موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الأربعاء، ١٢ مايو / أيار ٢٠٢١
الأمير الحسن يكتب: عالمية القيم وتعظيم المشتركات الإنسانية

صحيفة الأهرام :

 

تلتقي الأمم والشعوب على جوامع قِيَميّة مشتركة من شأنها أن تؤسس لروابط وعلاقات راقية تخدم البشرية بأجمعها. وتعدّ "القيم الأخلاقيّة" على وجه التحديد من أهم القيم التي يجتمع على تعظيمها الناس في مختلف العصور والدهور.

 

تحثّنا القراءة المعمّقة للدين والدنيا على تعظيم الجوامع والمشتركات بين الناس وذلك من خلال أركان ثلاثة تبدأ من الايمان بوحدة الخالق، ثم الايمان بوحدة الأصل البشري، وتنتهي بوحدة المعيار الأخلاقي في التعامل مع الناس، وتتوضح هذه الأركان الثلاثة في قوله عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كُلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى (رواه الترمذي).

 

لا يمكن للبشرية أن تواجه التحديات التي تجتاح كوكبنا كالأوبئة والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية دون التعاون والتضامن، وهذا يستدعي تعزيز مفهوم القيم الانسانية المشتركة. وخلافا لما قد يعتقده البعض فإن “القيم الانسانية المشتركة” بمعناها العميق لا تُضعف الشُّعور بخصوصيَّة المعتقدات الدِّينيَّة، ولا تناقض الهُويَّة الثقافية أو الوطنية. فمهما اختلفت الأمم والشعوب في عقائدها وثقافاتها، فلا بد من وجود مشتركات تجمع بينها.

 

إن مهمة الدين الأساسيّة هي تكميل وتقويم مكارم الاخلاق. ونستجلي ذلك بوضوح في تأكيد القرآن على وحدة القيم الاخلاقية بين الناس من خلال تحريم الاعتداء على النفس البشرية، واعتباره الاعتداء على نفس واحدة هو بمثابة الاعتداء على الناس جميعا، وكذلك فإن الاحسان إلى نفس واحدة هو إحسان للناس جميعا.

 

تتكثف في شهر رمضان معاني القيم الانسانية بمعناها الأرحب، فرمضان هو شهر الرحمة والجود والتكافل والمواساة. وتكفينا هنا الاشارة القرآنية إلى اتصال تشريع الصيام بالشرائع السابقة التي تنزّلت على أنبياء الأمم الأخرى في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" فهي تشعرنا بأهمية استحضار المشتركات الدينية والقيميّة بين الأمم وأثرها في إقامة شعائرنا الدينية الخاصّة والتي تهدف في نهاية المطاف إلى غاية واحدة تتمثل بتزكية النفس وتحقيق الرقي الروحي والاخلاقي.

 

تُعزز القيم المشتركة مفهوم "الأخوة الإنسانية"، ونجد هذا المفهوم جليّا في رسالة البابا "كلنا أخوة" كما في قوله: "تعالوا نحلم باعتبار انتمائنا إلى إنسانيّة واحدة، وباعتبارنا عابري سبيل خُلِقنا من اللحم البشريّ نفسه، وأبناءٌ لهذه الأرض نفسها التي تأوينا جميعًا، وكلّ منّا يحمل غنى إيمانه أو قناعاته، وكلّ منّا بصوته الخاص، وجميعنا إخوة". فالأخوة الانسانية قيمة عالمية وحقيقة تاريخية وايمانية في الوقت ذاته، وقد عبّر القرآن عن هذه الحقيقة بأجمل صورة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1) فالانسانية التي صدرت من نفس ورحم واحدة جديرة بأن تجتمع بارادتها ووعيها من جديد، وهنا أقول إنَّ الزكاة هي أوضح تعبير عملي عن "الاخوة الانسانية" وما تحويه من معاني التضامن والتعاطف والتكافل، بالاضافة الى كونها تجسيدا لمفهوم الرحمة الذي هو غاية الرسالات والشرائع السماوية.

