موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢١ فبراير / شباط ٢٠٢٣
البطريرك ساكو يكتب: مسيحيو الشرق كنز ينبغي المحافظة عليهم
في ضوء الجمعيّة السينودسيّة القاريّة للكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة 12-18 شباط 2023 بيروت، لبنان

الكاردينال لويس روفائيل ساكو :

 

شعبٌ يعيشُ في التاريخ

 

نحن سكان الأرض الأصليون، نحن هنا قبل المسيحية، وبقينا فيها مع المسيحية نحو ألفي سنة. عند قدوم المسلمين كنا الغالبية. وتوصل آباؤنا معهم بحكمتهم الى عقد للعيش المشترك Modus vivendi لإدارة شؤونهم الخاصة، والنظر في قضاياهم عِبر محاكمهم الكنسية.

 

يعيش المسيحيون حياتهم في تاريخ أيامهم السابق منه والحالي، وفي المجتمعات حيث يقيمون وليس خارجاً عن التاريخ. و تعايشوا مع  الأرض واعتبروها وطنهم، أي مكاناً للمشاركة مع مواطنيهم و إذ خلقوا مجالاً للتعاون الفعال بينهم. واذكر هنا دورهم الرائع في زمن الأمويين وفي النهضة العلمية في العصر العباسي الذهبي حيث ساهموا بمهاراتهم وعلومهم في ترجمة المعارف اليونانية الى السريانية والعربية من خلال تأسيسهم صرحا ثقافيا اطلقوا عليه  اسم “بيت الحكمة”.

 

وعند قيام دولهم الحديثة لم يألوا المسيحيون جهداً في المساهمة في بنائها، ولم يدخروا طاقاتهم الخلاقة في سبيل في سبيل تطور الحياة بكل مفاصلها. وكانوا  يحولون  مشاعر القلق والخوف وعدم اليقين تجاه المستقبل بسبب الحروب والصراعات الى الصلاة لانهم يؤمنون بان التاريخ تدبير الهي “اني في ظل جناحيك أعتصم” (مزمور 57/ 1).

 

صحيح انهم في الخمسين سنة الماضية وبسبب التحديات الجمّة انغلقوا على ذاتهم وكنائسهم، لكنهم أمام الشعور بعدم الأمان لجأ العديد منهم الى الهجرة كحلّ لمشاكلهم… والحصيلة أن المسيحيين غَدَو أقلية عددية في أرضهم، لكنهم أقلية نوعية بثقافتهم ومهاراتهم وإخلاصهم لأوطانهم ولا يزالون يمثّلون علامة رجاء لشعوبهم.

 

 

شعب جريح

 

لقد أثّرت الأزمات المتلاحقة في العقدين الأخيرين على حياة المجتمعات الشرقية الى حدّ كبير: ومنها على وجه الخصوص الصراعات، تنامي التطرّف الذي يبث الكراهية ويغذّي الأحقاد، تصاعد وتيرة العنف والعقلية الطائفية والمحاصصاتية، وظاهرة الميليشيات والفساد السياسي والاقتصادي، ولعدم وجود قوّة رادعة (دولة قوية) ولا قانون يُنفَّذ..

 

إنطلاقاً من واجبها الوطني، دافعتْ الكنائس عن الحضور المسيحي، لكن الكنيسة لا تقوم مقام الدولة مهما كان تأثيرها في المجتمع. المشكلة هي في عجز المسؤولين، بتدوير الزوايا لبناء نَسَق مشترك يضمن حقوق الجميع. كذلك عدم تعاطي الدولة مع هموم المواطنين وفشلها في إرساء قواعد الاحترام المتبادل والشراكة الإنسانية والوطنية، خصوصاً في التعامل مع ما يعانيه المسيحيون من صعوبات وعدم إلائهم عناية خاصة، وتثبيتهم في أرضهم بشكل موضوعي، وحماية حقوقهم كاملة، ما دفع النُخَب الوطنية والمسيحية الى الهجرة. لان واقع أوطانهم غير مريح!

 

 

المستقبل: السينودسية المعية – السير معاً

 

ان فكرة السينودسية التي طرحها البابا فرنسيس عام 2021 للسير معاً ليست للكنيسة الكاثوليكية فحسب، إنما لكل الكنائس ولكل المؤمنين بالله. اذ يتحتم عليهم ان يسيروا معاً بشكل من الأشكال وليس منعزلين، لان توجّهم هو نحو الله والإنسان من خلال العودة الى الروحانية العميقة والإصغاء الى ما يريده الله منّا، والأمانة لصوته لنكتشف شيئاً فشيئاً إرادته.

 

علينا نحن المسيحيين، ان ننزع الخوف ونندمج في أوطاننا، معنيون مع المسلمين بالتزام بعضنا البعض في هذا الشرق من خلال توسيع أسلوب الحوار بوعيٍّ أكبر. انه قدَرُنا، إنطلاقاً من الاُفق الإنساني والإيماني والوطني، أن نعمل لخدمة أوطاننا ومواطنينا، بعيداً عن الأوهام والأنانية والانعزال، للوصول الى غايات حَسَنة ومقدَّسة بدون ضغط خارجي أو طائفي.

 

 انه من الضرورة، من أجل تجديد الذهنية الحاليّة عِبر الخروج من الذات، والانفتاح على الآخر، وحمل آلآم بعضنا البعض كإخوة ومواطنين، والحفاظ على تنوّعنا ووحدتنا، والأمانة على الإيمان بالله كمصدر ثقة وثبات. وهنا أشدد على دور المرجعيات الدينية، على نشر ثقافة الاعتراف بالآخر وقبوله واحترام عقيدته الدينية. هذا الشعور الإنساني والإيماني والوطني سيولد فينا توافقاً وانسجاماً ومسؤولية وعملاً مشتركاً لصالح الجميع.

 

 

المسارات

 

لنركّز على المسارات الاتية:

 

* صيانة حياة كل إنسان وحقوقه وكرامته لأنه صورة الله، ولأن الله خلقه ليعيش بشكل لائق ومحترم وسعيد.

 

* إرساء روح المحبة والتسامح والاحترام والكرامة، والتضامن والتعاون المبني على الثقة المتبادلة والتواصل المجتمعي وفق الخير العام، لان هذه الأفكار تنبع من رسالة الأديان.

 

* ثقافة المكونات والعقلية الطائفية لا تخدم قيام دولة وطنية حديثة، دولة قوية وذات سيادة. المواطَنَة تقوم على الفرد وليس على الديانة، والمواطَنة تعني المساواة، وأن القانون يحمي حقوق الجميع وواجباتهم. علاقتنا مع الأرض- الوطن هي علاقة مع كل ما هو موجود عليها. واكتسبنا هوية هذه الأرض بسبب ارتباطاتنا الكثيرة فيها، كونها الأقوى والأهم، لأن الهوية القبلية والطائفية تُضعِف الهوية الوطنية.

 

* ثقافة السلام تقوم على الاحترام والتسامح والتعايش بدل ثقافة الانتقام. والعيش المشترك هو ضرورة وجودية ما دمنا نحتاج الى بعضنا البعض. هناك أسس إنسانية ودينية واجتماعية للعيش معا .من المؤسف ان كل المكونات تعيش حالة من الانقسام والتخندق.