موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤
البابا فرنسيس يلتقي أساتذة جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا
"كونوا باحثين قلقين عن الحقيقة، ولا تطفئوا الشغف أبدًا، لكي لا تستسلموا لكسل الفِكر. كونوا روّادًا في خلق ثقافة الإدماج، والشفقة، والتنبّه للأشدَّ ضعفًا وإزاء التّحدّيات الكبيرة في العالم الذي نعيش فيه" هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته إلى أساتذة جامعة لوفان الكاثوليكية

فاتيكان نيوز :

 

في إطار زيارته الرسوليّة إلى بلجيكا التقى قداسة البابا فرنسيس عصر الجمعة أساتذة جامعة لوفان الكاثوليكية وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها يسعدني أن أكون بينكم هنا، وأشكر رئيس الجامعة على كلمات التّرحيب، التي ذكّرنا بها بتاريخ هذه الجامعة والتّقاليد التي تتجذّر فيها، بالإضافة إلى بعض التّحدّيات الرّئيسيّة التي تسائلنا اليوم جميعًا. هذه هي مهمّة الجامعة الأولى: أن تقدّم تنشئة متكاملة لكي يجد الأشخاص الأدوات الضرورية لفهم الحاضر والتّخطيط للمستقبل.

 

تابع البابا فرنسيس يقول إنَّ التّنشئة الثّقافيّة في الواقع، ليست غاية في حدّ ذاتها، ولا يجب على الجامعات أن تخاطر بأن تصبح "منابرًا في الصّحراء". هي، بطبيعتها، أماكن تزخر بالأفكار والمحفّزات الجديدة لحياة الإنسان وفكره ولتحدّيات المجتمع، أيّ إنّها فسحات مولِّدة. من الجميل أن نفكّر في أنّ الجامعة تولِّد الثّقافة والأفكار، ولاسيما أنها تعزّز شغف البحث عن الحقيقة، في خدمة التّقدّم البشري. إنَّ الجامعات الكاثوليكيّة، مثل هذه الجامعة، مدعوّة بشكل خاصّ لكي "تقدّم الإسهام الحاسم بأن تكون الخميرة والملح ونور إنجيل يسوع المسيح والتقليد الحي للكنيسة المنفتحة على الدوام على آفاق جديدة واقتراحات جديدة". لذلك، أودّ أن أوجّه إليكم دعوة بسيطة: وَسّعوا حدود المعرفة! هذا لا يعني أن نكثّر الأفكار والنظريات، وإنما أن نجعل من التّنشئة الأكاديميّة والثّقافيّة فسحة حيويّة تشمل الحياة وتخاطب الحياة.

 

أضاف الأب الأقدس يقول نجد في الكتاب المقدّس قصّة قصيرة يرويها سفر الأخبار، يطيب لي أن أذكرها هنا. بطلها يعبيص، الذي وجّه إلى الله هذه الصّلاة: "لو أَنَّكَ تُبارِكُني وتُوَسِّعُ أَرْضِي". اسم يعبيص يعني "الألم"، وقد أُطلق عليه هذا الاسم لأنّ أمّه تألّمت كثيرًا أثناء ولادته. لكن يعبيص لا يريد الآن أن يبقى مُغلقًا في ألمه، يجرّ معه شكواه، ولذلك صلّى إلى الله وسأله أن "يوسّع حدود" حياته، لكي يدخل في فسحة مباركة، أكبر ومضيافة. إن رسالة الجامعة الكبرى هي أن توسّع الحدود وأن تصبح فسحة مفتوحة للإنسان والمجتمع.

 

تابع الحبر الأعظم يقول في السياق الذين نعيش فيه في الواقع، نجد أنفسنا أمام وضع له وجهان، وحدوده ضيّقة. من جهة، نحن منغمسون في ثقافة مطبوعة بتخلّيها عن البحث عن الحقيقة. لقد فقدنا شغف البحث القلق، ولجأنا إلى راحة فكر ضعيف، في القناعة بأنّ جميع الأمور متساوية ومتشابهة، وأنّ كلّ شيء نسبيّ. ومن جهة أخرى، عندما نتكلّم عن الحقيقة في السياقات الجامعيّة أو في سياقات أخرى، غالبًا ما نسقط في موقف عقلاني نعتبر بموجبه حقيقي فقط ما يمكننا أن نقيسه ونختبره، كما لو أنّه تم اختصار الحياة فقط في المادّة وفيما هو مرئيّ. وفي كلتا الحالتين، تكون الحدود ضيّقة.

