موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٢
الأب منويل بدر يقدّم كتب كرزات السنوات الليتورجية: ما هي الكرزة؟

الأب منويل بدر :

 

ما هي الكرازة؟ هناك فرق في التعريف بين محاضرة وكرزة.

 

المحاضرة هي شرح، توضيح علمي عقلي لموضوع غير ديني، مثلا التكلّم عن تاريخ اليونان، عن الحرب الجارية في أكرانيا وما شاكل. فهذي هي مواضيع محاضرات علمية محضة لا كرازة، تهم العقل أكثر من القلب. موضوعها ومحتواها لا يمت إلى الدين المحض بصلة، كما ومستمعوها، فهم يريدون أن يسمعوا توضيحا لنقطة تاريخية غامضة أو غير واضحة لعقلهم. بكلمة المحاضرة هي تقديم معلومات للعقل قبل القلب. المحاضِر يُدعى العالِم الفلاني... لا الواعظ.

 

أمّا الكرزة أو الوعظة فهي تختلف تماما في المحتوى كما وفي الهدف، إذ هي مرتبطة قبل كل شيء بموضوع أو عنوان ديني أو آية إنجيلية. وهذا ما يجري في كل كنائس العالم كل آخر أسبوع أو عيد ديني كبير. الكرزة تقوم على اختيار جملة أو مقطع من الكتاب المقدس، تتم قراءته ثم التّأمل بمعناه، كمن يأكل طعاما وتبدأ في داخله عملية الهضم، للتكلم عن محتواه للسامعين حتى يطمئِنّوا من صحة شعورهم الديني، الذي جاؤوا ليعلنوا عنه في الصلاة. النّص يربطنا بقائله، فالنص والشرح له، يوضّح كيف نتعامل في حياتنا اليومية، مع الله، مع نفسنا ومع قريبنا. ثم نشرح ذلك للمستمع حتى نعطيه فكرة، كيف يوجّه هو حياته بحسب متطلبات وفهم هذا النص. حتى نحرِّك عنده شعورا دينيا تشتاق إليه نفسه، وإلا لما هو أتى إلى الكنيسة. هو يريد أن يُشرك حياته بما يسمع.

 

في إرشاده الر سولي "فرح الإنجيل"، شدّد قداسة البابا فرنسيس على أهمّية الوعظة، لأنّ الله يريد أن يصل إلى الآخرين من خلال الواعظ، وأن يمارس قدرته بواسطة الكلمة البشرية، لكي يجدد إيمان السّامعين ويُنمّيه. فالعظة تحيي الحوار الذي ابتدأه الله مع المؤمنين بالكلام الإلهي الذي سمعوه، والذي يعطي الليتورجيا معناها وحرارة المشاركة فيها" (مقدِّمة حفلة إشهار الكتب، الدكتورة هبا عبّاسي).

 

فالكرزة هي قسم مهم في القداس، ولا يجوز الاحتفال بالقداس مع حضور بدون تقديم بسيط قصير بمثابة كرزة. وكما يقول المثل، في الكنيسة هيكلان: هيكل الذبيحة وهيكل الكلمة. كلاهما مهمان وواحدهما يتمم الآخر.

 

من شروط الكرزة أن نحضّرها. فمتى يبدأ تحضيرها؟ الكرزة تحتاج إلى وقت لتحضيرها. الارتجال غير محبّذ، وفقط قراءة نص، هو ليس كرزة، لأنها لا تأتي من القلب بل فقط من الشفاه، وعدم التحضير لن يخفى على المستمع، إذ المراجعة والتكرار والتأتأة هي براهين عن عدم التحضير ولا تخفى على السامع.

 

إذن لا بد من التّفرغ لوقت كافي لتحضير الكرزة. إذا كان عندك كرزة للسبت المساء، فالتحضير غير كافي بعد الغداء والسييستا. وإذا كانت الكرزة للأحد، فلا يكفي المساء قبل الذهاب إلى النوم، بعد العشاء ومشاهدة أي فيلم.

