موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الإثنين، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤
الأب جورج قنواتي... ثلاثة عقود على رحيل رجل الحوار الإسلامي-المسيحي

إميل أمين :

 

مقدمة

 

يصعب بداية الإدعاء بإمكانية الإحاطة بفكر هذا العملاق والعلامة  الكبير، الأب جورج شحاته قنواتي، في محاضرة  أو عبر ورقة بحثية بعينها. غير أنها محاولة وإجتهاد متواضع لإلقاء الضوء على غيض من فيض هذا المفكر الكبير، وبخاصة لمناسبة مرور ثلاثة عقود على رحيله عام 1994.

 

بداية لا بدّ من القول أن هذا الأب الموقر والمقدر، له في عنقي دين كبير، فقد توجهت إلى زيارته في يناير من عام 1985، مسترشدًا به، ومتعرفًا من خلاله على نسق الحياة الرهبانية الدومنيكية، باحثًا عن دعوتي في الحياة. والحق أنني وجدت أبًا ومعلمًا من طراز رفيع، لم يعد له نظير أو مثيل في عالمنا المعاصر، وقد رحّب بي ووجه الدعوة لأن أبقى معهم كما يحلو لي من الوقت.

 

لاحقًا كثرت الزيارات واللقاءات وفتح لي طريقًا معرفيًا واسعًا، وأناره لي بأسماء كبار المفكرين للإستزادة والنهل من ينابيعهم، وفي المقدمة المفكر والمؤرخ والفيلسوف يوسف كرم. كان أهم ما تعلمته من الأب قنواتي، التفكير خارج الصندوق، ومساءلة وربما مشاغبة الأيقونات، وقد ظلت هذه العلاقة الشخصية قائمة، وتعمق كلما ترددت على 1 شارع مصنع الطرابيش بالعباسية، حتى غادرت مصر قبل وفاته بعدة سنوات.

 

والشاهد، أنه حين سألني الأب ميلاد شحاته، الأخ والصديق، مدير المركز الثقافي الفرنسيسكاني بالقاهرة، وشرفني بالمشاركة، في هذا المحفل، وتقديم رؤية ما عن الأب قنواتي وفكره وعلاقاته الخاصة بالعالمين العربي والإسلامي، شعرت بهول الأمر وجسامة المسؤولية، رغم أنني بالفعل سبق وكتبت كثيرًا في العديد من الدوريات عن الأب قنواتي، كما أنني خصصت له فصلاً كاملاً في كتابي الصادر عام 2005 تحن عنوان "جسور لا جدران.. رموز للوفاق في زمن الإفتراق"، وقد كان عنوان الفصل "الأب قنواتي..لا ثقافة بلا دين ولا دين بدون ثقافة"، إلا أنني شعرت بشيء من الرهبة في محضر هذا العملاق، لكن المحبة تقطع الطريق على الخجل أو الوجل، ومحبة أبونا قنواتي لا تزال قائمة وقادمة في عقلي وقلبي.

 

في هذا الإطار، أريد التوقف عند جزئية واحدة، وثيقة ولصيقة الصلة بما كتبته قبل عقدين عن الأب قنواتي، وعن فكره التقدمي بلغة أهل اليسار، وعن الجسر الذي مثّله باكرًا جدًا وفي خسمينات القرن المنصرم، بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية، وكيف أمتلك باكرًا جدًا أعين "زرقاء اليمامة"، ليفتح المسارات واسعة والمساقات رحبة، للقاء والإخاء، بالآخر، من وثم قبوله بعد فهم كينونته من منطلق ثقافي  نسبي، وبعيدًا عن المطلقات الدوغمائية، وذلك قبل أن تهلّ على عالمنا المعاصر رؤى صدام الحضارات لهنتنغتون، وتسعى أطروحات شمولية من نوعية  نهاية التاريخ لفرنسيس فوكاياما.

 

 

قنواتي إنسان فوق العادة

 

هل كان الأب قنواتي إنسانًا فوق العادة، كما وصفه الأب جان جاك بيرنيز ذات مرة في واحدة من كتاباته العميقة عن هذا "المسيحي المصري في لقاءه مع الإسلام"؟

 

غالب الظن أنه كذلك بالفعل، ويقدّم لنا  ثلاثة أسباب:

 

1) كونه مسيحيًا مشرقيًا قضى الجزء الأساسي من حياته في دراسة الإسلام، وجعله مفهومًا بشكل أعمق في العالم المسيحي.

 

2) قدّم مساهمة كبرى في علاقة الإسلام والأديان غير المسيحية خلال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، مساعدًا الكنيسة الكاثوليكية في تقديم رؤية إيجابيّة عن الموضوع.

