موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤

تعليم يسوع عن السُّلطة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد التَّاسع والعشرون للسَّنة: تعليم يسوع عن السُّلطة (مرقس 10: 35-45)

الأحد التَّاسع والعشرون للسَّنة: تعليم يسوع عن السُّلطة (مرقس 10: 35-45)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 10: 35-45)

 

35 ودَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى، فقالا له: ((يا مُعَلِّم، نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ)). 36 فقالَ لَهما: ((ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟)) 37 قالا لهُ: ((اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ)). 38 فقالَ لَهما يسوع: ((إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟)) 39 فقالا له: ((نَستَطيع)). فقالَ لَهما يسوع: ((إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها. 40 وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم)). 41 فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ اسْتاؤُوا مِن يَعقوبَ ويوحَنَّا 42 فدَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم: ((تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها. 43 فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك. بل مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا. 44 ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا. 45 لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس)).

 

 

مقدمة

 

في طريق يسوع إلى القدس وبعد إعلان يسوع الثالث عن سرّ الآمه (مرقس 32:10-34)، يصف مرقس الإنجيلي طلب الرَّسولين الأخوين يعقوب ويوحنا ابني زبدى من يسوع لإشْغالِ مَنصبٍ رفيع في السُّلطة (مرقس 10: 35-45)؛ علمًا أنَّ أخطر صعوبة تواجه خدَّام الرَّب هي التَّخلي عن حبِّ الرِّئاسات ومراكز الشَّرف والسُّلطة، فكان جواب السَّيد المسيح انقلابًا ثوريًا بقوله إن السُّلطة خدمةٌ وفديةٌ، وبمثله في حمل صليب التضحية متحدِّيا منطق عظمة السلطة ومجد البشري ليتوافق مع المنطق الإلهيّ. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 10: 35-45)

 

35 دَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى، فقالا له: ((يا مُعَلِّم، نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ)).

 

