موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٩ مارس / آذار ٢٠٢٥
البابا في يوبيل المتطوعين: أعمال خدمتكم المجانيّة تُزهر براعم إنسانيّة جديدة

أبونا :

 

مفوضًا عن البابا فرنسيس الراقد على سرير الشفاء منذ 14 شباط الماضي، ترأس الكاردينال مايكل تشيرني، رئيس دائرة تعزيز التنمية البشرية المتكاملة، اليوم الأحد 9 آذار 2025، القداس الإلهي في ساحة القديس بطرس بمناسبة يوبيل عالم المتطوعيّن، بمشاركة مائة من الكرادلة والأساقفة والكهنة، ونحو ثلاثين ألف متطوع ومتطوعة قدموا من مختلف أنحاء العالم.

 

وخلقت سترات المتطوعين الملونة مشهدًا لونيًا، إلى جانب الملابس الليتورجية الأرجوانية التي يتم ارتداؤها من قبل الإكيروس في زمن الصوم الأربعيني. وقد كان الحضور الروحي للبابا فرنسيس في الاحتفال حاضرًا من خلال شعار البابويّة المعروض على الشرفة المركزية لكاتدرائية القديس بطرس.

 

شكرًا للمتطوعين

 

وفي العظة التي أعدّها البابا فرنسيس، وقرأها الكاردينال تشيرني، ركز البابا على بداية مسيرة الزمن الأربعيني، ولكن بكلمات خاصة للمتطوعين الذين يزورون روما للحج في سنة اليوبيل. واستذكر خدمتهم والتزامهم إلى جانب العديد من الناس؛ فكلّ "أعمال الخدمة المجانيّة الصغيرة الكثيرة" التي "في صحاري الفقر والوِحدة"، "تؤدي إلى أن تُزهر براعم إنسانيّة جديدة في الحديقة التي هي حُلم الله، ولا يزال الله يحلم بها لنا جميعًا".

 

وقال: "أشكركم كثيرًا، أيّها الأعزّاء، لأنّكم على مثال يسوع، تخدمون القريب دون أن تستغلّوا القريب. أنتم على الطّرقات وبين البيوت، وبجانب المرضى، والمتألّمين، والمسجونين، ومع الشّباب وكبار السّنّ، وتفانيكم هذا يُفيض الرّجاء في كلّ المجتمع".

وفيما يلي النص الكامل لعظة البابا فرنسيس:

 

قاد الرُّوح يسوع في البَرِّيَّة (راجع لوقا 4، 1). كلّ سنة، تبدأ مسيرتنا، مسيرة الزّمن الأربعينيّ، باتّباع الرّبّ يسوع في هذا المكان، الذي مرّ به وغيَّرَ معناه من أجلنا. عندما دخل يسوع البَرِّيَّة، حدث في الواقع تغيير حاسم: مكان الصّمت صار مكان إصغاء. ووُضِعَ الإصغاء تحت الاختبار، لأنّه يجب أن نختار بين صوتَين متناقضَين تمامًا، فإلى مَن نصغي. يقدِّم لنا الإنجيل هذا التّدريب، ويشهد أنّ مسيرة يسوع بدأت بفعل طاعة: فالرّوح القدس، وهو قوّة الله، هو الذي قاده إلى حيث لا ينبت شيء جيِّد من الأرض والسّماء لا تمطر. في البَرِّيَّة، الإنسان يختبر فقره الماديّ والرّوحي، وحاجته إلى الخبز والكلمة.

 

يسوع أيضًا، الإنسان الحقّ، أحسَّ بالجوع (راجع الآية 2)، ومدّةَ أربعين يومًا يُجَرَّبُ بكلمة ليست مِن الرُّوح القدس، بل من الشّرير، من إِبليس. مع دخولنا في الأربعين يومًا من الزّمن الأربعينيّ، لنفكّر في أنّنا نحن أيضًا معرَّضون للتّجربة، ولكنّنا لسنا وحدنا: يسوع معنا، وهو الذي يفتح لنا الطّريق في البَرِّيَّة. ابن الله الذي صار بشرًا لم يكتفِ بأن يعطينا نموذجًا في الجهاد ضدّ الشّر. بل أكثر من ذلك، إنّه يمنحنا القوّة لنقاوم هجماته ونَثبُت في المسيرة.

لنتأمّل في ثلاثة أمور في تجربة يسوع وتجربتنا أيضًا: البداية، والطّريقة، والنّتيجة. ونقارن بين هاتَين الخبرتَين، لِنجد سندًا لمسيرة توبتنا.

 

أوّلًا، البّداية، كان يسوع قاصدًا هذه التّجربة: ذهب إلى البَرِّيَّة لا للاستعراض، ولإظهار قوّته، بل لأنّه كان ابنًا مستعدًّا لطاعة روح الآب، فاستجاب لإرشاده بسرعة. أمّا تجربتنا فتُفرَضُ علينا: الشّرّ يسبق حرّيتنا، ويفسدها في العمق مثل ظلٍّ في الدّاخل وشَرَكٍ خبيث. وبينما نطلب من الله ألّا يتركنا في التّجربة (راجع متّى 6، 13)، فلنتذكّر أنّه قد استجاب أصلًا لهذه الصّلاة بيسوع، الكلمة الذي تجَسَّد ليبقى معنا دائمًا. الرّبّ يسوع قريب منّا ويهتمّ بنا خاصّةً في مكان المحنة والشّكّ، أي عندما يرفع المُجرِّب صوته. المُجرِّب هو أبو الكَذِب (راجع يوحنّا 8، 44)، وفاسد ومُفسِد، لأنّه يعرف كلمة الله لكنّه لا يفهمها، بل يحرِّفها: كما فعل منذ زمَنِ آدم في جنة عدن (راجع تكوين 3، 1-5)، وكما يفعل الآن مع آدم الجديد، يسوع، في البَرِّيَّة.

