موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الأربعاء، ١٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢
خيمة الأخت سيسيل ومعنى الضيافة الإلهية

رشيد سعدي – المغرب :

 

قمت الأسبوع الماضي بزيارة لدير سيدة الأطلس بمدينة "ميدلت" المغربية، وشُرفت بالتعرف إلى رهبان "الترابيست"، في إطار لقاء الصداقة بين المسلمين والمسيحيين. لعل أول ما أثار انتباهي عند أحد مداخل الدير، لوحتان جميلتان تحتوي إحداهما القرآن الكريم كاملًا بحروف صغيرة، والأخرى تُظهر أسماء الله الحسنى. أخبرني الأب "فلاشير" أن المعنى الحقيقي للحوار والصداقة بين المؤمنين، لا يتجسد فقط في قيمتَي التسامح والاحترام، بل أيضًا في قدرتنا على أن نستضيف الآخر ونجعله جزءًا منا، أي أن نجسد قيمة الرحابة والضيافة الإلهية.

 

في مقبرة الدير، ترقد جثامين خمس أخوات من "رهبنة الفرنسيسكانيات مرسلات مريم"، كرسن حياتهن لخدمة الأهالي. نجد مكتوبًا على جانب هذه القبور عبارة بسيطة: "في انتظار القيامة"! عندما تدخل ذلك المكان تغشاك الرهبة، ويتملكك شعور غريب بالحب والسمو، ولكأنه حضور إلهي خالص. يَفرض علي واجب الشهادة أن نكرم ذكرى هؤلاء الأخوات، اللائي أسسن لتجارب عميقة جدًّا للحوار بين المسلمين والمسيحيين، خصوصًا الأخت "سيسيل دو بروفوست".

 

كرست الأخت سيسيل حياتها بصفتها ممرضة، من أجل خدمة الأهالي في منطقة ميدلت، حيث يتذكرها السكان بامتنان بالغ. سُميت "أخت الرُّحَّل"، لأنها قررت أن تكون جزءًا من الحياة البسيطة لمن تعالجهم. تعلمت اللغة الأمازيغية، وأصبحت هي نفسها راحلة من بين الرُّحَّل، حيث قررت -بعد رؤية روحية- أن تغادر حياة الدير، وتسافر ساعات طويلة على ظهر الدواب، من أجل تمريض الفقراء ومشاركتهم في شظف عيشهم، تحت خيمة سماها الأهالي "خيمة الأخوَّة".

 

عندما اكتشفت سيسيل إصابتها بالسرطان سنة 1983، رفضت الرحيل، وأصرت على أن تظل في خدمة الأهالي حتى آخر لحظة في حياتها، وأن تموت بين البسطاء الذين أحبتهم. كان الهدف الأسمى والجوهري للأخت سيسيل -بحسب شهادتها- هو أن تعيش سر "التجسد"، بمعنى أن يسترجع العالم جوهره الإلهي. بالنسبة إليها، التبشير جزء من هذه العقيدة، لكنها كانت تعتقد أنه حتى عندما يرفض المسلمون فكرة الخلاص من خلال شخص المسيح، يجب علينا أن نحترم عقيدتهم؛ إذ إن المسيح بعظمته حاضر في كل شخص مسلم، بل وفي كل إنسان، من خلال فعل النعمة والكلمة الإلهية. لذا، كانت تتوجه إلى المسيحيين مؤكدة أنه يجب عليهم أن يستقبلوا الآخر برحابة في أنفسهم، بل وأن يجعلوا للإسلام مكانًا في ذواتهم، ذلك الإسلام الذي هو بمعنى الخضوع لله دونما أي خوف.

 

وعندما أرادت الحصول على الجنسية المغربية طُلب منها أن تنطق بالشهادة، فكان ردها: "أرفض الشهادة الإدارية التي لا تعني لي شيئًا، لكني أقْبَل وأعشق الشهادة، شهادة الحب، والتواضع والأخوَّة. أعتقد أن حب المسيح في قلبي، هو من القوة لكي يجعلني أستقبل شهادة إخواني، بل وأتجاوزها إلى أبعد من ذلك. بكل صدق، أؤمن بأن الله عظيم وكبير، وأن محمدًا هو رسوله، لأنه سمح لي بأن أكتشف من خلال الإسلام وجهًا لله". يمكن لمثل هذه الشهادة أن تثير جدلًا لاهوتيًّا، لكن الأخت سيسيل عبَّرت -مثل الكثيرين الذين انخرطوا في تجارب مماثلة- عن كونها مَدينة للمسلمين، الذين جعلوا قلبها ينفتح على أبعاد جديدة في تجربة الحب، فينمو ويكبر إيمانها المسيحي، وهي وفيَّة لتعاليم المسيح.

 

جسدت الأخت سيسيل نموذجًا إنسانيًّا وإيمانيًّا متقدمًا، ليس فقط من الحوار الإسلامي المسيحي، بل مما يجب أن تكون عليه العلاقة بين مؤمني الأديان المختلفة، بعيدًا عن الصراع أو الاستقطاب. فالمعنى الحقيقي لمملكة الرب، يتأتى -بالنسبة إليها- من خلال الالتزام الملموس بخدمة الآخرين ومواساتهم. هي مملكة المحبة، حيث يعامَل فيها الفقير بصفته إنسانًا، والمجذوم بصفته صديقًا. هذه المملكة، يمكن لكل المؤمنين والمؤمنات أن يساهموا في بنائها.

 

قُرْب دير سيدة الأطلس، ربطت الأبَ "بيريغير" صداقةٌ قوية بأحد الأهالي المسلمين. اتفقا على أن يحفرا بئرًا داخل الدير، وكان الأب يسأل صديقه على سبيل الدعابة: "إذا انتهينا من حفر تلك البئر، فهل سنجد ماءً مسيحيًّا أم مسلمًا؟". رد عليه صديقه المسلم قائلًا: "نحن نمشي معًا منذ مدة طويلة، ولا تزال تسألني مثل هذا السؤال؟! سنجد ماء الله!". ماء الله، ذلك هو الماء المقدس الوحيد، الذي ينبع من محبتنا للآخرين، ويجعل قلوبنا تسَعُ الله نفسه.

 

لأولئك الأخوات اللائي ينتظرن القيامة، ولكل من جعل من نفسه خيمة يستقبل فيها إخوته في الإنسانية، نقول: طوبى ورحمة الله عليكم. يقول مولانا جلال الدين الرومي:

 

"هذا الإنسان هو بيت ضيوف. كل صباح يستقبل زائرًا جديدًا. بهجة، حزن، إحباط، ولحظة وعي تأتي كضيف غير متوقّع. استقبِلْهم واعتنِ بهم جميعًا!... استقبِلْهم على الباب بضحكة، وادعُهم للدخول. كن ممتنًّا لكل من يأتي، لأن كلًّا منهم يتم إرساله كمرشد من الله"، والله أعلم.

 

(تعددية)