موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عندما قررت الام تريزا زيارة راهباتها في غزة، انتشر الخبر في كنيسة القدس وبادر رئيس المعهد الاكليريكي حينها الاب بولس ماركوتسو لدعوة الراهبة لزيارة المعهد. فوافقت الراهبة. وعندما اعلن لنا رئيس المعهد عن هذه الزيارة للطلاب، كانت ردة الفعل فرحا غامرا وحيرة حول التحضير لهذه الزيارة. لكن بساطة الضيف اعطت لهذه الزيارة رونقا خاصا، لا علاقة بالتحضيرات بها.
الثوب الرهباني
اذكر ان الرئيس وكلني بالضيافة للراهبة ومرافقاتها. وهكذا رافقت الام تريزا من مدخل المعهد الى ديوان الرئيس قبل لقائها مع الطلاب المجتمعين في القاعة. ما لفت انتباهي هو قصر قامتها وبساطة لباسها، حتى ان اثار رثي ثوبها المتكرر كانت واضحة عليه. راهبة كلكوتا في الهند من اصول اوروبية، لذلك وبحسب تصنيف الطبقات في الهند، فهي من الطبقات العليا في المجتمع. ومن المعروف عن الديانة الهندوسية ان البشر ينقسمون الى اربع فئات: الفئة الاولى تنحدر من راس الاله براهما، فهم من الكهنة والرؤساء، والثانية من كتفيه، فهم المحاربون. اما الفئة الثالثة فمخلوقة من فخدي الاله براهما فهم التجار واصحاب الاعمال، اما الفئة الرابعة فتأتي من قدمي الاله فهم العمال والمزارعون. ولكن الفئة الخامسة هي الاهم والتي تعد بالملايين، فهم فئة "الدالت" اي المنبوذين، من لا يمكن التعامل معهم او لمسهم، فهم فئة حقيرة لا تصل الى مستوى البشر.
عندما بدأت الام تريزا عملها في خدمة الفقراء، كان شعارها خدمة افقر الفقراء. وكمسيحية لم تؤمن بنظام الطبقات في الهند. لذلك اختارت لها ولراهباتها اللباس الخاص بطبقة اللاطبقة اي الدالت، ووضعت نفسها في خدمتهم، فلم تكن افضل من معلمها الالهي الذي اخذ صورة العبد، وصار على مثال البشر. عندما خضرت الام تريزا الى المعهد الاكليريكي، كانت تلبس هذا الثوب الفقير البسيط الذي لم تملك غيره، على مثال من ليس لديه حجر يضع راسه عليه.
كانت ضيافة المعهد لها بسيطة على مستوى عظمة الزائر: كأس من الشاي وبعض البسكويت. وقد اعتذرت بابتسامة يعرفها محبيها، ولم تتناول شيئا. حينها دعاها الرئيس للقاء الطلاب في المسرح، فدخلت وسط تصفيق الطلاب وترحيبهم. وخلال دخولها، وقفت لتسلم على طالب واحد، كانت قد كسرت ساقه خلال اللعب، فوفقت للتطمئن عليه.
الراهبة الرسالة
كان كلامها عظيما ببساطته، عميقا باسلوبه المباشر والذي يستطيع اي كان فهمه حتى دون ترجمة. "كونوا قدّيسين، لأنّ يسوع الذي دعاكم لتكونوا كهنة له، هو قدوس. أنتم عزيزين على قلبه، وهو يحبّكم. ليبارككم الرب. الأم تريزا 1982/8/11". هذا ما كتبته الام تريزا في سجل الزوار في المعهد الاكليريكي خلال زيارتها. اي كلمات اعمق واغنى من هذه؟
خلال اللقاء، روت لنا الام تريزا بعض القصص التي حدثت معها، ومما اذكر منها قولها: "المشكة ليست اننا لا نحب الفقراء، بل اننا لا نراهم! عند زيارتي للراهبات في لندن، كنت اتنقل بواسطة مترو الانفاق، وفي محطة كبرى وخلال انتظار القطار، لاحظت احد المشردين في زاوية. فتقدمت نحوه وسلمت عليه وسألته "كيف حالك؟" نظر إليّ بدهشه وقال لي: "اتعلمين عدد الذين يمرون في هذه المحطة كل يوم؟ انهم بالالاف. وانا احضر كل يوم هنا بسبب البرد القارس في الخارج، لكنك اول من انتبه لي هنا منذ سنوات. فالكل يمر الى عمله اوبيته، لكن لا يراني احد منهم! أكبر فقر في العالم هو شعور الانسان انه غير محبوب". وختمت بوصيتها لنا ان ننظر حولنا لنرى الفقراء وذوي الحاجة. كانت هذه رسالتها، كانت هذه حياتها. هي التي سألها احد الصحفيين مازحا بعد صعود الانسان على القمر لاول مرة في اواخر الستينات: "ام تريزا، هل ستصعيدين انت ايضا الى القمر؟ فأجابت: اذا كان هنالك فقراء، لما لا؟".
اشعاع القداسة
كانت زيارة الام تريزا للمعهد الاكليريكي قصيرة، لكنها بركة ونعمة رافقت المعهد لسنوات. تركت اثرا واضحا، فلا زلت اذكر ذلك اليوم بعد 24 عاما! نالت جائزة نوبل للسلام، فرفضت البذخ في حفل تسليم الجائزة، فاقترحت انفاق مصاريف الحفل على الفقراء، فكان لها ذلك. قابلت العديد من الرؤساء ومشاهير هذا العالم، ولكن قامتها صغيرة الحجم، والعظيمة في القداسة هي التي كانت تشع على الحضور.
المرة الثانية والاخيرة التي قابلت فيها الام تريزا كانت في مطار روما، عندما كنت بانتظار احد الزوار مع المئات ممن ينتظرون القادمين. وبدون سابق انذار، خرجت الام تريزا على مقعد متحرك وقد كانت جاوزت الثمانين، فضجت القاعة بالتصفيق دون تنسيق او طلب من احد. حينها تقدمت منها، سلمت عليها وطلبت منها الصلاة من اجلي. ثم خرجت سلام دون ان يزعجها احد من الحضور.
عندما سألها احدهم عن سر الطاقة الغريبة في عملها اليومي الذي يمتد لساعات طويلة كل يوم، هي التي جاوزت الثمانين، ردت بكل هدوء: "السر يكمن في القداس اليومي في الصباح، وفي مناولتي القربان الاقدس. هو الذي يمنحنى القوة للعمل من اجله في الفقراء".
ايتها الام تريزا القديسة، صلي لاجلنا