موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١ فبراير / شباط ٢٠٢٣
البابا فرنسيس مترئسًا القداس في كينشاسا: ضعوا الأسلحة، وعانقوا الرحمة

الفاتيكان :

 

في اليوم الثاني من رحلته الرسوليّة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، احتفل البابا فرنسيس، الأربعاء 1 شباط 2023، بالقداس الإلهي بمشاركة أكثر من مليون شخص، وذلك في مطار ندولو في العاصمة كينشاسا. وحثّ الحبر الأعظم في عظته على إلقاء السلاح ومعانقة الرحمة، وأن يكونوا مبشّرين بالسلام.

 

 

وفيما يلي النص الكامل لعظة البابا:

 

قال لنا الإنجيل قبل قليل إنّ فرح التّلاميذ كان كبيرًا أيضًا في ليلة الفصح، وأنّ هذا الفرح تدفّق فيهم "لِمُشاهَدَتِهمِ الرَّبّ" (يوحنّا 20، 20). في هذا الجو المليء بالفرح والاندهاش، تكلّم الرّبّ القائم من بين الأموات إلى تلاميذه. وماذا قال لهم؟ قال لهم أوّلًا كلمتَين: "السَّلامُ علَيكم!" (الآية 19). إنّها تحيّة، لكنّها أكثر من مجرّد تحيّة: إنّها وصيّة. لأنّ السّلام، ذلك السّلام الذي بشّر به الملائكة في ليلة بيت لحم (راجع لوقا 2، 14)، والسّلام الذي وعد يسوع بأن يتركه لتلاميذه (راجع يوحنّا ​​14، 27)، الآن، ولأوّل مرّة، أعطاه يسوع رسميًّا للتّلاميذ. سلام يسوع، الذي يُعطى لنا أيضًا في كلّ قداس، هو سلامٌ فصحيّ: سلامٌ جاء مع القيامة، لأنّه كان على الرّبّ يسوع أوّلًا أن يهزم أعداءنا، الخطيئة والموت، وأن يصالح العالم مع الآب. كان عليه أن يختبر وحدتنا وأن يتركه الجميع مثلنا، وأن يمر بكلّ أنواع الجحيم في حياتنا، وأن يعانق ويزيل المسافات التي تفصلنا عن الحياة وعن الرّجاء. الآن، بمجرد أن ألغَى المسافات بين السّماء والأرض، وبين الله والإنسان، أُعطي سلام يسوع إلى التّلاميذ.

 

لذلك لنضع أنفسنا إلى جانبهم. في ذلك اليوم كانوا في غاية الألم بسبب معثرة وشكّ الصّليب، كانوا مجروحين في داخلهم لأنهم تركوا يسوع وهربوا، ومحبطين من خاتمة الأحداث، وخائفين من أن ينتهي بهم الأمر مثله. كان فيهم شعور بالذنب والإحباط والحزن والخوف... إذن، أعطى يسوع التّلاميذ السّلام، وفي قلوبهم حطام، أعطاهم الحياة وهم يشعرون بالموت في داخلهم. بكلمات أخرى، جاء سلام يسوع في اللحظة التي بدا لهم فيها أنّ كلّ شيء قد انتهى، وفي اللحظات غير المنتظرة وغير المتوقعة، عندما لم يكن هناك بصيص أمل في السّلام. هذا ما يصنعه الرّبّ يسوع: إنّه يدهشنا، ويمدّ يده إلينا عندما نكون على وشك الغرق، وينتشلنا عندما نصل إلى القاع. أيّها الإخوة والأخوات، مع يسوع، الشّرّ لا ينتصر أبدًا، ولا تكون له الكلمة الأخيرة أبدًا. "إِنَّه سَلامُنا" (أفسس 2، 14) وسلامه ينتصر دائمًا. لذلك، نحن الذين ننتمي إلى يسوع لا يمكننا أن نسمح للحزن بأن يتغلَّب علينا، ولا يمكننا أن نسمح لقوى الاستسلام والقدر أن تتسرب إلينا. لو تنفَّس الجميع حولنا بمثل هذا، ينبغي ألّا يكون الأمر كذلك بالنسبة لنا: في عالم مصاب بالإحباط بسبب العنف والحرب، يصنع المسيحيّون ما صنع يسوع. هو كرّر لتلاميذه وألحّ: السَّلامُ علَيكم!" (راجع يوحنّا ​​20، 19. 21)؛ ونحن مدعوّون إلى أن نجعل هذا النّداء نداءَنا، ونعلن إلى العالم هذه البشرى نفسها، بشرى الرّبّ يسوع غير المتوقعة والنبويّة، بشرى السّلام.