 

من القيم التي تلتقي عليها البشرية قيمة الكرامة الإنسانية، وهي قيمة تستظل في رحابها قيمة الانسان وتتأسس حولها أخلاقيات الجوار وروح الحوار. فكرامة الإنسان هي كرامة "أصلية" تستمد معناها من كونها هبةً من الله للجميع. وهذا يعني أن التمييز بين الناس على أساس اختلاف العرق أو اللون أو المعتقد، هو بمنزلة إساءة وانتقاص لتلك “الكرامة الأصلية” التي أنعم الله بها على الناس جميعا .

 

إن الاختلاف بين البشر في الثقافة أو المعتقدات لا يمنع من إقامة علاقات أخوية تعزز التضامن والوئام بينهم. فالاختلاف مدعاة للتعارف والتعاون على فعل الخير والابتعاد عن الاثم والعدوان "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة: 2). والتعاون يستلزم بناء الثقة وتعزيز مفهوم الخير العام، وهذا يؤسس لبناء الاستقرار ويحدّ من إمكانية حدوث النزاعات والحروب بين الأمم والشعوب، ونستذكر هنا "حلف الفضول" الذي يمثل أنموذجا راقيا للتعاون بين المجتمعات البشرية، وهو يؤكد رقي القيم الاخلاقية التي كانت عند العرب قبل الاسلام ورفضهم للظلم، وقد أقرّ النبي عليه الصلاة والسلام ماجاء في هذا الحلف بقوله: "لو أني دعيت به في الإسلام لأجبت" (سيرة ابن كثير).

 

ومن القيم المشتركة التي ترتقي بها المجتمعات البشرية قيمة التعددية والتنوع، وهي قيمة تنسجم والسنن الاجتماعية التي خلق الله الناس عليها، فالخالق تعالى هو الذي أراد أن يكون الناس مختلفين؛ لأن ذلك يُحدث بينهم حراكًا معرفيًّا يرتقي بهم نحو التعارف والتعاون والتسابق في الخيرات ، والتي تمثل بمجموعها غاية الاديان والشرائع.

 

تسهم قيمة التعددية في تقبل الاختلاف وشحذ طاقات الانسان ودفعه نحو التنافس في عمل الصالحات واستباق الخيرات ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].

 

شهدنا في العقود الاخيرة اهتزازا مؤرقا في قيمة التعددية وتصاعدا للمشاعر العدائية والانقسامات الطائفية بين أبناء المجتمعات الواحدة في عالمنا العربي! وهنا أقول لا معنى للتعددية الدينية دون احترام معتقدات الاخرين وحقهم في الايمان والعيش وفقا لتلك المعتقدات. ولا بد وأن يرافق هذا الاحترام تشريعات تحمي حقوق اتباع الاديان في ممارسة تعاليم دينهم .

 

اشتملت الحضارة العربية الإسلامية على تنوع ثقافي وعِرقي ولغوي، امتزج فيه العرب بالأتراك والبربر والفرس والأكراد والهنود، وغيرهم من الأعراق والقوميات. وفي الوقت الذي كان اليهود يعانون فيه من التمييز والإقصاء في أحيائهم المعزولة (الجيتو) في أوروبا، كان العلماء اليهود في العراق ومصر والمغرب والأندلس جزءًا من الحركة العلمية والأدبية في الحضارة العربية الإسلامية، وهذا يؤكد أن قوة الشعوب ورقيّها إنما يكون في قدرتها على تجسيد قيمها الاخلاقية في واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وهنا أشير إلى تجمع مواطني هلسنكي الذي نشأ بعد الحرب الباردة كمبادرة من المجتمع المدني سعت إلى جعل حقوق الإنسان قيمة مشتركة يجب على جميع الدول احترامها من خلال الضغط الأدبي والفكري والاجتماعي والمعنوي على الحكومات والبرلمانات.

 

وفي نهاية المطاف لا يمكننا أن نستشعر عالمية القيم دون العمل على مساندة الشعوب المظلومة والواقعة تحت جحيم الاحتلال كما هو حال أهلنا في القدس، وأشيد هنا بموقف شيخ الأزهر الذي انتقد فيه "اقتحام ساحات المسجد الأقصى المبارك، وانتهاك حرمات الله بالاعتداء السافر على المصلين الآمِنين". فالاحتلال غير قادر على إدارة "الفضاء الديني" في واحدة من أقدس المدن على وجه الارض، ويعود ذلك إلى التناقض الجوهري بين همجية الاحتلال وبين القيم الانسانية المشتركة التي يجمعها القرآن في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13).