 

3) لقد فهم الأب قنواتي أن اللقاء مع عالم الإسلام كان سيكون أيسر لو وضعنا أنفسنا على المستوى الثقافي وليس الديني البحت، ذلك أنه كونه متخصصًا في الفلسفة العربية الخاصة بالعصور الوسطى، جعله مدركًا ما تقاسمه الشرق والغرب في الماضي.

 

من هنا وعليه، فبدلاً من أن يسعى إلى تغيير ديانة بعض المسلمين، مجازفًا بذلك أن يقطعهم عن ثقافتهم، اختار أن يتواصل بعمق مع العالم الإسلامي، من خلال ثقافته وحضارته، ومن أجل هذه النزاهة اعترف به شركاؤه.

 

 

فلسفة نقاط الرحمة العشر

 

قدّم الأب قنواتي، ضمن ما قدم من إنتاج وفير غزير، خريطة طريق عشرية يمكن للمسلمين والمسيحيين السير عبر دروبها معًا، بدون محاصصة أو تمايز، كونها تمثّل مراحم الله الغنية لكل البشريّة، وتتمثّل في النقاط التالية:

 

** الله واحد

** الله حي قيوم (القائم الدائم في ديمومة أفعاله وصفاته)

** الله خالق السماوات والأرض

** الله محب البشر

** الله ذو المغفرة والرحمة

** الله هو الحميد المجيد

** الله مرسل الأنبياء

** الله يحي الأموات ويرضي الأنفس

** الإنسان والعبادة

** الإنسان وإعتارفه بحقوق الله

 

عبر هذه العشرية، تحدّث الأب قنواتي عن هذه الأسس حديثًا دقيقًا يكشف عن إطلاعه الواسع بدقائق وخصائص العقيدة الإسلاميّة، ويشير إلى الكيفية التي أستطاع من خلالها المسيحيين أن يعيشوا في إطار الحضارة الإسلامية  العربية، وأن يشاركوا في صنعها، وأن يتعاونوا مع إخوانهم المسلمين في صيانة عقائدهم في مختلف ميادين العلوم ومقتضيات الحضارة.

 

هل تقودنا هذه الجزئية إلى أحد إسهامات الأب قنواتي على صعيد ما يبدو لكثير من المعاصرين اليوم أنه تناقض أو تضاد، ونعني به فكرة المسيحية العربية؟

 

 

المسيحية والحضارة العربية

 

يضيق المقام عن السرد والعرض، والحديث عن هذا المؤلف العمدة "المسيحية والحضارة العربية"، يحتاج إلى صفوف دراسية بأكملها، لا دقائق معدودات أمامه.

 

هذا العمل يقع في نحو خمسة مجلدات ضخمة عن تاريخ الأدب العربي المسيحي، منذ نشأته وحتى القرن التاسع عشر الميلادي. ولأن الأب قنواتي قد قرأ  مؤلف المستشرق الألماني "جورج غراف" عن "الأدب المسيحي إلى أواخر القرن الثاني عشر"، فقد دفعه ذلك للسعي في طريق هذا العمل الجبار.

 

في هذا الطرح الموسوعي، نجد الحديث عن انتشار المسيحية في جنوب الجزيرة العربية في فترة مبكرة، ثم تأصلها في منطقة الشام حين نقلت العاصمة الحضارية الإسلامية إلى دمشق، حيث جرى إتصال العالم العربي بالحضارة الغربية، وبالتراث اليوناني تحديدًا، لأن دمشق هي المركز الذي اتصل فيه المسلمون للمرة الأول بالفكر الغربي أو المسيحي.

 

يؤكد الأب قنواتي على أن حياة مشتركة أثناء القرنين الأولين للإسلام قد جمعت  بين العرب المسلمين وأصحابهم من العرب المسيحيين، وأمسى الإقتداء ببناء الصوامع فيما يبدو أمرًا ثابتًا، فقد كان المتصوفة المسلمون حتى القرن التاسع يختلفون إلى النساك المسيحيين يسألونهم في العقائد والحياة الروحية، وأن عددًا لا باس به من المقالات الأولى التي وضعت في الزهد الإسلامي، تبدو نقلاً لموضوعات مسيحية بشيء من التوسع والتصرف.

 

يذكر الأب قنواتي نحو خمسين اسمًا لعلماء من المسيحيين العرب، أما ما أنجزوه من عمل فهو بارز في قائمة الكتب الني نقلوها إلى العربية، وهي التي تعتبر نواة النهضة الفكرية التي حدثت إبان ذلك. والثابت أنه يضيق المجال من جديد عن مناقشة نحو 350 صفحة محققة ومدققة هي صفحات هذا الكتاب.

