موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأحد، ٢٤ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٣
استخدام الثقافة كقوة ناعمة وأداة للدبلوماسية
تأتي أهميتها لقدرتها على التأثير الإيجابي وصنع الولاء من دون استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية

جواهر بن الأمير :

 

تُعَدُّ «القوة الناعمة» إحدى أدوات التأثير والإقناع وصنع صورة إيجابية وجاذبة من خلال الأدوات الثقافية ونشر القيم، ويتم ذلك غالباً بواسطة الفنون على اختلاف أشكالها، والأنشطة الرياضية المتنوعة، والمنتجات الثقافية بصورها المختلفة والمتعددة. وتأتي أهمية القوة الناعمة وتوجه كثير من الدول والمنظمات لاستخدامها لقدرتها على التأثير الإيجابي وصنع الولاء من دون استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية، فهي أكثر تأثيراً على المدى البعيد، كما أنها أقل كلفة.

 

وبالرغم من أن هذا المصطلح (القوة الناعمة) ظهر في ثمانينات القرن الماضي، فإن استخدام الثقافة والفنون في التأثير سبق ذلك التاريخ بكثير، فعلى سبيل المثال بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في الترويج للثقافة الأميركية في الستينات الميلادية من خلال سينما هوليوود أثناء رئاسة جون كينيدي إبان الحرب الباردة، حيث تظهر القوة الناعمة للفن بشكل أكبر وأوضح في الفنون السينمائية، لما تحظى به من جماهيرية عالية، وكونها جامعة لعدد من الفنون في عرض واحد، كالفن الأدائي، والسمعي، والبصري، فمن خلال فيلم واحد يمكن التعرف على ثقافة وبيئة وعادات وموسيقى والفنون الشعبية لمجتمع بعينه.

 

وقد تكون قوة بعض البلدان نتاجاً لثقافتها ورموزها الفنية وتراثها العريق، التي تجعل منها مزاراً سياحيّاً ووجهة اقتصادية واستثمارية. وإذا ما شئنا أن نورد مثالاً من الدول العربية، فإن مصر بما تحويه من معالم أثرية تاريخية ضاربة في القِدم، ومناطق وفنون تراثية عريقة، قد نجحت أن تصبح قبلة سياحية معروفة على مستوى العالم أجمع. ومن بين الدول الأوروبية، تحتلُّ فرنسا مراكز متقدمة في مؤشر القوة الناعمة، بما فيها من جاذبية عالمية بسبب أنشطتها الفنية والثقافية والإنسانية واحتضانها لبعض أبرز الرموز الثقافية العالمية كمتحف اللوفر وبرج إيفل، إضافة إلى أنشطتها الرياضية، وشهرة المطبخ الفرنسي على مستوى العالم حيث أكبر عدد من المطاعم الحاصلة على نجمة ميشلان في العالم، وكذلك إيطاليا بتراثها الثقافي وما تحويه من مواقع متعددة للتراث العالمي مسجلة في اليونسكو، والشهرة العالمية للمطبخ الإيطالي ودور الأزياء العالمية فيها.

 

وعلى صعيد الدول الآسيوية، برزت قوة كوريا الجنوبية الناعمة نتيجة لبروز فنونها الأدائية المعاصرة وانتشار الكي بوب عالميّاً بما حفز لتجربة الثقافة الكورية الفريدة من نوعها والتعرف عليها، وكذلك اليابان التي استخدمت فنون المانغا والإنمي للترويج لقيمها وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية، خاصة ما تحويه غالباً من موضوعات مرتبطة بالخيال العلمي أسهمت في نشر العلوم والتكنولوجيا لدى الجيل الشاب في اليابان.