 

وقد نتساءل، كيف نحافظ على سلام يسوع وننميه؟ هو نفسه يبيّن لنا ثلاثة ينابيع للسّلام، ثلاثة ينابيع لمواصلة تغذيته. هي المغفرة والجماعة والرّسالة.

 

لِنَرَ الينبوع الأوّل: المغفرة. قال يسوع لخاصّته: "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم" (الآية 23). ولكن قبل أن يعطي الرّسل سلطان المغفرة، غَفَرَ لهم. ليس بالكلمات، بل بعلامة، وهو أوّل ما أتمّه الرّبّ القائم من بين الأموات أمامهم. يقول الإنجيل: "أَراهم يَدَيْهِ وجَنبَه" (الآية 20). أي بيّن لهم الجراح، وقدّمها لهم، لأنّ المغفرة تُولَدُ من الجراح. تُولَدُ عندما لا تترك الجراح أثرًا للكراهية، بل تصير مكانًا فيه يتمّ إعطاء المجال للآخرين وقبول ضعفهم. ثمّ يصير الضّعف فرصة والمغفرة تصير طريق السّلام. لا يتمّ السّلام بترك كلّ شيء خلفنا وكأن شيئًا لم يحدث، بل بفتح القلب للآخرين بالحبّ. هذا ما صنعه يسوع: أمام بؤس الذين أنكروه وتخلّوا عنه، أراهم جراحه وفتح لهم ينبوع الرّحمة. لم يستخدم كلمات كثيرة، بل فتح قلبه المجروح ليقول لنا إنّه دائمًا مجروح بالحبّ من أجلنا.

 

أيّها الإخوة والأخوات، عندما يثقل علينا الشّعور بالذنب والحزن، وعندما لا تسير الأمور، نعرف أين ننظر: ننظر إلى جراح يسوع، المستّعد أن يغفر لنا بحبّه المجروح واللامتناهي. هو يعرف جراحكم ويعرف جراح بلادكم وشعبكم وأرضكم! جراحٌ تتلظَّى، تُسَمِّمُها باستمرار الكراهية والعنف، بينما يبدو أنّ دواء العدل وبلسم الرّجاء لا ينجحان أبدًا. أخي وأختي، يسوع يتألّم معك، ويرى الجراح التي تحملها في داخلك ويريد أن يعزيك ويشفيك، وأن يقدّم لك قلبه المجروح. الله يكرّر لقلبك الكلمات التي قالها اليوم على لسان النبيّ أشعيا: "سأَشْفيه وأَهْديه، وأَرُدُّ العَزاءَ لَه" (أشعيا 57، 18).

 

معًا نؤمن اليوم أنّه مع يسوع توجد دائمًا الإمكانيّة لأن يغفر الله لنا وأن نبدأ من جديد، وتوجد أيضًا القوّة لنغفر نحن أيضًا، لأنفسنا وللآخرين وللتاريخ! المسيح يريد هذا: أن يمسحنا بمغفرته ليعطينا السّلام والشّجاعة لنغفر بدورنا، والشّجاعة لنتمّم صلحًا كبيرًا من القلب. كم يفيدنا أن نطّهر قلوبنا من الغضب، والنّدم، ومن كلّ ضغينة وحقد! أيّها الأعزّاء، لتكن اليوم لحظة النّعمة لقبول وعيش مغفرة يسوع! لتكن اللحظة المناسبة لك، أنت الذي تحمل عبئًا ثقيلًا على قلبك وتحتاج إلى أن يُرفع عنك لتعود تتنفّس من جديد. ولتكن اللحظة المناسبة لك، أنت في هذا البلد الذي تقول إنك مسيحيّ، وترتكب العنف؛ لك، يقول الرّبّ يسوع: ”ضع أسلحتك، وعانق الرّحمة“. ولجميع الجرحى والمظلومين في هذا الشّعب يقول: ”لا تخافوا أن تضعوا جراحكم في جروحي، وألمكم في ألمي“. لنفعل ذلك أيّها الإخوة والأخوات. لا تخافوا من أخذ المصلوب من أعناقكم ومن جيوبكم، وأن تمسكوه بين أيديكم وأن تضعوه بالقرب من قلبكم لتشاركوا بجراحكم في جراح يسوع. ومتى عدتم إلى بيوتكم، خذوا المصلوب الذي لديكم إياه وعانقوه. لنعطِ المسيح فرصة ليشفِي قلوبنا، ولنلقِ عليه الماضي، لنلقِ كلّ خوف وضيق. ما أجمل أن نفتح أبواب قلبنا وأبواب البيت لسلامه! ولماذا لا تكتبون كلماته في غرفكم، وعلى ملابسكم، وخارج بيوتكم: السَّلامُ علَيكم! أظهروا هذه الكلمات، ستكون نبوءة للوطن، وبركة الرّبّ يسوع على كلّ من تلتقون به. السَّلامُ علَيكم!: لنسمح لأنفسنا بأن يغفر الله لنا وبأن نغفر نحن بعضنا لبعض!

