موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"إنّ زيادة الموارد الماليّة المخصصة للتسليح قد عادت مجدّدًا في المرحلة الحاليّة أداة في العلاقات بين الدول، مما يظهر بأنّ السلام لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا كان قائمًا على توازن في امتلاك كلّ دولة للسلاح. ويؤدي كل هذا إلى الخوف والرعب، ويهدّد الأمن، وذلك بسبب نسيان أنه يمكن لحدث غير متوقع ولا يمكن السيطرة عليه أن يطلق شرارة مفجِّرة".
هذه هي الكلمات التي قالها البابا فرنسيس، قبل أقل من عامين، بمناسبة مرور 60 عامًا على رسالة "السلام في الأرض"، وهي ذات صلة اليوم على ضوء الأحداث في أوروبا. فقد أعلنت المفوضيّة الأوروبيّة عن خضة لحشد 800 مليار يورو للدفاع عن الاتحاد الأوروبي. "إعادة تسليح أوروبا" هو اسم الخطة، التي تستحضر معها لحظات مأساويّة من "الخوف والرعب" من الماضي القريب.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، أظهرت أوروبا، مع كلّ أسف، عجزها عن اتخاذ المبادرات الدبلوماسيّة. وبدت قادرة فقط على إمداد أوكرانيا بالأسلحة، والتي تعرّضت لهجوم غير عادل من جانب القوات الروسية، ولكنها لم تتمكن من اقتراح أو متابعة مسارات تفاوضيّة ملموسة لإنهاء الصراع الدموي. والآن، وفي أعقاب مبادرات مماثلة من جانب قوى عالمية أخرى، تستعد أوروبا لاستثمار مبلغ باهظ قدره 800 مليار يورو في الأسلحة. ولا تُستخدم هذه الأموال لمكافحة الفقر، أو لتمويل البرامج التي من شأنها تحسين الظروف المعيشية لأولئك الذين يفرون من بلدانهم بسبب العنف والبؤس، أو لتعزيز الرعاية الاجتماعيّة والتعليم والمدارس، أو لضمان مستقبل إنساني للتكنولوجيا، أو لدعم المسنين. بل تُستخدم بدلاً من ذلك لملء الترسانات وبالتالي جيوب مصنعي الأسلحة، على الرغم من أن الإنفاق العسكري من جانب دول الاتحاد الأوروبي يتجاوز بالفعل إنفاق الاتحاد الروسي. فهل هذا هو المسار الصحيح لضمان مستقبل من السلام والازدهار للقارة العجوز والعالم أجمع؟ وهل يضمن سباق التسلح أمننا حقًا؟ وهل هذا حقًا هو المفتاح لإعادة اكتشاف جذورنا وقيمنا واسترجاعها؟
بدلاً من إنشاء صندوق عالمي للقضاء نهائيًّا على الجوع وتعزيز التنمية المستدامة في جميع أنحاء العالم -باستخدام نسبة ثابتة من الإنفاق العسكري- كما اقترح البابا لسنة اليوبيل، يتم وضع خطط لتخزين أسلحة جديدة، وكأن الترسانات النووية المخزنة بالفعل لا تشكّل تهديدًا كافيًا لإطلاق العنان لكارثة قادرة على تدمير البشرية مرات عديدة. وكأن "الحرب العالمية الثالثة تخاض على مراحل" التي استحضرها البابا قبل عقد من الزمان لم تكن التهديد الحقيقي الذي يجب تجنبه. وبدلاً من السعي إلى دور نشط وبنّاء في جهود السلام والمفاوضات، يخاطر الاتحاد الأوروبي بأن يصبح موحدًا فقط في تصعيد إعادة التسلح.
يعكس هذا مرة أخرى ما أسماه البابا فرنسيس في نيسان 2022 "نمط الحرب"، الذي يؤدي إلى "الاستثمار في شراء الأسلحة" مع القول "نحن بحاجة إليها للدفاع عن أنفسنا". لقد أشار البابا إلى فقدان "الاندفاع نحو السلام" الذي ميّز الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة. ولاحظ بمرارة أنه "بعد سبعين عامًا، نسينا كل ذلك... لقد فرض نمط الحرب نفسه مرة أخرى. نحن غير قادرين على تخيل نمط آخر. لم نعد معتادين على التفكير في نمط السلام".
ألا يكون من الضروري أن يكون لدينا قادة، بدلاً من التركيز على إعادة التسلح، يحيون تلك الروح ويلتزمون بالحوار لإنهاء الحرب في أوكرانيا وغيرها من الصراعات؟ قبل عامين، في حديثه في بودابست، طرح البابا فرنسيس سؤالاً حاسمًا على القادة الأوروبيين والعالميين. لقد ردد الكلمات التي قالها روبرت شومان في عام 1950: "إنّ المساهمة التي يمكن أن تقدمها أوروبا المنظمة والحيوية للحضارة لا غنى عنها للحفاظ على العلاقات السلمية"، لأن "السلام العالمي لا يمكن ضمانه إلا من خلال الجهود الإبداعية المتناسبة مع المخاطر التي تهدده". ثم سأل البابا: "في الوقت الحاضر، هناك العديد من المخاطر؛ ولكنني أسأل نفسي، وأنا أفكر ليس أقلها في أوكرانيا التي مزقتها الحرب، أين الجهود الإبداعية من أجل السلام؟".
كان التحوّل الجيوسياسي المتوقع، مع تغيير القيادة في البيت الأبيض، أن يؤدي إلى مبادرة مشتركة على غرار ما اقترحه البابا، بهدف إنهاء المذبحة التي تجري في قلب أوروبا المسيحية. صرّح أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين مؤخرًا في مقابلة: "ينشأ السلام الحقيقي من مشاركة جميع الأطراف. يجب أن يحصل الجميع على شيء ما؛ في التسوية، لا يمكن لأحد أن يحصل على كل شيء، ويجب أن يكون الجميع على استعداد للتفاوض. وإلا فلن يكون السلام مستقرًا ودائمًا أبدًا. يجب أن نعود إلى هذا النهج؛ وإلا فإن العالم سيصبح غابة، لا شيء فيها سوى الصراعات وعواقبها الرهيبة من الموت والدمار".
بدلاً من "إعادة تسليح أوروبا"، ألا ينبغي أن تكون الخطة الحقيقية الوحيدة، والنداء الواقعي الوحيد الذي يمكن إطلاقه اليوم هو "السلام من أجل أوروبا"؟ ونحن نسأل هذا مرددين كلمات البابا التي قالها يوم الأحد الماضي من غرفته في مستشفى جيميلي: "من هنا، تبدو الحرب أكثر عبثية".