موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢١ يوليو / تموز ٢٠٢١
تأملات البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد السابع عشر للزمن العادي، السنة ب
(يوحنّا 6: 1-15)

بطريرك القدس للاتين :

 

نتوقّف مع هذا الأحد السابع عشر عن سماع إنجيل مرقس ونسمع بدلا منه إنجيل يوحنّا.

 

يروي مرقس، في المقطع الإنجيلي الّذي يلي ما قرأناه في الأحد الماضي، معجزة تكثير الخبز والسمك (مرقس ٦: ٣٤- ٤٤)؛ وتُقدّم لنا ليتورجيّا اليوم المعجزة ذاتها، ولكن بحسب رواية الإنجيل الرابع. وفي الأحاد القادمة، سوف نستمع إلى كامل الفصل السادس من يوحنا، وهو عبارة عن تأمّل مطوّل ليسوع حول موضوع خبز الحياة.

 

يمكن تقسيم مقطع اليوم إلى جزأين: وهما معجزة تكثير الخبز والسمك، وهي لا تشغل الحيّز الأكبر، ثم الحوار الّذي يدور بين يسوع وفيلبّس، وهو حوارٌ مهم، لأن يسوع يُقدّم من خلاله إطار ما هو على وشك القيام به، ومغزى مبادرته. نفهم على الفور أنّ المهم ليس تناول الخبز وحسب، بل إدراك ما الّذي نأكله، وإدراك مصدره، وأيّ حياة يُغذّي فينا.

 

يُقدّم الفصح العنصر الأول لهذا الإطار.

 

هذا العيد مذكور بشكل صريح في الآية الرابعة، ويُشكّل خلفيّة الفصل السادس بأكمله: تُشير أعمال يسوع، بشكل واضح، إلى شخصيّة موسى وإلى سنوات إسرائيل الأربعين في الصحراء.

 

فكما يصعد موسى إلى الجبل ويُسلّم إسرائيل الشريعة الّتي تُحييهم، كذلك يصعد يسوع أيضاً إلى الجبل، ويجعل الجموع يجلسون (يوحنّا ٦: ٣) ويعطيهم غذاء للحياة.

 

وكما في أيّام الخروج، نجد هنا أيضاً جمهورًا سائرًا على الطريق؛ وفي كلا الحدثين، يفرض موضوع الخبز نفسه: دون الخبز لا توجد إمكانيّة للسير ولا للحياة.

 

لقد رافق طلبُ الخبز مسيرة العبرانيّين في الصحراء بأكملها، ابتداءً من الخروج من مصر حتّى الدخول إلى أرض الحريّة: هل يستطيع الربّ إطعام شعبه؟ وكيف سيتمكّن من فعل ذلك، في أرض جافة قاسية إلى حدّ كبير؟

 

ثمة تساؤل، في المقطع الإنجيلي لهذا اليوم أيضاً، يطرحه يسوع على فيلبّس: وهو تساؤل جوهريّ. في الواقع يسأل يسوع فيلبّس من أين يمكن ابتياع الخبز القادر على إشباع عدد كبير من الناس (يوحنّا ٦: ٥).

 

عبارة “من أين” هي ظرف مكان يستخدمه يوحنّا كثيراً: وعندما يستخدمه، يشير دائماً إلى أصل مختلف عمّا قد يبدو للقارئ للوهلة الأولى. “من أين” ظرف مكان يشير دائما إلى أصل يسوع، أي الآب السماوي.

 

نجد هذا الظرف، على سبيل المثال، في الفصل الثاني، عندما لا يعرف رئيس الوليمة من أين يأتي النبيذ؛ وفي الفصل الثالث، يتحدّث يسوع إلى نيقوديموس عن ريح لا يُعرف من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. وفي الفصل الرابع، تسأله المرأة السامريّة من أين يمكنها الحصول على الماء الحيّ.

 

وفي الصدامات بين يسوع وقادة الشعب، يتساءل هؤلاء مراراً من أين يأتي يسوع؛ هم يسألونه، وفي الوقت نفسه يدّعون أنهم يعرفون الجواب (يوحنّا ٧: ٢٧).

 

إنّ الأمر المشترك الذي يجمع بين رئيس الوليمة في عرس قانا، ونيقوديموس، والمرأة السامريّة هو “عدم المعرفة“: لا أحد منهم يعرف من أين تأتي الهبة الظاهرة الآن أمام عيونهم؛ والسبب هو أنّ الإنسان لا يعرف من أين تأتي الحياة، وهو لا يمتلكها، ولم يخلقها ولا يعلم إن كان يستطيع أن يعطيها بمفرده.

 

هذه بالضبط هي اللحظات التي يكشف فيها يسوع عن نفسه على أنه الشخص الذي يأتي من الآب ويعطي حياة الآب.

 

حين يدّعي الإنسان أنه يعرف، فإنّه، عوضاً عن ذلك، يغلق نفسه عن الهبة، مثل قادة الشعب، الذين يعتقدون أنّهم يعرفون كل شيء ولا ينتظرون أي أمر جديد.

 

في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد، “لا يعرف” فيلبّس من أين يحصل على الخبز. يعرف فيلبّس شيئاً واحداً، وهو أمرٌ أساسيٌّ: يعرف أنّ ما يملكه ليس كافياً لشراء الخبز (يوحنّا ٦: ٧).

 

يمكننا القول إن فيلبس يعرف أن هذا الخبز لا يتم شراؤه، وأنه لا يمكن الحصول عليه بالمال.

 

إنّ الخبز الّذي يوشك يسوع أن يُعطيه، ذلك الخبز الّذي يأتي من عند الآب، لا يمكن شراؤه بل تقبّله، ومن أجل الحصول عليه ينبغي الدخول في منطق المجانيّة والهبة.

 

ولكي يحدث هذا، ولكي يكون ممكناً إعادة فتح طريق الهبة في مسيرة البشر، هناك أمران ضروريّان.

 

هناك أولا الحاجة إلى طفل (يوحنّا ٦: ٩) يقدم القليل الذي لديه. وهذا القليل هو حياته. صحيح أنّ الهبة تأتي من الربّ، ولكن لا يمكنها الوصول إلينا سوى من خلال ما نحن عليه وما هو لدينا. هذا هو منطق التجسّد.

 

ومن ثمّ من الضروري أن يمرّ هذا “القليل” بين يدي يسوع: تلك اليدين الّلتين لا تمتدّان كي تأخذا أو تمتلكا. إنّهما اليدان الّلتان لا تحتفظان شيئا لنفسهما.

 

إن كانت الحركة التي قام بها آدم وحوّاء هي مدّ اليد في سبيل الأخذ، فإنّ حركة يسوع، على النقيض من ذلك، هي حركة الشخص الّذي يأخذ كي يُعطي.

 

يكمن الفرق كلّياً في كلمة إفخارستيّا أي رفع الشكر: هكذا ينظر يسوع إلى الحياة، كهبة نشكر الله عليها ونشارك الإخوة فيها.

 

ولهذا السبب فإنّ خبزه يكفي للجميع ويمكنه إشباع الجميع، وبوفرة.