تشير عبارة "دَنا إِلَيه يَعقوبُ ويوحَنَّا ابنا زَبَدى" إلى اقتراب الأخوين من يسوع طالبين منه حاجة علمًا أنَّ إنجيل متى يذكر أن أمهما سالومة (متى 27: 56) هي التي طلبت الحاجة " فدَنَت إِليهِ أُمُّ ابنَي زَبَدى ومعَها ابناها، وسَجَدَت لَه تَسأَلُه حاجة"(متى 20: 20). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم " كيف يقول هذا الإنجيلي أنّ أمّهما جاءت إليه؟ من الممكن أنّ كلا الأمرين حدثا معًا.  ربّما أخذا أمّهما معهما آملين أن يكون تضرّعهما أقوى.  لاحظ كيف يوجّه المسيح كلامه إليهما، فالطَّلب جاء منهما بدون شك، فبسبب خجلهما أشركا أمّهما بالمطالبة" (إنجيل متى، موعظة 65. 2). ويؤكد ذلك أن جواب المسيح كان لهما لا لها. ومثل على هذا الطَّلب، طلبت بَتْشابَع، أُمِّ سُلَيمان للتوسط إلى أَدونيَّا بنُ حَجِّيتَ عند سليمان (1ملوك 2: 20).  أمَّا عبارة "يَعقوبُ" فتشير إلى يعقوب الكبير أحد الاثني عشر والأخ الأكبر ليوحنا الرَّسول (متى 4: 21)، وكانت سالومَة أمَّه، وهي شقيقة مريم أم المسيح (مرقس15: 40). وبالتَّالي يعقوب هو ابن خالة يسوع.  أمَّا عبارة "يوحَنَّا" فتشير إلى يوحنا الرَّسول من بيت صيدا وكان غنيًا، لأنَّ أباه كان يملك عددًا من الخدم المأجورين (مرقس 1:20). ترك يعقوب ويوحنا أباهما والأجراء والشِّباك، تركا كل شيء وتبعا يسوع (لوقا 5: 11). وسمَّاه يسوع " التَّلميذ الحبيب". وعند الصَّلب أوصاه يسوع بأمِّه مريم. وكان أول من آمن بقيامة المسيح (يوحنا 20: 1-10). وكان يوحنا أحد أعمدة اورشليم (أعمال الرسل 15:6). ورافق يوحنّا ويعقوب السَّيد المسيح إلى منزل يائيرس (مر 5: 37)، ومشهد التَّجلّي (مرقس 9: 2)، وصلاة يسوع في جتسمانية" (مرقس 14: 33)؛ وكانا سريعا الانفعال والغضب فلقَّبهما يسوع: "بوانرجس" اسم آرامي בְּנֵי־רְגוֹשׂ معناه أبناء الرَّعد (مرقس 3: 17). ويرّجح أن ذلك كان تلميحًا لما ظهر من طبعهما بموجب كلامهم مع يسوع "يا ربّ، أَتُريدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟" (لوقا 9: 54). وهذا ما فعله إيليا سابقًا (2 ملوك 1: 10-12). قد ظن البعض أن ذلك رمز إلى القوة التي كانا يُظهرانها في تبشيرهما باسم المسيح. وفي إنجيل متى تقدَّمت أم يعقوب ويوحنا بهذا الطَّلب كما جاء في النَّص: "دَنَت إِليهِ أُمُّ ابنَي زَبَدى ومعَها ابناها" (متى 20: 20)؛ لا شك أن مرقس هو الذي أهمل ذكر الأم، لتبسيط الرِّواية ولإبراز جواب يسوع.  وعلى كل حال ليس في ذلك أي تناقض، إذ كانت الأم وابناها على اتفاق في تقديم طلب الحصول على مراكز الشَّرف في ملكوت المسيح. ويُعلق القديس يوحنا ذهبيّ الفم "كيف يقول هذا الإنجيلي (أي متّى) إنّ أمّهما جاءت إلى يسوع؟ من الممكن أنّ الأمرين كليهما حدثا (أي الشَّقيقان تارة والأم طورا). ربّما أخذا أمّهما معهما لجعل تضرّعهما أقوى، ويملكا مع المسيح. لاحظ كيف يوجّه المسيح كلامه إليهما، فالطَّلب جاء منهما بلا شكّ، فإنهما بسبب خجلهما أشركا أمّهما بالمطالبة (موعظة 65 في إنجيل متّى، 2). أما عبارة " نُريدُ " فتشير إلى حياة وفكر وشعور يختلف عن حياة وفكر وشعور يسوع. يسوع يفعل مشيئة الآب، أمَّا يعقوب ويوحنّا فيعملان إرادتهم، وهي ليست نفس إرادة ربّهما. وبالإضافة إلى ذلك إن يعقوب ويوحنا يستثنيا الآخرين ويُخطِّطان كما لو أن التَّلاميذ الآخرين غير موجودين.  أمَّا عبارة " يا مُعَلِّم" فتشير إلى لَقَبَ الرَّبّ الذي يُحَدِّدُ رِسَالَته التَعْليمِيَّةٌ. أمَّا عبارة "نُريدُ" فتشير إلى تعبير عن حياة وفكرة وشعور تتحرك نحو رغبة ما يريدان بعيدًا عن خطى يسوع الذي كان يفعل مشيئة الآب، فإن يعقوب ويوحنّا يفتشان عن إرادتهما وعَالَمهما بعيدًا عن إرادة يسوع، ولا يفكران سوى في أنفسهما كما لو أن الآخرين غير موجودين. أمَّا عبارة نُريدُ أَن تَصنَعَ لَنا ما نَسأَلُكَ " فتشير إلى طلب الرَّسولين يعقوب ويوحنا إلى خضوع معلمهما يسوع إلى سؤلهما.  يعتبر الرسولان أنّ الخير هو فيما يفكّران به، ولم يدعا مكانًا "لفكر الله" ولمشروعه عليهما، بل أخذا يفرضان شّروط صعبة؛ ويعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم "إذ سمع التَّلاميذ المسيح يتكلم عن ملكوته كثيرًا ظنُّوا أن ملكوته يقوم قبل موته، والآن إذ هو يتحدث عن موته معلنًا لهم عنه مقدمًا. جاءه التَّلميذان ليتمتعا بكرامات الملكوت". 