 

 

قنواتي والإسلام.. الفاتيكاني الثاني

 

وصل الأب قنواتي إلى روما في يوليو 1963، بصفته خبيرًا في الكنائس الشرقية، بين الجلستين الأولى والثانية، حيث كانت النقاشات دائرة حول النص اليهودي الذي كان يتمسك به البابا ونائبه الكاردينال "بيا"، بشدة، لوضع نهاية للعداء بين المسيحية واليهودية، أي أزمنة "العداء للسامية".

 

 في ذلك الوقت لم يكن للإسلام موطئ قدم وسط 15 ألف صفحة تحضيرية من أعمال المجمع.

 

بحلول 29 نوفمبر 1963، ألقى الأب قنواتي محاضرة في الجامعة الدومنيكية في روما "الأنجيليكوم"، وكان موضوعها "الإسلام وقت المجمع  المسكوني الفاتيكاني الثاني: بداية  حوار إسلامي مسيحي". في تلك الآونة، دار حوار مثير بين الكاردينال "ماريلا"، الذي كان في ذلك الوقت المسؤول في أعمال المجمع عن العلاقات مع غير المسيحيين:

 

ماريلا: نحن لا نعرف شيئًا عن الإسلام.

 

قنواتي: نحن ندرس الإسلام منذ ثلاثين عامًا. وكان يقصد بذلك، الدراسات والحوارات، اللقاءات والمؤلفات، الشخوص والأفكار التي كانت تدور تحت سقف المعهد الدومنيكي للدراسات الشرقية في صحراء العباسية، والوصف لصاحب نوبل نجيب محفوظ.

 

بإختصار غير مخل، ستقود مشاركة الأب قنواتي لاحقًا في المجمع المسكوني إلى تطوير رؤية العالم المسيحي للإسلام، ومن ثم ستولد وثيقة "في حاضرات أيامنا" NOSTRA AETATE والتي ستعد فتحًا في العلاقات الإسلامية-المسيحية للمرّة الأولى منذ أربعة عشر قرنًا.

 

 

قنواتي مسيرة حياة  حافلة

 

عبر ثلاثة عقود تالية، سيعيش قنواتي حياته بنشاط، حتى حين يثقل عليه المرض. في تلك الفترة، قدّم أول وثيقة جمعت بين دفتيها عرض مفصل للمؤلفات الكاملة لابن رشد في لغتها العربية، أو ترجماتها اللاتينية والعبرية، بتكليف من الإدارة  الثقافية  لجامعة  الدول العربية.

 

كان شغله الفكري دومًا متمحورًا حول أفضل طريق للتواصل مع العالم الإسلامي، وقد كان قادرًا على توضيح كيف عمل المسيحيون والمسلمون سويًا في الماضي من أجل الثقافة العامة.

 

عام 1930 كان مقدرًا للشاب جورج شحاته قنواتي، المنتمي إلى كنيسة الروم الأرثوذكس، الهاجرة عائلته من بلاد الشام في زمن مذابح الدروز ضد المسيحيين في سوريا، نهايات القرن التاسع عشر، والذي سيتحوّل إلى الكاثوليكية لاحقًا، ليضحى أحد أعلامها، أن يقرأ كتاب الفيلسوف الكاثوليكي الفرنسي "جاك ماريتان" عن "الدين والثقافة"، ومن ساعتها سيعتبر أن ميدان الثقافة هو أفضل ساحة يمكن أن يلتقي فيها مع العالم  الإسلامي.

 

كانت بغداد في القرنين التاسع والعاشر الميلادي، أفضل عصر ذهبي للتثاقف، حيث كان للثقافة مكان للقاء والتبادل الفكري النخبوي، وعند الأب قنواتي أن فترة "حنين ابن اسحق، المسيحي السرياني الطبيب (803-873) كانت خير مثال حيث كلفه الخليفة العباس المأمون بإدارة بيت الحكمة، حيث كان يسعى النساخ والمترجمون في تعميق معارفهم في مجالات عديدة مثل الفلسفة  والفنون والعلوم.

 

في جامعة كاليفورنيا عام 1968، ورغم أجواء الإحباط التي كانت سائدة في أميركا وقتئذ من جراء حرب فيتنام، سيقول له أحد تلاميذه ومريديه يومًا: "حين يصل الأب قنواتي إلى الحرم الجامعي، نعلم أن الربيع قد حل".

 

كان قنواتي محبة متجسدة في خدمة اللقاء بالآخر.

 

ما الذي يتبقى في هذا الحديث؟

 

السؤال: أين الإهتمام بتراث الأب قنواتي في عالمنا العربي المعاصر اليوم؟ وللحديث بقية بإذن الله.