 

هنا نرى الطّريقة الفريدة التي بها تعرَّض المسيح للتّجربة، أي في علاقته مع الله، أبيه. الشّيطان هو الذي يَفصِل، وهو المُفرِّق، بينما يسوع هو الذي يجمع ويوحِّد بين الله والإنسان، وهو الوسيط. أراد الشّيطان الفاسد أن يدمّر هذه العلاقة، فجعل يسوع كائنًا مميّزًا: "إِنْ كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفًا" (الآية 3). وأيضًا: "إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل" (الآية 9) من شُرفَةِ الهَيكَلِ. أمام هذه التّجارب، يسوع، ابن الله، قرَّر هو كيف يكون ابنًا. بالرّوح الذي يقوده، بيَّن اختياره كيف يريد أن يعيش علاقته البنويّة مع الآب. وهذا ما قرّره الرّبّ يسوع: هذه العلاقة الفريدة والحصريّة مع الله، أنّه ابنه الوحيد، صارت علاقة تشمل الجميع دون استثناء. العلاقة مع الآب هي العطيّة التي يُشرِكُنا فيها يسوع في العالم لخلاصنا، وهي ليست كنزًا يغار عليه (راجع فيلبي 2، 6) ليتباهى به وليحقّق نجاحًا ويجذب أتباعًا له.

نحن أيضًا نتعرَّض للتّجربة في علاقتنا مع الله، ولكن باتجاه معكوس. في الواقع، الشّيطان يهمس في آذاننا أنّ الله ليس أبانا حقًا، بل هو في الحقيقة تخلّى عنّا. يريد الشّيطان أن يُقنعنا بأنّه لا يوجد خبز للجياع، ولا حتّى من الحجارة، ولا الملائكة يساعدوننا في المصائب. بل إنّ العالم في قبضة قِوى شرّيرة، تسحق الشّعوب بغطرسة حساباتها وعنف الحرب. لكن، في اللحظة التي فيها يحاول الشّيطان أن يجعلنا نعتقد أنّ الرّبّ يسوع بعيدٌ عنّا، ويجعلنا نشعر بخيبة الأمل، الله يزداد قربًا منا، ويقدّم حياته لفداءِ العالم.

 

ونصل إلى الوجه الثّالث: نتيجة التّجارب. يسوع، مسيح الله، ينتصر على الشّرّ. ويطرد الشّيطان، الذي سيعود ليُجرّبه "عندما يَحينُ الوَقت" (الآية 13). هكذا يقول الإنجيل، وسنتذكّر ذلك عندما سنسمع على الجلجلة مَن يطلب من جديد من يسوع ويقول له: "إِن كُنتَ ابنَ الله، فَانزِلْ عَنِ الصَّليب" (متّى 27، 40؛ راجع لوقا 23، 35). هُزِم المُجرِّب في البَرِّيَّة، لكن انتصار المسيح لم يكن نهائيًّا بعد: سيكون نهائيًّا في فِصحِه بموته وقيامته من بين الأموات.

 

بينما نستعدّ للاحتفال بسرّ الإيمان الأساسيّ، لنعترف أنّ نتيجة تجربتنا مختلفة. نحن نقع أحيانًا أمام التّجربة: لأنّنا كلّنا خطأة. لكن الهزيمة ليست نهائيّة، لأنّ الله يُنهضنا من كلّ سقطة بمغفرته، التي لا حدود لها في المحبّة. لذلك، تجربتنا لا تنتهي بالفشل، لأنّ المسيح فدانا من الشّرّ. وعندما نعبر البَرِّيَّة معه، فإنّنا نسير في طريق لم يكن موجودًا من قبل: يسوع نفسه يفتح لنا هذا الطّريق الجديد، طريق التّحرّر والفداء. وعندما نتبع الرّبّ يسوع بإيمان، نصير حجّاجًا بعد أن كنّا تائهين.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أدعوكم إلى أن تبدؤوا مسيرتكم، مسيرة الزّمن الأربعينيّ بهذه الطّريقة. وبما أنّنا نحتاج على طول الطّريق إلى تلك الإرادة الصّالحة التي يسندها ويعزّزها دائمًا الرّوح القدس، يسرّني أن أحيِّي جميع المتطوّعين الموجودين اليوم في روما من أجل حجِّكم في سنة اليوبيل. أشكركم كثيرًا، أيّها الأعزّاء، لأنّكم على مثال يسوع، تخدمون القريب دون أن تستغلّوا القريب. أنتم على الطّرقات وبين البيوت، وبجانب المرضى، والمتألّمين، والمسجونين، ومع الشّباب وكبار السّنّ، وتفانيكم هذا يُفيض الرّجاء في كلّ المجتمع. في صحاري الفقر والوِحدة، تؤدي أعمال الخدمة المجّانيّة الصّغيرة الكثيرة إلى أن تُزهر براعم إنسانيّة جديدة: هذه الحديقة كانت حُلمَ الله، ولا يزال الله يحلم بها لنا جميعًا.