موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ أغسطس / آب ٢٠٢٥
البابا يترأس أمسية صلاة شارك فيها نحو مليون شاب وشابة في يوبيل الشباب
ثلاث خطوات في درب الرجاء: الصداقة، الشجاعة، واللقاء بالمسيح

أبونا :

 

اجتمع نحو مليون شاب وشابة في منطقة تور فيرغاتا، على مشارف العاصمة الإيطاليّة روما، مساء السبت 2 آب 2025، للاحتفال بيوبيل الشباب. ومع حلول الليل، ترأس البابا لاون الرابع عشر أمسية صلاة تخللتها ترانيم روحيّة، وقراءات من الكتاب المقدّس، وسجود للقربان الأقدس.

 

وكان الحدث محوره جلسة أسئلة وأجوبة، أجاب خلالها البابا على ثلاثة أسئلة طرحها شبّان وشابات من الحجّاج، بالإسبانيّة والإيطاليّة والإنجليزيّة، تناولت مواضيع الصداقة الحقيقيّة، وشجاعة الاختيار وقرارات الحياة، واللقاء بالرّب وحضوره.

 

⮜ الصداقة الحقيقيّة

 

جاء السؤال الأوّل من فتاة مكسيكيّة تساءلت: كيف يمكن، في زمن تطغى فيه وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يبدو أن هناك تواصلاً كبيرًا لكنه يفتقر إلى العميق والمتانة، وأن نجد صداقة حقيقية ومحبّة صادقة تقودان إلى رجاء؟ كما وسألت: كيف يمكن للإيمان أن يساعدنا على بناء مستقبلنا؟

 

في إجابته، شدّد الأب الأقدس على أنّ العلاقات الإنسانيّة ضروريّة لكلّ إنسان. فنحن جميعًا أبناء لآخرين، وتبدأ حياتنا برباط، وننمو من خلال الروابط. وأوضح أنّ للثقافة دورًا محوريًّا في هذه المسيرة، إن تعد بمثابة "الشفرة" التي من خلالها نفهم أنفسنا وننظر إلى العالم. وكما في القواميس، تحتوي كلّ ثقافة على مفردات نبيلة وأخرى دارجة، على قيم وأخطاء، وعلينا أن نميّزها ونتعلّم منها. وأوضح أنّ البحث الصادق عن الحقيقة لا يجعلنا نتلّقى الثقافة فحسب، بل يُمكننا تحويلها عبر خياراتنا وقرارتنا اليوميّة.

 

وفي حديثه عن الروابط، أشار إلى أنّ الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي تُشكّل فرصة استثنائية للحوار والتلاقي وتبادل المعرفة. لكنها تصبح مشوّشة حين تخضع للمنطق التجاري ولمصالح تُفرغ العلاقات من معناها. وذكّر بتحذير سلفه البابا فرنسيس من أن وسائل الاتصال والدعاية قد تُستخدم لجعل الإنسان مستهلكًا ومهووسًا ومُخدَّرًا، مما يحوّله إلى أداة في يد السوق، ويجرّده من إنسانيته. كما أشار إلى خطورة الخوارزميات التي باتت تحدّد لنا ما يجب أن نراه ونفكر فيه، ومَن علينا أن نرتبط بهم، ما يُفرز نوعًا من العلاقات القلقة والمشوّشة.

ثمّ استشهد البابا بسيرة القديس أغسطينوس، الذي عاش فترة شباب مضطربة، لكنه لم يستسلم ولم يُسكت صوت قلبه، بل بحث عن الحقيقة التي لا تُخَيِّب والجمال الذي لا يزول. وكيف عثر على الصداقة الحقيقية؟ بلقاءه مع يسوع المسيح، الذي كان يبحث عنه قلبه.

 

وأكد الأب الأقدس أن المستقبل يُبنى باتباع يسوع، الصديق الأبدي. واستعاد كلمات القديس أغسطينوس: لا وجود لصداقة حقيقية خارج المسيح. فالصداقة مع المسيح، وهي جوهر الإيمان، ليست فقط عنصرًا مساعدًا في بناء المستقبل، بل هي بمثابة "النجم القطبي" الذي يدلّ الطريق.

 

وشدّد على أن الصداقات التي تنبع من هذه العلاقة بالمسيح تصبح صادقة، وسخية، وحقيقية. ودعا الشباب إلى أن يحبوا بعضهم بعضًا في المسيح، ويروا وجه يسوع في كلّ إنسان، مشدّدًا على أن الصداقة قادرة على تغيير العالم، لأنّها درب للسلام.

⮜ شجاعة الاختيار واتخاد القرارات

 

ثم أجاب قداسته على سؤال شابة إيطاليّة تمحور حول كيفية امتلاك الشجاعة للاختيار واتخاذ القرارات.

 

وأوضح البابا أن اتخاذ القرارات هو فعل بشري أساسي، لكن إذا تأملنا فيه بعمق، ندرك أننا لا نختار مجرد "شيء ما"، بل نختار "شخصًا ما"، أي أننا نختار مَن نريد أن نكون. وأضاف أن القدرة على اتخاذ القرارات تُكتسب من خلال خبرات الحياة، ولكن قبل كل شيء، من التذكّر أننا نحن أنفسنا قد تم اختيارنا أولًا. فقد نلنا الحياة كعطيّة مجانية، دون أن نطلبها أو نقررها. لم يكن وجودنا نتيجة قرار منا، بل ثمرة محبة سبقتنا واحتضنتنا. وأشار قداسته إلى أن الصديق الحقيقي هو ذاك الذي يساعدنا على إدراك هذه النعمة وتجديدها عندما نواجه اختيارات حاسمة في حياتنا.