 

36 قالَ لَهما: ((ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟

 

تشير عبارة " ماذا تُريدانِ أَن أَصنَعَ لكما؟ إلى سؤال يسوع عن طلب التَّلميذين يعقوب ويوحنا، لا لمعرفة ما يطلبان، بل لدخول معهما إلى الحوار. وهدف هذا الحوار هو إبلاغهما عن مشروعه، وتنبيه ضميرهما وتحريك مشاعرهما عما يطلبانه فيخجلا. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم " سؤال يسوع ليس عن جهل منه للأمر، وإنَّما ليلزمهما بالإجابة، فيفتح الجرح ويقدِّم له الدَّواء".

 

37 قالا لهُ: ((اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ)).

 

تشير عبارة "اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ " إلى طلب الأخوين يعقوب ويوحنّا، مرتبة الشَّرف الأسمى رغبة منهما الحصول على المراكز الأولى، وعلى المسؤوليّات العليا، وعلى المجد الأعظم، وذلك لتمييزهم عن الرسل الآخرين وبسط نفوذهما وسلطتهما عليهم. طلبا مركز الصَّدارة كوزيرين حول الملك، واحد عن شماله وآخر عن يمينه، كي يشاركا يسوع في سلطته (متى 19: 28). ويعلق القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم " لقد أراد يعقوب ويوحنّا، من خلال رغبتهما في الحصول على المراكز الأولى، أن تكون لديهما سلطة على الآخرين. لذا، اعترض الرّب يسوع على هذا الادّعاء وفضح أفكارهما السِّريّة قائلًا: إن كنتم تطمحون إلى المركز الأوّل وإلى المجد العظيم، يجب أن تبحثوا عن المركز الأخير وأن تجتهدوا لتكونوا أكثر تواضعًا وأكثر صِغرًا بين الجميع. كونوا بعد الآخرين. هذه هي الفضيلة التي ستمنحكم الشَّرف الذي تطمحون إليه " (عظة ضدّ الهراطقة). ما كاد يسوع يُعلن كيف سيُرفَض ويتألّم (مرقس 10: 32-34) حتى أتيا يطلبان أن يعطيهما السُّلطة، كما لو أنّهما لم يسمعا أو يفهما شيئًا ممّا قاله. إن هذا الطَّلب يُظهر أن أفكار الرَّسولين ما زالت في الملُك الأرضي، وهي فكرة خاطئة عن ملكوت المسيح؛ لانهما كانا يعتقدان مثل غيرهما أنّ يسوع زعيم سياسي سيؤسّس مملكة زمنيّة جديدة، بديلةً من المملكة الرّومانيّة الوثنيّة المحتلّة لأرضهم. ولم يفهما الإنباءات المتكررة الواضحة عن آلام المسيح وموته كما جاء في تصريح يسوع لهم: "أَما تَفهَمونَ هذا المَثَل؟ فكَيفَ تَفهَمونَ سائرَ الأَمثال؟" (مرقس4: 13). إنَّهما ظنَّا أن يسوع يريد أن يؤسِّس ملكوتًا ارضيًا يُحرِّر إسرائيل من ظلم روما، ولذا أراد يعقوب ويوحنا أن يفوزا بمراكز عالية فيه، بالرَّغم من الإنباء الواضح عن آلام المسيح وموته الذي أعلنه الرَّب للمرة الثَّالثة في نفس ذلك الوقت. ما زال التَّلاميذ يتعلقون بمسيح سياسي ممجّد وقدير يلبِّي طموحاتهم. لكن ملكوت يسوع ليس من هذا العَالَم بل في قلوب أتباعه وحياتهم، والتَّلاميذ لم يفهموا ذلك إلاَّ بعد قيامته من بين الأموات. لكن موت المسيح حطَّم منطق البشر الذين يتزاحمون على المراكز الأولى التي تُعطيهم القوة والسُّلطة والتَّسلط على الآخرين. وهذا الأمر يذكِّرنا في "عبد الرب" الّذي لم يختار لذاته مكان الشَّرف بل على العكس أختار ما يرضي الرّبّ لأجل أن يصير بآلامه وسيلة لفداء آخرين (أشعيا 53: 10-11).  