موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
ترأس بطريرك القدس للاتين، الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، صباح اليوم السبت، القداس الاحتفالي بمناسبة عيد مريم العذراء مريم سلطانة فلسطين وسائر الأرض المقدّسة، وذلك في مزار رافات غرب القدس، في أوّل تجمّع كنسي كبير منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزّة.
وأقيم القداس في باحة المزار المريمي الذي شُيّد عام 1927، بمشاركة عدد من الأساقفة والكهنة، والرهبان والراهبات، وفرسان وسيدات القبر المقدس، وحشود من المؤمنين القادمين من مختلف رعايا الأرض المقدسة، جاؤوا ليجددوا صلاة الرجاء حول العذراء مريم في زمن ما بعد الحرب.
وفي عظته، توقّف البطريرك بيتسابالا عند المعنى الروحي لهذا اليوم الذي يجمع الكنيسة حول العذراء، مستلهمًا من قراءة سفر أعمال الرسل الدعوة للعودة إلى الحياة بشجاعة ورجاء. وأشار إلى العبارة: «فَرَجَعوا إِلى أُورَشَليمَ مِن جَبَلِ الزَّيتون» (أع 1: 12)، معتبرًا أنّ هذه العودة تعبّر عن استعادة الحياة والإيمان بعد الألم والضياع الذي عاشه التلاميذ بعد موت المسيح.
وقال غبطته إنّه بعد صلب يسوع شعر التلاميذ بالخيبة والضياع، لكن لقاءهم بالمسيح القائم أعاد إليهم الحياة، فأصبح الرجاء الذي بدا مفقودًا إيمانًا حيًّا وراسخًا. وهكذا نحن أيضًا اليوم مدعوون لأن ننهض، رغم ما نعيشه من صعوبات وآلام.
وتطرّق البطريرك بيتسابالا إلى تأثير الحرب الطويلة على أبناء الأرض المقدّسة، وما خلّفته من جراح وخوف وعدم ثقة. وأشار إلى أنّ الصراع، رغم قساوته، أصبح جزءًا من واقع الكنيسة ورسالتها، مشدّدًا على أنّ الحرب ليست مجرّد مرحلة عابرة نتجاوزها، بل هي المكان الذي تُدعى فيه الكنيسة لتشهد للرجاء، وتنشر نور المسيح في قلب الظلمة.
وقال: «الصراع الذي نعيشه، بما يحمله من تعقيدات سياسية ودينية، وما يخلّفه من مخاوف وأحكام مسبقة متبادلة، أصبح جزءًا من هويّتنا الكنسيّة. ليست هذه أمورًا ينبغي فقط أن نتخطّاها كي نحيا، بل هي المكان الذي تُدعَى فيه الكنيسة لتعبّر عن حياتها، وفي هذا السياق تُرسَل لتُشع نورها وتنشر رؤيتها ورجاءها الذي لا يزول».
وأكد غبطته أنّ هذه الدعوة «ليست فردية فحسب، بل هي دعوة موجّهة إلى الكنيسة بأسرها، جماعة المؤمنين. نحن مدعوّون إذًا لأن نختار كيف نعيش في هذا الصراع: هل نترك له أن يشكّل فكرَنا ونظرتَنا، أم نختار نحن، كمسيحيّين، الطريقة التي نعيش بها هذا الواقع؟ فلنسأل ذواتنا: ألدينا كلمة حقيقية مختلفة تعبّر عن رؤيتنا للحياة في هذه الأرض المقدّسة؟».
ودعا البطريرك بيتسابالا المؤمنين إلى عدم الاستسلام للشعور بالعجز أو الانغلاق، بل إلى عيش الحياة اليوميّة بوعي وإيمان ومحبّة، والانطلاق مجدّدًا نحو المجتمع والعائلة والرعية؛ تمامًا كما فعل التلاميذ الذين عادوا إلى أورشليم «وهم في فرح عظيم» بعد صعود الرب.