 

إن التعريف بالرموز الثقافية والفنية للبلدان وانتشارها له تأثير كبير يُسهم في الترويج لثقافات الدول وتعزيز العلاقات العالمية على مستوى الأفراد، وما لذلك من أهمية في زيادة الفهم والتعاطف للشعوب المختلفة، والتعاون بينها، والحصول على قدر أكبر من التسامح والاحترام وتقدير الاختلافات. ويلاحظ ذلك عند استخدام الفنون كأداة للدبلوماسية لتعزيز العلاقات الدولية، حيث تشتمل الدبلوماسية الثقافية على التبادل الثقافي للعروض الفنية والأنشطة الثقافية المختلفة. ويشاهد هذا الدور محليّاً من خلال الأدوار التي تلعبها بعض السفارات العالمية كالسفارة الفرنسية في المملكة العربية السعودية واستقبالها للمعارض الفنية وإقامتها للأنشطة الثقافية المختلفة التي تعزز حضورها الثقافي وصنع صورة إيجابية لدى المجتمع.

 

إن قوة الفن تتعدى صنع التأثير الإيجابي، حيث يمكن أن تكون الفنون وسيلة للترويج لآيديولوجيات أو سياسات معينة والتأثير على المعتقدات والقيم من خلال المنتجات الثقافية، كما يمكن أن تُستخدم لزيادة الوعي حول قضايا اجتماعية وسياسية معينة، مثل حقوق الإنسان والمساواة وتعزيز التغير الاجتماعي، حتى تغيير القوانين، كما حدث مع بعض الأعمال الدرامية المصرية، مثل فيلم «جعلوني مجرماً»، الذي ناقش قضية السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية التي تُسجّل في ملف المذنب وتحرمه من الحصول على فرص للعمل بعد خروجه من السجن. وبعد عرض الفيلم صدر قانون مصري يعفي من السابقة الأولى. وكذلك فيلم «أريد حلّاً» الذي ناقش قضايا الطلاق وساعد في إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية في مصر والسماح للمرأة بحق الخلع، وغيرهما من أعمال درامية. آخرها مسلسل «تحت الوصاية» الذي ناقش قضية ولاية الأم وحقها في الوصاية المالية لأطفالها.

 

أما السبب الذي تُعزى إليه قدرة الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية على التغيير والتأثير، فهو جماهيريتها وانتشارها ومشاهداتها العالية، على العكس من الفنون التشكيلية التي قد تكون نخبوية، وتتميز بأنها أكثر اختزالاً وجمعاً لرمزيات متعددة في عمل واحد، بما يجعلها قادرة على اختصار المشاهد الكثيرة والمتنوعة، التي تتطلب ساعات عدة لمشاهدتها، في عمل فني تشكيلي واحد. ومن الأعمال التشكيلية التي كان لها دور اجتماعي وتوعوي عالمي، جدارية «غرنيكا» لبابلو بيكاسو، التي أسهمت في زيادة الوعي بالحرب الأهلية الإسبانية وفظائعها، وإدانة هذه الحرب وما حدث فيها من قصف للمدنيين بالقنابل، بطريقة تصويرية وعاطفية ورمزية.

 

إن قدرة العمل التشكيلي على اختزال المشاهد التصويرية تتأتى من قوة التعبير وشدته، وتحمله للمعاني المتعددة والمختلفة في العمل الواحد، بما يمنح العمل التشكيلي القدرة على خلق الجمال والشعور بالمتعة وإثارة المشاعر. فالعمل التشكيلي قد يكون قادراً على التعبير عن الأفكار والمفاهيم المعقدة وإثارة المشاعر المختلفة تجاهها. فعلى سبيل المثال لوحة الصرخة لإدفارد مونخ بما تحمله من تعبير لشخص يتألم ويصرخ في الفراغ وخطوط باتجاهات مختلفة، وألوان متضادة، هذه التباينات وقوة التعبير يمكن أن تثير مشاعر القلق والرهبة والخوف، كما يمكن أن تثير أفكاراً وجودية ونفسية كونها لا تعبر عن حادثة أو منظر بقدر ما تعبر عن حالة ذهنية عاشها الفنان.

 

إن ما يميز الفن هو قدرته على التعبير بطرق مختلفة، وما يصاحبه من شعور بالمتعة، وإثارة التساؤلات، واختزال المعنى أو الحياة، فالفن هو الصورة الأكثر متعة والأقوى تأثيراً والأشد جذباً للتعبير وإيصال الرسائل والمعاني الإنسانية، لذلك كان الفن قوة ناعمة رغم ما يكتنز به في كثير من الأحيان من العنف والقسوة.

 

(الشرق الأوسط)