 

أضاف الأب الأقدس يقول في الجانب الأوّل، لدينا تعب الرّوح، الذي يسلِّمنا إلى الشّكّ الدّائم وغياب الشغف، كما لو كان من العبث أن نبحث عن معنى لواقع غير مفهوم. هذا الشّعور يظهر غالبًا في بعض شخصيّات روايات فرانز كافكا، الذي وصف الحالة المأساويّة والمقلقة لإنسان القرن العشرين. في حوار بين شخصيّتين في إحدى رواياته، نجد هذا القول: "أعتقد أنّك لا تهتمّ بالحقيقة فقط لأنّها مُتعبة جدًّا". إنَّ البحث عن الحقيقة هو مُتعب، لأنّه يجبرنا على أن نخرج من أنفسنا، ونخاطر، ونطرح الأسئلة على أنفسنا. ولذلك تجذبنا، في تعب الرّوح، حياة سطحيّة لا تطرح الكثير من الأسئلة، كما يجذبنا أيضًا بالطريقة عينها "إيمان" سّهل وخفيف ومريح، لا يضع شيئًا محور الشك والنقاش.

 

تابع الحبر الأعظم يقول على الجانب الثّاني، لدينا عقلانية بدون روح، نخاطر أن نقع فيها اليوم مجدّدًا، نتيجة تأثّرنا بالثّقافة التكنوقراطيّة. عندما يتحوّل الإنسان إلى مجرّد مادة فقط، وعندما يحصر الواقع داخل حدود ما هو مرئيّ، وعندما يكون العقل في الرّياضيات والمختبرات فقط، عندها يقلّ الذهول، الدهشة الداخلية التي تدفعنا لكي نبحث عمَّا هو أبعد، ولكي ننظر إلى السّماء، ونفتّش عن تلك الحقيقة الخفيّة التي تواجه الأسئلة الأساسيّة: لماذا أحيا؟ ما هو معنى حياتي؟ ما هو الهدف النّهائي لهذه الرّحلة؟ لقد كان رومانو غوارديني يسأل نفسه: لماذا وعلى الرغم من كل التقدم، ما زال الإنسان يجهل نفسه كثيرًا، وهذا الجهل يزداد أكثر؟ لأنّه فقد المفتاح لكي يفهم جوهر الإنسان. إنَّ قانون حقيقتنا يقول إنّ الإنسان لا يعرف نفسه إلّا إذا انطلق من الأعلى، وممّا هو فوقه، من الله، لأنّه يستمد وجوده منه فقط".

 

أضاف الأب الأقدس يقول أيّها الأساتذة الأعزّاء، ضدَّ تعب الرّوح والعقلانية التي لا روح لها، لنتعلّم نحن أيضًا أن نصلّي مثل يعبيص: "يا رب وسّع حدودنا!". ولنطلب من الله أن يبارك عملنا، في خدمة ثقافة قادرة على أن تواجه تحدّيات اليوم. إنَّ الرّوح القدس الذي قَبِلناه كعطيّة، يدفعنا لكي نبحث، ولكي نفتح مساحات فكرنا وعملنا، لكي يقودنا إلى الحقيقة الكاملة. نحن ندرك – كما قال لنا رئيس الجامعة في البداية – "أنّنا لا نعرف كلّ شيء بعد"، ولكن في الوقت عينه، على هذه المحدوديّة نفسها أن تدفعكم دائمًا إلى الأمام، وأن تساعدكم لكي تحافظوا على شعلة البحث متّقدة، ولكي تبقوا نافذة مفتوحة على عالم اليوم.

 

تابع الحبر الأعظم يقول وفي هذا الصّدد، أريد أن أقول لكم بصدق: شكرًا! شكرًا لأنّكم وسّعتم حدودكم، وصرتم فسحة مضيافة للعديد من اللاجئين الذين أُجبروا على الهرب من أراضيهم، وسط آلاف المخاطر، والصّعوبات والآلام الهائلة والفظيعة أحيانًا. لقد رأينا قبل قليل في الفيديو، شهادة مؤثِّرة جدًّا. وبينما يطالب البعض بتقوية الحدود، أنتم، كجماعة جامعيّة، قد وسّعتم حدودكم، وفتحتم أذرعكم لاستقبال هؤلاء الأشخاص المطبوعين بالألم، لكي تساعدوهم على الدّراسة والنّمو.

 

أضاف الأب الأقدس يقول نحن بحاجة إلى ما يلي: ثقافة توسّع الحدود، ولا تكون "طائفيّة" ولا تعلو على الآخرين، بل على العكس، تكون في عجينة العالم وتحمل إليه خميرة جيّدة، تساهم في خير البشريّة. وهذه المهمّة، وهذا "الرّجاء الأكبر"، قد أوكل إليكم!

 

وخلص البابا فرنسيس إلى القول قال أحد اللاهوتيّين من هذه الأرض، الذي كان ابن هذه الجامعة وأستاذ فيها: "نحن العلّيقة المشتعلة التي تسمح لله بأن يُظهر نفسه". حافظوا على شعلة النّار هذه مشتعلة، ووسّعوا الحدود! كونوا باحثين قلقين عن الحقيقة، ولا تطفئوا الشغف أبدًا، لكي لا تستسلموا لكسل الفِكر. كونوا روّادًا في خلق ثقافة الإدماج، والشفقة، والتنبّه للأشدَّ ضعفًا وإزاء التّحدّيات الكبيرة في العالم الذي نعيش فيه. ومن فضلكم، لا تنسَوا أن تصلّوا من أجلي.