 

روزفلت، أول رئيس أمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، سُؤِل: كم من الوقت يحتاج لتحضير خطاباته؟  فقال إذا بدي أحكي 3 ساعات، أحتاج فقط 3 دقائق تحضير. لكن أذا كنت أريد أحكي 3 دقائق فأنا أحتاج إلى 3 ساعات تحضير. مثل جيد لتحضر الكرزة.

 

في أول حياتي الكهنوتية جاء السؤال، كم نحتاج من الوقت لتحضير كرزاتنا؟ فقال كاهن متقدّم في السن: أنا لا أحتاج أي وقت، بل أثناء ارتدائي بدلة القداس، أقرأ نص الإنجيل!... لا أعرف من أين تأتيه الأفكار الجديدة، التي ستؤثّر على قلوب ومسامع الحضور، حتى بالتالي يقولون: أه يا أبونا! كرزتك اليوم حلوة! الكرزة هي ليست فقط قال يسوع... ويجب أن...

 

أنا شخصيا أرفض الارتجال. أذكر قبل سنوات، ذهبت إلى إحدى الرّعايا لأحضر جنازة قرابة لي، وإذا بكاهن الرعية يقترب مني في السكرستيا ويضرب على كتفي قائلا: هذا قرابتك يا أبونا! فأنت تترأس القداس وتكرز!... هل هذا معقول؟ أنا لست مُلهم حتى أتكلّم عن شخص لا أعرفه، لا اسما ولا شكلا، كما ولا أعرف مجرى حياته. ... كرزة بدون تحضير غير مُحبَّذ فيها!

 

كما وحدث معي نفس الشيء قبل شهرين. ذهبت لحضور جنازة أحد الأقارب، فوصلت باب الكنيسة قبل وصول جثمان المتوفى بدقائق، وإذا بكاهن الرعية واقف أيضا على باب الكنيسة ينتظر، فما أن سلّمت عليه وحتى قبل أن يطلق يدي، هزّها من جديد وقال لي: أنت تكرز!... لطفا؟ هل كان جادّاً بسؤاله؟ أظن نعم. لكن من هو الفقيد وماذا قام به (مادّيا) لمساعدة كنيسته ومشاريعها، فهذا لا علم لي به.... يمكن أن غيري يقبل، أمّا أنا فلا.

 

والسؤال إذن: متى يبدأ التحضير للكرزة؟ أنا تعلّمت أنَّ تحضير الكرزة يبدأ من بداية الأسبوع بمراقبة الأحداث والأخبار الحيّة، حتى ندرجها في الكرزة حينما نبدأ بكتابتها، فتكون حيّة واقعية، تؤثر في المستمع. ثم الاستعانة ببعض المراجع، التي تتكلم عن موضوع أو نص الكرزة، لدعم أفكاري وتوضيحها. في هذا المجال أذكر كم كنت ألاقي صعوبات في تحضير كرزاتي في بداية حياتي الكهنوتية، فما كنت ألاقي من مراجع أو كتب دينية، أستعين بها لأخذ بعض الأفكار. فكانت الأفكار طبعا محدودة وغير متنوعة ومتعبة للتفكير.

 

لمن نكرز؟ إليكم هذه النادرة. القيصر الألماني وليم الثاني، الذي بنى المستشفى Augusta  Victoria على جبل الزيتون في القدس، وبمساعدته بُنِيت أيضا كنيسة المخلص للبروتستانت بجانب كنيسة القيامة. يُقال في حفلة تدشين هذه الكنيسة عام 1910 سأل كاهن الرّعية القيصر، إذا كان يريد أن يلقي كلمة؟ فاعتذر لأنه غير متحضّر، فأطلع الكاهن نص وعظته وأعطاها للقيصر خفية، فقام هذا وألقى الوعظة التي ابتدأها بالكلمات التالية: ها أنا القيصر، أقف الآن أمامكم على المنبر لألقي عليكم هذه العظة. هذا ما قاله القيصر في بداية كلمته. وفي آخر الاحتفال، اقترب أحدهم من الكاهن ليسأله: هل سمعت كم كانت وعظة القيصر جميلة؟ فأجابه الكاهن: معك حق! لقد كان شعورا عظيما أن أسمع نفسي أعظ أمامكم.