 

لننظر الآن إلى الينبوع الثّاني للسّلام، وهو: الجماعة. يسوع القائم من بين الأموات لم يوجّه كلامه إلى التّلاميذ كلّ على حِدَة، بل التقى بهم معًا: وتكلّم معهم بصيغة الجمع، وأعطى سلامه إلى الجماعة الأولى. لا توجد مسيحيّة من دون جماعة، كما لا يوجد سلام من دون أخوّة. لكن الجماعة، إلى أين يجب أن تسير، وإلى أين تذهب لتجد السّلام؟ لننظر مرّة أخرى إلى التّلاميذ. قبل الفصح، كانوا يتبعون يسوع، لكنّهم كانوا ما زالوا يفكّرون بطريقة إنسانيّة زائدة: كانوا يتمنّون مسيحًا منتصرًا يطرد أعداءهم، ويصنع العجائب والمعجزات، ويزيد من اعتبارهم ونجاحهم. لكن هذه الرّغبات الدنيويّة تركتهم بأيدٍ فارغة، بل نزعت السّلام من الجماعة، وخلقت مناقشات ومعارضات (راجع لوقا 9، 46؛ 22، 24). بالنّسبة لنا أيضًا، يوجد هذا الخطر، وهو: أن نكون معًا ولكن نتقدّم وَحدَنا، ونبحث في المجتمع، وفي الكنيسة أيضًا، عن السُّلطة، والمناصب، والطّموحات... بهذه الطّريقة، نتبع الأنا الخاصّة بنا، بدل أن نتبع الإله الحقيقي، وينتهي بنا الأمر مثل هؤلاء التّلاميذ: مُنغلقين على أنفسنا في البيت، وخالين من الرّجاء وممتلئين من الخوف وخيبة الأمل. لكنّهم في الفصح وجدوا من جديد طريق السّلام مع يسوع، الذي نفخ فيهم وقال: "خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (يوحنّا 20، 22). ومع الرّوح القدس لن ينظروا بعد الآن إلى ما يفرّق بينهم، بل إلى ما يوحّدهم، سيذهبون إلى العالم لا من أجل أنفسهم، بل من أجل الآخرين، وليس من أجل أن يَظهَرُوا، بل من أجل أن يُعطوا الرّجاء، وليس لتحقيق الإجماع لصالحهم، بل ليبذلوا حياتهم بفرح من أجل الرّبّ يسوع والآخرين.

 