وقال: «إنّ دعوتنا اليوم هي أن نعود إلى حياتنا ونحن نحمل في قلوبنا ذلك ’الفرح العظيم‘ الذي اختبره التلاميذ بعد الصعود. ففي قلب واقعهم اليومي نالوا الروح القدس، فتحوّل الخوف إلى قوّة، واليأس إلى رجاء، والحزن إلى انطلاقٍ جديد. هكذا نحن أيضًا مدعوّون لأن نسمح لروح الحياة أن يجدّد فينا ما خمد، وأن يتدفّق في تفاصيل وجودنا الشخصي والجماعي».
وشدّد غبطته على أنّ هذا الانطلاق من جديد لا يمكن أن يتحقّق إلا انطلاقًا من روح الصلاة التي جمعت التلاميذ، إذ «كانوا يُواظبون على الصلاة بقلب واحد»، داعيًا المؤمنين إلى أن يجعلوا من الصلاة منبع قوّة وثبات في وسط التحدّيات.
وحثّ البطريرك بيتسابالا المؤمنين ليرفعوا الصلاة إلى الله طالبين منه «بشفاعة العذراء القديسة، أن يمنحنا القوة والشجاعة لنطوي الصفحة، ونبدأ من جديد في بناء حياتنا، مستمدّين القوة والعزيمة من لقائنا بالرب القائم من بين الأموات».
وأكد أنّ «العذراء مريم تذكّرنا اليوم أنّ الليل قد يحيط بنا، لكن المسيح القائم هو نورنا. وإذا كان النور معنا، فلا خوف من الظلمة! لا ينبغي أن نخاف الصعوبات التي لا بد أن تواجهنا، بل أن نطلب الشجاعة لنواصل مسيرتنا»، كما تدعونا لـ«نخلع أعمال الظلام ونلبس سلاح النور (روما 13: 12)، وأن نتوقّف عن مجرد البكاء على الموت الذي يحيط بنا، ونبدأ من جديد في بناء مساحات ترحب بالحياة والرجاء، وأن نرفع أنظارنا لنرى الخير الكثير الذي لا يزال يُصنع من حولنا ويغذّي رجاءنا، لأنّه حتى في هذا السياق الصعب الذي نعيشه، يبقى الخير ممكنًا».
وحيّا البطريرك بيتسابالا العديد من مبادرات التضامن والمساعدة التي ظهرت خلال فترة الحرب كـ«بصيصٌ من نور، وسط ليلٍ يخيّم بظلمته»، مشيرًا إلى مبادرات من رجال ونساء من شتّى الخلفيات، وإلى تضامن الكنائس حول العالم، وبعضها تعيش في فقر شديد.
وأشار غبطته بشكل خاص في الأطفال الذين اقتسموا القليل الذي يملكونه مع أقرانهم في الأرض المقدّسة، وكأنّ هذه المبادرات قد «أيقظت مقابل قوّة التنين، ذاك الرمز العظيم للشرّ في سفر الرؤيا، طاقةً خفيّة من الخير والتضامن والشركة والمحبّة».
وأكد البطريرك أنّ «الشرّ يبقى عاجز أمام المحبّة. وهناك بالضبط نريد أن نكون نحن: في موضع الحبّ«، داعيًا المؤمنين إلى الثبات في الرجاء وعدم السماح للخوف أو الإحباط بأن يشلّ مسيرتهم الروحية والإنسانية. وقال: «فلننهض إذن بشجاعة، ولننظر إلى الأمام بثقةٍ لا تتزعزع، لأنّ الله لم يتركنا وحدنا، ولن يتركنا أبدًا».
وفي ختام عظته، أوكل البطريرك بيتسابالا أبرشيّة القدس والكنيسة في الأرض المقدسة إلى شفاعة العذراء مريم سلطانة فلسطين، طالبًا منها أن تفتح القلوب على الرجاء وتمنح المؤمنين القوّة ليكونوا شهودًا أمناء للسلام والفرح.