أمَّا تلميذ يسوع الحقيقي فهو المدعو إلى السَّير وراءه، وليس أمامه، أو بجانبه شمالا أو يمينًا.  الم يقل يسوع "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَكْفُرْ بِنَفْسِهِ ويَحْمِلْ صَلِيْبَهُ ويَتْبَعْنِي" (متى 16: 24). أمَّا عبارة " يَجلِسَ " فتشير إلى المُلك والسِّيادة كما ورد في سفر المزامير " جَلَسَ الرَّبُّ مَلِكًا لِلأَبَد" (مزمور 29: 10).  أمَّا عبارة "أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ " فتشير إلى الجلوس عن يمين المَلك وعن يساره كعلامات الشَّرف العظيم وسمو السُّلطان (1 صموئيل 20: 25). وهو مطلب سياسي أرضي، باعتبار أنّ يسوع جاء يبني مجدًا شخصيًا له، وهما يتوقان إلى مشاركته في هذا الانتصار، كمكافأة على اتّباعهما له. استخدم التلميذان يعقوب ويوحنا أسلوبًا بشريًا في التعامل مع الأمور الإلهية دون أن يُدركا قول الرب " إِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم، ولا طُرُقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَّبّ" (أشعيا 55: 8). لم يزل الإخوان يتوقعان أن المسيح يملك على الأرض بناء على قول المسيح أن رسله يجلسون على اثني عشر كرسيًا (متى 19: 28) وانتظارهم قرب مجيئه في المجد (لوقا 19: 11). لم يُدرك الإخوان أن مجد المسيح هو على الصَّليب مكان اللِّصين على جبل الجلجلة "أَحَدُهُما عن يَميِنِ يسوع والآخَرُ عن شِمَالِه " (مرقس 15: 27). ولم ترد هذه العبارة " يَميِنِه والآخَرُ عن شِمَالِه" في إنجيل مرقس إلا في هاتين المناسبتين فقط: هنا وعلى الصَّليب والميتة. ويعلق القدّيس أوغسطينوس: "عندما اختارَ كلٌّ منهُما مكانَهُ، الواحدُ عن يمينِهِ والآخرُ عن يسارِهِ، قبلَ أن يختبرا المهانةَ وفقًا لآلام الرَّبّ كانا يريدان "القيام قبل النّور". لماذا تريدان أن تبكّرا في القيام؟ إنّ هذا غيرَ مُجدٍ. أتريدان أن ترفَعا نفسيكُما قبل أن تتّضعا؟ (أحاديث عن المزامير، المزمور 127).  أمَّا عبارة "مَجدِكَ" فتشير إلى ميزة خاصة يتمتع بها يسوع الملك التي تقوم على سلطانه وبهاء ملكه ومجده (1 أخبار 29: 28). يكشف إنجيل يوحنا بوضوح المجد في حياة يسوع وموته، فيسوع هو الكلمة المتجسد. في جسده يسكن ويسطع مجد ابن الله الوحيد (يوحنا 1: 14 و18). وكانت تربية يسوع لتلاميذه تكمن في أن ينقلهم من فكرة مجد المسيح إلى فكرة الطَّريق التي تقود إليه، طريق الألم والموت كي يكتشفوا الشُّروط للبلوغ إلى المجد.  فقد طلب التَّلميذان المجد مع المسيح، ولكنهما لم يفهما أن المجد لا يأتي إلاَّ بالصَّليب، لان المسيح سيتمجَّد بالصَّليب. إن التَّلميذين يتكلمان عن المجد دون الدُّخول إلى الطَّريق المؤدِّية إليه، فهما يريدان الهدف دون الالتزام بالمسيرة. الرَّب يتحدث عن هبة ذاته حبًا، وتلاميذه يفكرون بحب السُّلطة والجلوس على العرش. طلب يعقوب ويوحنا يخفي العديد من مطالبنا وأسئلتنا وصلواتنا وأساليب حياتنا. أمَّا تلميذ المسيح الحقيقي فهو من يكون مستعدًا للخدمة حتى التَّضحية، حتى الصَّليب للوصول إلى المجد. لا يعطينا يسوع ما نطلبه منه إذا كان هذا الطلب عائقًا لخلاصنا.

