موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥
البابا للإعلاميين في يوبيلهم: أروا قصص رجاء، وليكن سردكم للأحداث أيضًا سردًا للرجاء

فاتيكان نيوز :

 

في إطار يوبيل عالم الاتصالات الذي يعقد في الفاتيكان، من 24 وحتّى 26 كانون الثاني، التقى قداسة البابا فرنسيس، ظهر السبت، في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، صحفيين وعاملين في مجال الإعلام قدموا من جميع أنحاء العالم.

 

وللمناسبة وجّه قداسته كلمة قال فيها: لقاؤنا هذا هو أول حدث كبير في السنة المقدسة المكرّسة لـ"عالم حيوي"، عالم التواصل. يتمُّ الاحتفال باليوبيل في مرحلة صعبة من تاريخ البشرية، فيما لا تزال الحروب وأعمال العنف وإراقة الدماء البريئة تجرح العالم. لذلك، أود أن أشكر أولاً جميع العاملين في مجال الإعلام الذين يعرّضون حياتهم للخطر لكي يبحثوا عن الحقيقة وينقلوا أهوال الحرب. أرغب في أن أتذكر في الصلاة جميع الذين ضحّوا بحياتهم في هذا العام الأخير، الذي كان من بين الأكثر فتكًا للصحفيين. لنُصلِّ بصمت من أجل زملائكم الذين وقّعوا تقاريرهم بدمائهم. كما أرغب أن نتذكر معًا جميع الذين تم سجنهم فقط لأنهم كانوا أوفياء لمهنتهم كصحفيين أو كمصورين أو كعاملين في تصوير الفيديو، لأنهم أرادوا أن يذهبوا لكي يروا الأمور بأعينهم وينقلوا ما شاهدوه. إنهم كثيرون! في هذه السنة المقدسة، في هذا اليوبيل لعالم الإعلام، أطلب ممن لديهم السلطة أن يتم الإفراج عن جميع الصحفيين المسجونين ظلمًا. ليفتح لهم أيضًا "باب" يمكنهم من خلاله أن يعودوا إلى الحرية، لأن حرية الصحفيين تُسهم في نمو حريتنا جميعًا. حريتهم هي حرية لكل فرد منا.

 

تابع: أطلب –كما طلبت مرارًا وكما فعل أسلافي من قبلي– أن تُحمى وتُصان حرية الصحافة وحرية التعبير، إلى جانب الحق الأساسي في أن يكون الإنسان مُطلعًا. إن الإعلام الحر، المسؤول، والصحيح هو إرث من المعرفة والخبرة والفضيلة يجب الحفاظ عليه وتعزيزه. وبدونه، نخاطر بعدم القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب؛ وبدونه، نصبح عرضة لتحيزات متزايدة واستقطابات تدمر الروابط الاجتماعية وتمنعنا من إعادة بناء الأخوَّة. إن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي دعوة ورسالة. أنتم، العاملون في مجال الإعلام، لديكم دور أساسي في المجتمع اليوم، سواء من خلال نقل الأحداث أو من خلال الطريقة التي تقدمونها بها. نحن نعلم أن اللغة، والسلوك، والنبرة، يمكنهم أن يكونوا حاسمين وأن يُحدثوا فرقًا بين إعلام يعيد إحياء الرجاء، ويخلق جسورًا، ويفتح الأبواب، وبين إعلام يعمّق الانقسامات، والاستقطابات، ويُبسِّط الواقع. إنَّ مسؤوليتكم فريدة من نوعها. ومهمتكم ثمينة. أدوات عملكم هي الكلمات والصور، ولكن قبل ذلك يأتي البحث والتأمل، القدرة على الرؤية والاصغاء؛ وعلى أن تضعوا أنفسكم في مكان المهمشين، والذين لا تتم رؤيتهم ولا يتمَّ الإصغاء إليهم، وكذلك على أن تُحيوا – في قلوب من يقرأ كم أو يسمعكم أو يشاهدكم – الشعور بالخير والشر، والحنين إلى الخير الذي تروونه وتشهدون عليه من خلال روايتكم.

 

أضاف: أود، في هذا اللقاء المميز، أن أتعمق أكثر في الحوار معكم، وأنا ممتن لفرصة القيام بذلك انطلاقًا من الأفكار والأسئلة التي شاركها للتو اثنان من زملائكم. ماريا، لقد تحدثتِ عن أهمية الشجاعة لبدء التغيير الذي يطلبه منا التاريخ، إنَّ التغيير الضروري لتخطّي الكذب والكراهية. وهذا الأمر صحيح، لكي نبدأ التغيير نحن بحاجة للشجاعة. إنَّ كلمة "شجاعة" تشتقُّ من الكلمة اللاتينية  "cor"، "cor habeo"والتي تعني "أن يكون لديك قلب". الشجاعة هي تلك القوة الداخلية التي تنبع من القلب، والتي تمكننا من مواجهة الصعوبات والتحديات بدون أن نسمح للخوف بأن يتغلب علينا. مع كلمة "شجاعة"، يمكننا أن نلخِّص جميع تأملات الأيام العالميّة لوسائل الاتصالات الاجتماعية على مدار السنوات الأخيرة، وصولاً إلى الرسالة التي تحمل تاريخ الأمس: الإصغاء بالقلب، التكلُّم بالقلب، حفظ حكمة القلب، ومشاركة رجاء القلب. خلال هذه السنوات الأخيرة، كان القلب هو الذي يرشدني في تأملاتنا حول التواصل. ولهذا السبب، ولذلك أريد أن أضيف إلى ندائي لتحرير الصحفيين نداءً آخر يخصنا جميعًا: من أجل "تحرير" القوة الداخلية للقلب، لكلِّ قلب! والاجابة لهذا النداء تقع على عاتقنا نحن، وليس على أحد غيرنا.

