موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
مع دروس التّعليم المسيحيّ هذه نبدأ بالتّأمّل في بعض اللقاءات التي يرويها الإنجيل، لنفهم الطّريقة التي بها يوقظ يسوع الرّجاء. في الواقع، هناك لقاءات تُنير الحياة وتحمل على الرّجاء. قد يحدث، مثلًا، أن يساعدنا أحدٌ لنرى صعوبة أو مشكلة نعيشها من منظور مختلف، وقد يقول لنا آخَر ببساطة كلمة تجعلنا لا نشعر بالوِحدة في الألم الذي نعيشه. وقد تكون هناك لقاءات صامتة أحيانًا، لا نقول فيها شيئًا، ولكن هذه اللحظات تساعدنا لنستعيد مسيرتنا.
اللقاء الأوّل الذي أودّ أن أتوقّف عنده هو لقاء يسوع مع نيقوديمُس، الذي يرويه الفصل الثّالث من إنجيل يوحنّا. أبدأ بهذا الحدث لأنّ نيقوديمُس رجل أثبت بقصّته أنّه من الممكن أن نخرج من الظّلام ونجد الشّجاعة لاتّباع المسيح.
ذهب نيقوديمُس إلى يسوع ليلًا، وهو وقت غير مألوف للقاء. وفي لغة يوحنّا، الزّمن له عادة قيمة رمزيّة: وهنا من المحتمل أنّ الليل يدلّ على الظّلام الذي في قلب نيقوديمُس. إنّه إنسان يعيش في ظلام الشّكوك، مِثلَ الظّلام الذي نشعر به عندما لا نفهم ماذا يحدث في حياتنا ولا نرى بوضوح الطّريق التي يجب أن نتبعها.
عندما نكون في الظّلام، فمن الطّبيعي أن نبحث عن النّور. ويوحنّا في بداية إنجيله كتب ما يلي: "كان النُّورُ الحَقّ، الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان، آتِيًا إِلى العالَم" (1، 9). لذلك، بحث نيقوديمُس عن يسوع، لأنّه شعر مسبقًا في داخله بأنّ يسوع يمكنه أن ينير ظلام قلبه.
مع ذلك، يقول لنا الإنجيل إنّ نيقوديمُس لم يستطع أن يُدرك على الفور كلام يسوع. لهذا نرى أنّ هناك سوء فهم كثير في هذا الحوار، وسخرية كثيرة أيضًا، وهي سمة من سمات يوحنّا الإنجيليّ. لم يفهم نيقوديمُس ما قاله له يسوع لأنّه استمرّ في تفكيره بحسب منطقه الشّخصيّ وقوالبه الفكريّة. كان إنسانًا له شخصيّة واضحة، ومكانة عامّة، فهو أحد رؤساء اليهود. ولكن يبدو أنّ حساباته لم تعد تعطي النّتيجة نفسها. شعر نيقوديمُس بأنّ شيئًا ما تغيّر في حياته. وأحسّ بالحاجة إلى أن يتغيّر، لكنّه لم يكن يعرف من أين يبدأ.
هذا الأمر يحدث لنا جميعًا، في بعض مراحل الحياة. إن لم نقبل أن نتغيّر، وإن انغلقنا على أنفسنا في تصلّبنا، وعاداتنا، وطريقتنا في التّفكير، فإنّنا نوشك أن نموت. الحياة تكمن في قدرتنا على التّغيّر لكي نجد طريقة جديدة لكي نُحبّ. في الواقع، تحدّث يسوع إلى نيقوديمُس عن ولادة جديدة، التي ليست ممكنة فحسب، بل ضروريّة في بعض لحظات مسيرتنا. في الحقيقة، التّعبير الذي استُخدم في النّصّ يحمل معنًى مزدوجًا، لأنّ كلمة (ἄνωθεν) يمكن أن تعني إمّا ”مِن عَلُ“ أو ”من جديد“. سيفهم نيقوديمُس، شيئًا فشيئًا، أنّ هذَين المعنيَين مرتبطان: إن سمحنا للرّوح القدس بأن يخلق فينا حياة جديدة، سنولد مرّة أخرى. وسنجد الحياة التي ربّما كانت على وشك أن تنطفئ في داخلنا.
اخترت أن أبدأ بنيقوديمُس أيضًا لأنّه إنسان أثبت من خلال حياته أنّ هذا التّغيير ممكن. نجح نيقوديمُس: ففي النّهاية، كان من بين الذين ذهبوا إلى بيلاطس ليطلبوا جسد يسوع (راجع يوحنّا 19، 39)! خرج نيقوديمُس أخيرًا إلى النّور، ووُلِد من جديد، ولم يعد بحاجة بعد إلى أن يبقى في الظّلمة.
التّغييرات تخيفنا أحيانًا. من ناحية، تشدّنا، وأحيانًا نرغب فيها، ولكن من ناحية أخرى نفضّل أن نبقى في راحتنا. لهذا فالرّوح القدس يشجّعنا على أن نواجه هذه المخاوف. ذكّر يسوع نيقوديمُس –وهو معلّم في إسرائيل– بأنّ بني إسرائيل أيضًا كانوا خائفين عندما كانوا يسيرون في الصّحراء. وتأمّلوا كثيرًا في مخاوفهم لدرجة أنّها أخذت شكل حيّات سامّة (راجع سفر العدد 21، 4-9). وليتحرّروا منها، كان عليهم أن ينظروا إلى الحيّة النّحاسيّة التي رفعها موسى على العصا، أي كان عليهم أن يرفعوا نظرهم ويقفوا أمام ما يخيفهم. فقط إن نظرنا إلى ما يخيفنا، يمكننا أن نتحرّر منه.
نيقوديمُس، مثلَنا كلِّنا، كان يمكنه أن ينظر إلى المصلوب، الذي غلب الموت، الذي هو أساس كلّ مخاوفنا. لنرفع نحن أيضًا نظرنا إلى الذي طعنوه، ولنترك يسوع يلتقي بنا نحن أيضًا. فيه نجد الرّجاء لنواجه التّغييرات في حياتنا ونُولد من جديد.