 

38 فقالَ لَهما يسوع: ((إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان. أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها، أَو تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟)).

 

تشير عبارة " إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تَسألان" إلى توبيخ يسوع تلميذيه لا على حب الرِّئاسة، بل على عدم إدراكهما ماهية الملكوت والطَّريق الحقيقي المؤدِّي إليه عبر الصَّليب.  بعكس يسوع الذي "كانَ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه عن هذا العَالَم إلى أَبيه " (يوحنا 13، 1)، "وكانَ يسوعُ يَعلَمُ أَنَّ الآبَ جَعَلَ في يَدَيهِ كُلَّ شَيء، وأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الله، وإلى اللَّهِ يَمْضي" (يوحنّا13، 3). إن دعوتهما أعظم من شرف بشري، بل شرف روحي.  والفعل "يَعْلَم" له أهمّية خاصّة في رواية الآلام.  يسوع يعلم من هو، ويعلم من أين أتى، ويعلم إلى أين هو ذاهب. أمَّا يعقوب ويوحنا فهما لا يعلمان فكر يسوع أنّ المجد هو في الصَّليب، والعظمة الحقيقية هي في الخدمة التي يبذلان فيها حياتهما. هما لا يزالان يعيشان عقلية عصرهما كما يبدو من خلال طلبهما أعلى المناصب، وتمسكهم بأوهام شعبهم أن المسيح هو الظَّافر والمنتصر الذي سيُحقق لهما جميع طموحاتهما السياسية في ملكوت ارضي وزمني. ظنّ التلميذان أن يسوع أتى مَلكًا زمنيًا لإقامه مملكته على الأرض، وبالتَّالي فهما يطمحان أن يُصبحا معاونين له في الحكم. فإن أسلوب يسوع هو أسلوب العيش من أجل الآخرين، وليس من أجل الذَّات. وهذا هو معنى الصَّليب. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "كأن يسوع يقول لهما أنَّكما تتحدَّثان عن الكرامات بينما أتكلم أنا عن الصِّراعات والمتاعب. إنه ليس وقت المكافأة الآن بل هو وقت الدَّم والمعارك الرُّوحية والمخاطر". يتوقع يعقوب ويوحنا أن يُلبّي يسوع كلّ احتياجاتهما وكل أحلامهما. لكن يسوع لم يَعدْ تلميذيه بالشَّرف الدُّنيوي كما طلبا. يسوع لا يفعل هذا، لأنه يحبنا، يريد حملنا إلى الآب لخلاصنا، ولا يعطينا أي شيء لا يخدم هذا الهدف، أو يكون عائقًا من أجل خلاصنا. أمَّا عبارة "أَتَستَطيعانِ أَن تَشرَبا الكأسَ الَّتي سأَشرَبُها " فتشير إلى سؤال يسوع للتِّلميذين: هل لكما من الشَّجاعة الثَّبات على احتمال كل ما سأحتمله من الآلام والموت والاستشهاد. يُحوِّل يسوع انتباههما إلى حقيقة المجد. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "سحبهما يسوع من طريق سؤالهما إلى الالتزام بالشِّركة معه لتزداد غيرتهما". أمَّا عبارة "الكأَسَ" فتشير إلى استعارة مجازية أي محتويات الكأس، سواء أكان ذلك سارًا أم محزنًا، وبالتَّحديد نصيب الإنسان من المسرات والبلايا.  وكثيرا ما تُذكر كأس المرارة في العهد القديم لوصف المحن الأخيرة (أشعيا 51: 17، وارميا 25: 15، وحزقيال 23: 31-32). وتدل هنا على الكأس التي أعطاها الآب للمسيح أي الآلام المُعدَّة له قبل أن يدخل مجد لملكوت.  والكاس هو الشَّرط الأول لبلوغ مجد المسيح. ويستعمل يسوع عبارة الكاس للدلالة على الألم العذاب وبالتَّالي إلى آلام يسوع وصلبه (متى 26:39). وهي تذكر خصوصا بصلاة يسوع في النِّزاع في بستان الزَّيتون في الجتسمانيَّة "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" (متى 26: 36). هل نحن نقبل أن نشرب الكأس التي يعطيها لنا الآب؟ من يقبل ذلك سيكون له نصيب في المجد. أنها المرّة الثَّالثة يتحدّث يسوع إلى تلاميذه عن آلامه، وللمرّة الثَّالثة يَثبُت لنا يسوع ليس عدم فهم التَّلاميذ له فحسب إنما أيضا عما يعيشه يسوع. بينما كان يسوع يقترب من أورشليم، يبدو أن التَّلاميذ، على العكس، كانوا يبتعدون عنها. أمَّا عبارة "المعموديَّة" في الأصل اليوناني βάπτισμα (معناها تغطيس أو غسل أو صبغة) فتشير إلى استعارة هنا إلى الغطس في الماء والموت والأخطار التي تحفُ به العذابات التي تغمر الإنسان عندما يعاني من المحنة عامةً، والصَّبغة أي أنه سيتغطَّى بالدَّم والاستشهاد خاصةً. وباختصار، استعمل مرقس الإنجيلي التَّعابير الشِّعريَّة عن الكأس والمعموديَّة الواردة في العهد القديم (مزمور 11: 6 وأشعيا 51: 17) لكي يصف آلام يسوع من خلال الكأس، موته من خلال المعمودية. أمَّا عبارة "تَقبَلا المَعمودِيَّةَ الَّتي سَأَقبَلُها؟" فتشير إلى سؤال المسيح لتلاميذه: هل تستطيعون أن تقاسموني موتي؟ حاول يسوع أن يُفهمهم وجهة نظره من خلال رمزين: الكأس والمعموديَّة، كاس الألم ومعموديَّة الدَّم كشرط للسَّعادة وللقيامة.  ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "الكأس هي المعاناة. ليست الكأس والمعموديّة شيئًا واحدًا. الكأس هي الآلام، أمّا المعموديّة فهي الموت نفسه. المعموديّة تشبه كثيرًا الصُّوف المصبوغ. فكما أنّ الصُّوف، ذا اللَّون الطَّبيعيّ، يُغَطّس ليتلوّن بالأرجوان أو بأيّ لون آخر، هكذا ننحدر نحن أيضًا إلى الموت كجسم بشريّ ونصعد كجسم روحيّ" (موعظة رقم 35).  هل يعني أن نكون تلاميذ يسوع الجلوس على عرشٍ بعد شرب كأس الألم والمعاناة والموت؟

