم الوطن، وإيمانٌ عميق ان أمانة الوطن تقتضي تعليم طفل بعمر الاربع سنوات قيم تبني أوطان، قيم ستكون سلاحا ً فتاكا ًبوجه اي فكر ظلامي اسود. كانت صلاة ونشيدا تأنس له السماء، فيما السيستر كارولين، وبمعية الاصوات الملائكية لأطفال الروضة ينشدون: "يا رب السلام أمطر علينا السلام.. يا رب السلام امنح بلادنا السلام بارك بلادنا بارك مليكنا بارك بيوتنا بارك أطفالنا".

 

سبق ذلك كله، حالة التحام مفعمة بالحزن والحس الوطني العميق، يوم حادثة استشهاد العقيد الدلابيح، ففيما كانت تستعد روضة كلية الراهبات الوردية للاحتفال بقرب مقدم عيد الميلاد المجيد، كان الشهيد الدلابيح حاضرا، بين الأنفاس الندية لأطفال الروضة، وفي الشبرات البيضاء المعقودة على الضفائر الملائكية، وفي نبرات حزينة تُشبه نبرة الأم المكلومة فيما الاخت كارولين تتحدث بصوت أقرب للبكاء (وهناك دموع تنهمر لا تجد من يكفكف عنها ألما ً أثقلت به مقلتيها، وشهيد تلو شهيد.. وحريق القهر التي تضرم في صدور الأمهات.. وفي الأمس استشهد العقيد الدلابيح رحمه الله دفاعاً عن الوطن وأمنه واستقراره...) في هذه الكلمات بدأت الراهبة كارولين بدر الحفل ومن ثم انتقلت في صمت تحبس به انفاس ودموع. لم يكن احتفالا بمعناه التقليدي، وقد تحولت قاعة الاحتفال وكأنها إحدى ساحات كنيسة المهد في بيت لحم - فلسطين وطن يسوع المسيح، فاحتفالات الأخوة المسيحيين في شتى بقاع الأرض بإضاءة شجرة الميلاد، وما يعقبها من احتفالات أعياد "الكريسماس ورأس السنة"، هي رسالة سماوية أن هناك إرث يسوع المسيح وٌلد في بيت لحم، وحمل رسالة انسانية للعالم أن الحب مجد، والكراهية عار. كان فرح أطفال ووقار كبار، وقرع الأجراس يأخذك إلى البعيد البعيد، يُسافر بك إلى عمق التاريخ، نجمة في السماءِ، وملاك ظهر لرعاةٍ فانطلقوا بميلاد المسيح مبشرين.

 

قبل نحو أسبوعين - حين كان الفرح متاحا والايدي القذرة للإرهاب في جحرها القصي- وبدعوة كريمة من إدارة الروضة ممثلةُ بــالراهبة كارولين كان لي شرف المشاركة لحضور احتفال الروضة بإضاءة شجرة عيد الميلاد، وسط حالة من الغبطة، وهالةٍ من البراءة وباقة غير متناهية من الفرح، اكتست وجوه الكبار والصغار على حدِ سواء، كان قوس قزح حاضرا وملء الفرح ملء السماء.

 

دعوة إدارة الروضة لي، وقد كنت المدعو الوحيد حينها الذي شارك اضاءة الشجرة، وفيما مقدمة الحفل ترحب برعاة الحفل وبي، كانت اعمق من مفردات وكلمات، فحواها عميق يعكس كيف تحترم الأخر وتقدّر وتثمن، انهن الراهبات يعون جيدا كيف ينسجون حول روحك رداء المحبة وعليك يحرصون، لتجد نفسك أمام حالة رقي فكري، حين الدين واحد طالما مصدره السماء.

 

فقرات احتفال مهيب، برعت فيه الأخوات الراهبات من حسن أداء وتنظيم، كانت فيه أصوات أطفال الروضة ممن شاركوا بتقديم الفقرات يدعوك للحب وللفرح والتبجيل للوطن الأردني حيث العيش الملتحم لا المشترك فحسب، فيما صدحت الأصوات الملائكية للأطفال بترانيم، لتطال قلوب الحاضرين من معلمات واداريات بالإضافة الى رئيسة الدير والاخوات الراهبات العزيزات دفئا يغرس فيك حنين القدس والناصرة وبيت لحم للأم عمان. لتختم مقدمة الحفل بالمجدُ للهِ في العُلى.. وعلى الأرضِ السلامَ، وفي الناسِ المسرةـ لتورق فينا بتولات "الوردية" جذوة فخر، إنهن أردنيات يزرعن الحبّ والسنابل على كل باب كنيسة وجامع..

 

 

(خبرني)