 

الكرزة قبل أن تكون لجمهور المستمعين، هي أولا للكارز بالذات. إذن يجب تحضيرها إما كاملا خطّيا أو كرؤوس أقلام مفصّلة وعلى الواعظ أن يلقيها بصوت عال أمام نفسه، ليحكم بنفسه على محتواها هو، فيحذف ما لا يعجبه ويترك أو يزيد عليها ما يُعجبه. لكن لا يجوز أن ينسى أنّه هو المعني بالدرجة الأولى بالكرزة، التي سيلقيها أمام جمهور مختلف الاتجاهات والشعور الديني. فلا بدّ أنه إذا افتكر أنه يخاطب نفسه، فهو سيغير أو يحذف هذا أو ذاك المقطع. هذا وإن افتكر في إقناع الغير وهو نفسه غير مقتنع بمّا يقول، فكرزته لن تأتي بنتيجة مقبولة ومرضية عند المستمع.

 

كم تدوم الكرزة؟ أوّل كاهن ألماني اشتغلت معه، أعطاني هذه الحكمة، وسرت تقريبًا كل الوقت بموجبها. قال:

 

كرزة قصيرة وجيدة علامة أُولى

 

كرزة قصيرة ولو غير جيدة علامة 2

 

أمّا الكرزة الطويلة ولو كانت جيدة فهي علامة 3

 

في اللغة الألمانية هناك مَقولة، مفادها: يمكنك أن تتحدّث عن كلِّ شيء لكن ليس أكثر من 10 دقائق. والسبب هو، يقول علماء النفس، أن عقل الإنسان يبقى بكامل نشاطه وانتباهه واستيعابه.

 

في العشر دقائق الأولى، لكن التركيز يبدأ بالتناقص بحسب طول الكرزة. الكرزة الطويلة يمكن أن تكون جميلة لكنها بالتالي ستكون مُمِلّة للكثيرين، الذين إما يباشرون بالتنحنح أو بالتعليق مع الجار على مواضيع أخرى بانتظار أن تنتهي، أو، وهذا هو الأسوأ، أن يتعب بعض المسنين ويغطسون في فترة نوم فجائية، فيبدأ أحدهم بالشخورة، كما في هذه القصة المضحكة: - جّد كان دائما يصطحب حفيده، إذ كان دائما يدلله ويشتري له ما يريد في طريق عودتهم إلى البيت. كان الجد يجلس دائما قريبا من المنبر لأنه ثقيل السمع. لكن ما أن يبدأ الكاهن بالكرزة بعد بعض الجمل، إلا ويبدأ الكاهن والقريبين منه يسمعون شخيره. مرّة... مرّتين... ثلاث! ثمّ دعا الكاهن الحفيد إلى السكرستيا وقال له: إذا كل مرّة جدّك يبدأ يشخور تلكزه بذراعك كي يفيق، سأعطيك دولارا. جاء الأحد اللاحق وبدأ الجد بالشخورة، فنظر الكاهن إلى الولد وجحره بنظره ليفيق جدّه، لكنه لم يفعل، رغم تكرار هذا المشهد. ففي آخر القداس اقترب الكاهن من الحفيد وسأله: لماذا لم تسمع لي وتفيق جدّك؟ فأجاب: جدّي وعد أن يعطيني خمس دولارات إذا تركته ينام!