أيّها الإخوة والأخوات، الخطر هو أن نتبع روح العالم بدل أن نتبع روح المسيح. وما هو الطّريق كي لا نقع في فِخاخ السُّلطة والمال، وكي لا نستسلم للانقسامات، ولإغراءات روح التّسلّط الوظيفيّ التي تُفسِد الجماعة، ولأوهام المُتعة والشّعوذة الزّائفة التي تَضمنها؟ يقترح علينا الرّبّ يسوع مرّة أخرى على لسان أشعيا النّبي الذي قال: "أنا مع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح، لأُحيي أَرْواحَ المتواضِعين، وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين" (أشعيا 57، 15). الطّريق هو المشاركة مع الفقراء: هذا هو المُضادّ الحيويّ الأفضل ضدّ التّجربة لتقسيمنا، وامتلائنا بروح العالم. علينا أن نتشجّع لكي ننظر إلى الفقراء ونستمع إليهم، لأنّهم أعضاء في جماعتنا، لا غُرباء، فلا يمكن أن نزيلهم من نظرنا ومن ضميرنا. علينا أن نفتح قلبنا للآخرين، بدل أن نغلقه على مشاكلنا الخاصّة أو على غرورنا الخاصّ. لننطلق من جديد مع الفقراء وسنكتشف أنّنا كلّنا نتشارك الفقر الدّاخلي، وأنّنا كلّنا بحاجة إلى روح الله لكي نتحرّر من روح العالم، ونعرف أنّ التّواضع هو عظمة المسيحيّ والأخوّة هي الغِنَى الحقيقيّ. لنؤمن بالجماعة، وبمعونة الله، لِنَبْنِ كنيسة خالية من روح العالم، مليئة بالرّوح القدس، ومتحرّرة من الغِنَى من أجل نفسها وممتلئة بالمحبّة الأخويّة!

 

نأتي أخيرًا إلى الينبوع الثّالث للسّلام، وهو: الرّسالة. قال يسوع لتلاميذه: "كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا" (يوحنّا 20، 21). إنّه يرسلنا كما أرسله الآب. وكيف أرسله الآب إلى العالم؟ أرسله ليخدم ولكي يبذل حياته من أجل البشريّة (راجع مرقس 10، 45)، ولكي يُظهر رحمته لكلّ واحد (راجع لوقا 15)، ولكي يبحث عن البعيدين (راجع متّى 9، 13). بكلمة واحدة، أرسله من أجل الجميع: ليس فقط من أجل الأبرار، بل من أجل الجميع. بهذا المعنى، يتردّد صَدى كلمات أشعيا، الذي قال: "السَّلامَ السَّلامَ لِلبَعيدِ ولِلقَريب - قالَ الرَّبُّ" (أشعيا 57، 19). للبعيد، أوّلًا وقبل كلّ شيء، وللقريب: ليس فقط للذين ”يَخُصّوننا“، بل للجميع.

 

أيّها الإخوة والأخوات، نحن مدعوّون إلى أن نكون مُرسَلِي سلام، هذا ما يمنحنا السّلام. إنّه خيار نتخذه، وهو: أن نفسح مكانًا للجميع في قلبنا، وأن نؤمن بأنّ الاختلافات العرقيّة والإقليميّة والاجتماعيّة والدّينيّة والثّقافيّة تأتي لاحقًا وهي ليست عوائق، وأنّ الآخرين هم إخوة وأخوات، وأعضاء في الجماعة البشريّة نفسها، وأنّ كلّ واحدٍ هو هدف السّلام الذي أتى به يسوع للعالم. نحن نؤمن أنّنا نحن المسيحيّين مدعوّون إلى أن نتعاون مع الجميع، وأن نكسر دائرة العنف، وأن نفكّك مؤامرات الكراهية. نعم، المسيحيّون الذين أرسلهم المسيح، هُم مدعوّون، بحكم اسمهم وتعريفهم، إلى أن يكونوا ضميرَ سلامِ العالم: ليس فقط ضمائر تنتقد، بل ليكونوا شهود محبّة، ولا للمطالبة بالحقوق الخاصّة، بل بحقوق الإنجيل، وهي الأخوّة، والمحبّة والمغفرة، ولا ليكونوا باحثين عن المصالح الخاصّة، بل ليكونوا مُرسلِين للمحبّة الجنونيّة التي يحبّنا بها، ويحبّ كلّ إنسان.

 

السَّلامُ علَيكم!، يقول يسوع اليوم لكلّ عائلة، وجماعة، ومجموعة عرقيّة، وحَي ومدينة في هذا البلد الكبير. السَّلامُ علَيكم!: لِنَدَعْ كلمات ربّنا يسوع يتردّد صداها في قلوبنا، بصمت. ولْنَشْعُرْ بها موجَّهةً إلينا، ولْنَخْتَرْ أن نكون شهودًا للمغفرة، نصنع نحن جماعتنا، ونكون مُرسَلي سلام في العالم.