 

وتوقف عند ما قالته الشابة من أن "الاختيار يعني في بعض الأحيان التخلّي عن شيء"، وهو ما قد يشكّل عائقًا. وأكّد البابا أن هذا صحيح، ولكن من أجل أن نكون أحرارًا فعلًا، علينا أن ننطلق من "صخرة" ثابتة تسند خطواتنا، وهي محبّة الله التي تسبقنا وتفاجئنا وتتجاوزنا بلا حدود. ومن هذه المحبة نستمد شجاعة الاختيار. وأوضح أن هذه المحبّة قد تجلّت بشكل كامل في شخص المسيح، الذي بذل ذاته من أجل خلاص العالم، مظهرًا أن هبة الذات هي الطريق إلى تحقيق الذات.

واستعاد البابا كلمات القديس يوحنا بولس الثاني التي قالها للشباب في هذا المكان نفسه قبل 25 عامًا: إن يسوع هو من تبحثون عنه حين تحلمون بالسعادة. هو من ينتظركم حين لا يُرضيكم شيء مما تجدونه. هو الجمال الذي يجذبكم، وهو من يدفعكم إلى نزع الأقنعة التي تجعل الحياة زائفة. وأضاف البابا لاون الرابع عشر أن الاختيارات الجذرية، كاختيار الزواج أو الكهنوت أو الحياة المكرّسة، هي تعبير حقيقي عن هبة الذات، وفيها تكمن السعادة. وقال: فلنتعلّم أن نهب أنفسنا، أن نقدّم حياتنا للآخرين.

 

وفي ختام جوابه، أراد البابا أن يذكّر بفتاتين اختارتا المجيء إلى روما للمشاركة في يوبيل الشبيبة، لكنهما توفيتا خلال هذه الأيام، وهما ماريا من إسبانيا وباسكال من مصر، داعيًا الجميع إلى الصلاة من أجلهما، ومن أجل عائلتيهما، وأيضًا من أجل شاب إسباني نُقل إلى مستشفى الطفل يسوع في روما.

⮜ اللقاء بالرّب القائم

 

وجاءت بعد ذلك إجابة قداسة البابا على السؤال الثالث والأخير، والذي طرحه شاب من الولايات المتحدة، حول: كيف يمكننا أن نلتقي الرّب القائم في حياتنا، وأن نثق بحضوره حتى في أوقات الاختبارات وعدم اليقين. استهلّ البابا إجابته بالإشارة إلى ما جاء في الوثيقة التي دعا من خلالها البابا فرنسيس إلى يوبيل الرجاء، والتي حملت عنوان: "الرجاء لا يُخَيِّب". وفيها كتب أن في قلب كل إنسان رجاء، هو بمثابة رغبة وتوق للخير.

 

وأوضح البابا لاون أن كلمة "القلب" في الكتاب المقدّس لا تُشير فقط إلى المشاعر، بل إلى أعمق أعماق كيان الإنسان، بما في ذلك الضمير. وأضاف أن فهمنا لما هو خير يتكّون من خلال الأشخاص الذين أثروا فينا: أولئك الذين أحسنوا إلينا، وأصغوا إلينا بمحبّة، وساعدونا. هؤلاء شكّلوا ضمائرنا، وجعلونا نميل إلى الخير ونبحث عنه في خياراتنا اليوميّة.

 

ثم قال: "إنّ يسوع هو الصديق الذي يرافقنا دومًا في تشكيل ضمائرنا". وتابع: "وإن أردتَ حقًا أن تلتقي بالرب القائم، فاستمع إلى كلمته التي هي إنجيل الخلاص، وتأمل في أسلوب حياتك، واسعَ إلى العدالة لبناء عالم أكثر إنسانيّة، واخدم الفقير، وكن شاهدًا للخير الذي نريد دائمًا أن نتلقاه من القريبين منا".

كما دعا البابا الشباب إلى الاتحاد مع المسيح من خلال الإفخارستيا وعبادة القربان الأقدس، ينبوع الحياة الأبدية. وحثّهم على أن يدرسوا ويعملوا ويحبوا على مثال يسوع، المعلّم الصالح، الذي يسير دائما إلى جانبنا. ودعاهم إلى أن يتوجهوا إلى الرّب قائلين: أمكث معنا يا رب، لأنّنا بدونك لا نستطيع أن نفعل الخير الذي نتمناه. أنت تريد خيرنا، بل أنت ذاتك خيرنا. ومَن يلتقونك، يريدون أن يلتقيك الآخرون أيضًا، لأنّ كلمتك نور، يلمع أقوى من أي نجم، وينير حتى أحلك الليالي.

 

ثم استعاد البابا قول البابا بندكتس السادس عشر المتكرر: "من يؤمن، لا يكون أبدًا وحيدًا." وأوضح أن اللقاء بالمسيح يتحقق في الكنيسة، أي في شركة الذين يبحثون عنه بصدق. وخاطب الشباب قائلاً: "كم يحتاج العالم اليوم إلى مُرسلي الإنجيل، إلى شهودٍ للعدالة والسلام! وكم يحتاج المستقبل إلى رجال ونساء يكونون شهودًا للرجاء! هذا هو النداء الذي يوجّهه الرب القائم إلى كل واحد وواحدة منكم".