تابع: الحرية هي شجاعة الاختيار. لنستغل مناسبة اليوبيل لكي نجدّد أنفسنا ونستعيد هذه الشجاعة: شجاعة أن نحرر القلب مما يفسده. لنعِد الاحترام للجزء الأسمى والأنبل من إنسانيتنا إلى مركز قلوبنا، ولنتجنب أن نملؤه بما يُفسده. إنَّ خيارات كل واحد منا مهمّة، على سبيل المثال، في التخلص من "التعفن العقلي" الذي يسببه الإدمان على التمرير المستمر على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الظاهرة التي وصفها قاموس أكسفورد بأنها كلمة العام. وأين نجد العلاج لهذا المرض غير في العمل معًا جميعًا على التنشئة، ولاسيما تنشئة الشباب؟ نحن بحاجة إلى محو أمية إعلامية، لكي نربّيَ أنفسنا ونربّي الآخرين على الفكر النقدي، وعلى صبر التمييز الضروري لاكتساب المعرفة؛ ولتعزيز النمو الشخصي والمشاركة الفعالة لكل فرد في مستقبل جماعته. نحن بحاجة إلى رجال أعمال شجعان، ومهندسين تقنيين شجعان، لكي لا يُفسد جمال التواصل. لا يمكن للتغييرات الكبرى أن تكون نتيجة عقول نائمة، بل هي تبدأ من شركة القلوب المستنيرة.

 

أضاف: هكذا كان قلب القديس بولس. وتحتفل الكنيسة اليوم تحديدًا بذكرى ارتداده. إنَّ التغيير الذي حدث في هذا الرجل كان حاسمًا جدًّا، لدرجة أنه لم يطبع فقط تاريخه الشخصي، بل تاريخ الكنيسة بأسرها. وقد حدثت هذه التحوّلات في بولس بسبب اللقاء المباشر وجهًا لوجه مع يسوع القائم من بين الأموات والحي. إنَّ القوة التي تدفعنا للسير على درب التغيير التحويلي تنبع دائمًا من التواصل المباشر بين الأشخاص. فكروا في كميّة قوة التغيير التي تكمن في عملكم، كلما نجحتم في خلق تواصل بين حقائق قد تكون متناقضة بسبب الجهل أو التحيُّز! إنَّ ارتداد القديس بولس قد جاء نتيجة للنور الذي غمره والتفسير الذي قدمه له حنانيا في دمشق. كذلك يمكن لعملكم أيضًا وعليه أن يؤدي هذا الدور: أن يجد الكلمات المناسبة لأشعة النور تلك التي تخترق القلوب وتجعلنا نرى الأمور بشكل مختلف. وهنا أود أن أستند إلى موضوع قوة السرد التحويلية، التي أبرزها كولوم، قوة سرد القصص والإصغاء إليها. لنعد للحظة إلى ارتداد بولس. هذا الحدث قد رواه كتاب أعمال الرسل ثلاث مرات، لكن المحور الرئيسي يبقى دائمًا لقاء شاول الشخصي مع المسيح. قد يختلف أسلوب السرد، لكن التجربة المؤسسة والمحورية تبقى ثابتة.

تابع: أن نروي قصة ما يعادل الدعوة للقيام بخبرة. عندما اقترب التلاميذ الأوائل من يسوع وسألوه: "يا معلم، أَينَ تُقيم"، لم يعطهم عنوان بيته، بل قال: "هلمّوا فانظروا". إنَّ القصص تكشف كوننا جزء من نسيج حي؛ ترابط الخيوط التي تربطنا ببعضنا البعض. ليست كل القصص جيدة، ولكن حتى القصص السيئة يجب أن تُروى. علينا أن نُظهر الشر لكي يتمَّ افتداءه، ولكن علينا أن نرويه بشكل جيد لكي لا تنهار خيوط التعايش الهشة. لذلك أوجّه في هذا اليوبيل، نداءً آخرًا إليكم، أنتم الحاضرون هنا، وإلى جميع الإعلاميين في العالم: أروا أيضًا قصص رجاء، قصص تغذي الحياة. ليكن سردكم للأحداث أيضًا سردًا للرجاء. وعندما تسردون قصص الشر، اتركوا مجالًا لإمكانية إعادة ربط ما قد انقطع، ولديناميكية الخير التي يمكنها أن تُصلك ما قد انكسر. ازرعوا الأسئلة. أن تسردوا الرجاء يعني أن تروا فتات الخير الخفي حتى عندما يبدو أن كل شيء قد ضاع، يعني أن تسمحوا للآخرين أن يرجوا على غير رجاء. يعني أن تتنبّهوا للبراعم التي تنبت حتى عندما تكون الأرض لا تزال مغطاة بالرماد. أن تسردوا الرجاء يعني أن تتحلوا بنظرة قادرة على تحويل الأشياء، وتجعلها تصبح ما يمكن أن تكونه، وما ينبغي أن تكونه. يعني أن تجعلوا الأمور تسير نحو مصيرها. هذه هي قوة القصص. وهذا ما أشجعكم على فعله: أسردوا الرجاء، وشاركوه. هذه هي – كما يقول القديس بولس – "معركتكم الصالحة".