 

محتوى الكرزة: لكي تتفاعل الكرزة مع رغبات المستمعين، يجب تعريف موضوعها من البداية. منه يعرف المستمع ما هو عيد اليوم وما هو النص الملائم له، فيبقى منتبها وينفعل مع ما يسمع. الكلام والتعليق يجب أن يكون بسيطا وبلغة مفهومة، والأمثال فيها من واقع الحياة القريبة من مجتمع المستمع. حيث يشعر الواعظ أنّ كلماته لا تبقى فوق الرّؤوس، لكن تحر ِّك شعورهم أمامه، مثلا من هزّة رأس أحدهم أمامه، يشعر الواعظ أن كلماته وقعت على أرض جيدة وستعطي ثمرا. تبعث على التفكير الفجائي والقبول بما يستمع. أيُّ واعظ لا يُسرّ أن يسمع بعد القداس مديحا ولو بسيطا: اليوم كانت الكرزة جميلة! فهذا يشجّع الواعظ أن يهتم أكثر بتحضير الكرزة القادمة، ويشعر بفرح أن يعود مُجدّداً إلى منبر الكلمة.

 

في الإعادة إفادة. لا مانع من التذكير أثناء الكرزة بعنوانها المأخوذ من إنجيل الأحد، ولا مانع من التذكير بها أثناء الكرزة كما ولا مانع أن تكون نفس الجملة خاتمة الكرزة، فيبقى المستمع في إطار الموضوع وأن الواعظ ما شتَّ وتناول مواضيع ثانية، خارجة عن الموضوع المُعلَن، فيسأل السامع بالتالي؟ ماذا قال الواعظ؟ فهذا يُعطي انطباعا مُقنعا، أنّ الواعظ قد كان حضّر كرزته يعرف عمّا يتكلّم ويُعلِّق. هكذا تجلب الكرزة انتباه الكثيرين. لذا يجب أثناء التحضير الاستعانة بالصلاة وإلهام الروح القدس. وبالتالي لا مانع من الاستعيان بمراجع وكتب وأفكار غيره عن الموضوع، لا لنقلها بل للإستيعان بأفكارهم الصالحة. فكما نعرف كان اللاهوتيّون يأخذون الصالح حتى من كتابات الفلاسفة اليونان.

 

الفم يتكلم بما يفيض به القلب: أساس الكرزة هو إظهار ليس فقط الثقافة العلمية، فهي واحد من الأعمدة التي تقوم عليها. لكن ثقافة الواعظ الدينية هي الأساس المتين والّذي يجذب. لا يخفى على السامع إن كان الواعظ متعمقاً في الإيمان بل ويعيش إيمانه. يقولون: أللاهوتيون يتكلمون كثيرا عن الله لكن ليس مع الله. فأية نتيجة ستجلب الوعظة التي تتكلم فقط عن الله ولا تربط علاقة صداقة معه؟

 

الكرازة تتطلّب معرفة العالم الذي كان عاش فيه يسوع وذلك لفهم أمثاله وتشابيهه، المأخوذة من هذا المجتمع. خاصة طريقة تعليم الرابيين، التي كانت تبدأ بمثل أو بقصة، للتشبّه بها أو الاقتداء بها. ولا ننسى أن نقول، الدّرس الذي كان يعطيها في خاتمة المثل أو التشبيه. أذكر أن رئيس مجلس الرّعية الآخيرة، التي ذهبت منها إلى التقاعد، قال في خطاب التوديع باسم الرعية أنه أبرز شيء كان يعجبهم في كرازاتي، هو أنّني عرّفتهم على عالم يسوع وأفكار ذلك الزمان وعوائده وعقلية البشر، إذ فقط من هذه الوُجهة، نستطيع أن نفهم الكثير من أقوال الإنجيل ولغته. وبالتالي قال: بعد كل هذه المعلومات فنقدر أن نقول إننا ما عدنا بحاجة لتحمل المشاق وزيارة الأرض المقدسة. فالاطّلاع على عالم التوراة يساعد على فهم الكثير منها وشرح تاريخ الديانة من مصدرها. إذن إنّ نجاحي في المجتمع الغربي الصعب، كان نتيجة علمي وخبراتي عن الأرض المقدسة، التي إجمالا أعرفها بعيشي فيها لمدة طويلة بالإضافة إلى مرافقة 14 رحلة من ألمانيا إلى الأردن والأرض المقدسة.

 

للمقال تكملة (3)