موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
كان الأب زكريا الشوملي (1897) واحد من أكثر الرهبان الكاثوليك التزامًا في تاريخ فلسطين. وُلد الأب الشوملي بالقرب من حقل الرعاة في مدينة بيت ساحور وتمّت رسامته راهبًا عام 1920 في ظل سنوات الاضطراب خلال الانتداب البريطاني على فلسطين، وفي وقت كانت تحيك فيه المملكة المتحدة خطتها لإقامة دولة يهودية في فلسطين. وقد اختار الأب الشوملي الانضمام إلى الكفاح مع شعبه من أجل التحرير الوطني عن طريق زرع الأمل في قلوبهم وتقديم شهادة حيّة وأساسًا متينًا نحو تحقيق سلام عادل.
وقد عرفت مجتمعات غزة والطيبة وبيرزيت وجنين وبيت ساحور والقدس وغيرها عن نكران الأب الشوملي لذاته وتنسكه وحبه الكبير لهم. انضم إلى أصوات فلسطين المسيحية والمسلمة على حد سواء طالبًا الحرية والاستقلال الوطني والحياة الكريمة للشعب الفلسطيني. توفي الأب الشوملي عام 1963 بعد أن شاهد النكبة التي أحلت بشعبه الفلسطيني، ورأى بأم عينيه كيف أن الكنيسة مرة أخرى اتخذت زمام المبادرة في توفير الدعم الروحي والإنساني للمحتاجين. وكانت تلك الأوقات التي بدأ فيها عمل البعثة البابوية في فلسطين من أجل دعم اللاجئين الفلسطينيين.
ويبقى الأب الشوملي بالنسبة للكثيرين واحد من الأصوات المجهولة في الكفاح الطويل لتحرير فلسطين، أمّا الأشخاص الذين لديهم المعرفة عن دور الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين فإنهم يضعون ذكراه في مصاف المطران غريغوريوس حجار والأب إبراهيم عياد والمطران كبوجي والبطريرك ميشيل صباح. وفي اعتقاد الكثيرين فإن الأب الشوملي يمثل بالنسبة للشعب الفلسطيني ما مثله الأب أندريه جارلان في تشيلي إبان الحكم الدكتاتوري لبينوشيه، ورئيس الأساقفة ديسموند توتو بالنسبة لجنوب افريقيا. وهذا الاقتناع الأخلاقي القوي برسالتهم لإحلال سلام عادل ومساواة بين الجميع يعكس أهمية المسيحية في فلسطين. ولذلك، فالعلاقات بين الكرسي الرسولي وفلسطين تتعدى كونها اعترافًا سياسيًا أو إعفاءات ضريبية، بل بالأحرى تعترف هذه العلاقات بالدور المركزي الذي تؤديه المسيحية داخل النسيج المجتمعي الفلسطيني في أرض فلسطين التي هي مهد المسيحية حيث وُلد السيد المسيح وعاش وصُلب وقام وصعد إلى السماء.
وهذا بالضبط ما كان يهدف إليه الفلسطينيون لتحقيقه عبر الإتفاقية التاريخية – الشاملة مع الكرسي الرسولي التي تمّ توقيعها بتاريخ 24 شباط 2015. وقد تمّت الإتفاقية بتعليمات مباشرة من سيادة الرئيس محمود عباس وبالتشاور مع الوزارات الفلسطينية المختلفة بهدف توفير المصالح المستحقة للكنائس في فلسطين بغية الاستمرار في مهامها التاريخية. قبل مدة أجبر رؤساء الكنائس على إغلاق كنيسة القيامة بسبب الضغوطات الإسرائيلية عليهم لدفع الضرائب خلافًا للوضع التاريخي والقانوني لمدينة القدس، لكننا الأن نتطلع إلى سبل بناءة لتسهيل عمل الكنائس والتأكيد على حضور الكنيسة في الأرض المقدسة.
تشكل الإتفاقية نموذجًا لبقية الدول في الشرق الأوسط ليس فقط في شموليتها (8 فصول تحتوي على 31 مادة) بل برسالتها: ليس التعايش المسيحي-الإسلامي ممكنًا فحسب لكنه ضرورة حتمية. تتمتع الكنيسة الكاثوليكية باستقلال ذاتي بموجب القانون الفلسطيني كما أن الكرسي االرسولي اعترف بدولة فلسطين على حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967. وعلى الرغم من وجود بعض التحديات التي تعيق التنفيذ الكامل للاتفاقية، من الواضح أن علاقاتنا تستند إلى أرضية صلبة عمرها قرون طويلة.
الوقت بعد الظهر في مدينة بيت لحم والأطفال من مدرسة تراسنطا يركضون ويلعبون في باحة كنيسة المهد بعد خروجهم من المدرسة. وقد تكرر هذا المشهد منذ عام 1598 حيث أن مدرسة تراسنطا هي الأقدم في فلسطين وما تزال تعمل حتى اليوم. وقد تخرج الكثير من الطلبة من المدرسة ومنهم من انتهى بهم الأمر في المنفى بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة. وفي نظرنا إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة هو الحل الأمثل لضمان مستقبل المجتمع الفلسطيني المسيحي الحي في فلسطين. ونحن نؤمن بأن اتفاقنا الثنائي يمكنه أن يساهم في دعم صراع الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين في ظل الظروف الحالية من أجل إنهاء الاحتلال والعيش في سلام واحترام متبادل ضمن الحدود الدولية للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.
فرض الاحتلال فصلا كاملا لمدينة القدس عن بقية أرض فلسطين وحرم الفلسطينيين من حقهم في الوصول إلى أماكن العبادة. كما أقام الاحتلال جدار الضم والتوسع بما في ذلك في أماكن معروفة ذات أهمية مسيحية مثل الكريميزان وجبل الزيتون، وصادر الأراضي وفرّق العائلات الفلسطينية من خلال سنّ قوانين غير عقلانية؛ غير أننا مصممون على أن لا تقتل آمالنا كل هذه المعيقات العسكرية التي يفرضها النظام السياسي الإسرائيلي في فلسطين. وكما قال الرئيس الراحل ياسر عرفات: "لا يوجد فلسطين دون المسيحيين".
وفي الوقت الذي تؤثر فيه الصهيونية المسيحية على سياسات الدول الجنبية وتحاول تشويه التاريخ في أرضنا المقدسة، تستغل الحكومة الإسرائيلية وإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجدال الديني المنبثق من الإنجيل بغية تبرير دعمهما للسياسات الخاطئة وإيقاع المزيد من الظلم بحق الشعب الفلسطيني. لا يمكن تحمّل ذلك ليس فقط بسبب تاريخنا بل أيضًا بسبب القيم التي نتحلى بها.
يقع رفاة الأب الشوملي في مدينة بيت ساحور، وقد اتبع العديد من افراد عائلته خطواته وانضموا إلى سلك الرهبنة، وجميعهم حملوا رسالة الأمل التي نقلها الرعاة عندما رأوا نجمة بيت لحم قبل حوالي 2000 عام. ويذكرنا التزامهم والتزام الآلاف من الرهبان الفلسطينيين بما قاله النبي إرميا: "سَلاَمٌ، سَلاَمٌ. وَلاَ سَلاَمَ" (إرميا 6:14).