 

 39 فقالا له: ((نَستَطيع)). فقالَ لَهما يسوع: ((إِن الكأَسَ الَّتي أَشرَبُها سَوفَ تَشرَبانِها، والمَعمودِيَّةَ الَّتي أَقبَلُها سَوفَ تَقبَلانِها.

 

 تشير عبارة " نَستَطيع" إلى جواب التَّلميذين الفوري الذي يُعبِّر عن اسْتِعْدادِهِما الكَامِلِ للقِيامِ بكل أمر يلزم للوصول إلى غايتهما المنشودة، أَيْ الجلوسُ عَن يَمينِ وَعَن يَسَارِ الرَّبِّ في مَجْدِهِ!  يريد التلميذان تبرير أنفسهما، ولكن كلامهما لم يخلُ من جهلهما للمجد الذي يطلبانه بدلالة هروبهما وقت صلب المسيح "فتَرَكه التَّلاميذُ كُلُّهم وهَربوا"(متى 26: 56).  ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " قالا "نستطيع" عن جهلهما بالتَّجربة. فالحرب للجاهل مُستحسنة، تمامًا كما تبدو تجربة الموت والألم لعديم الخبرة أمرًا بسيطًا. أفلا يجدر بالتَّلاميذ أن لا يقولوا "نستطيع"، لو كانوا يعلمون كيف هي تجربة الموت! عظيم الحزن الذي يسبّبه الألم، لكن الموت يسبّب خوفًا أعظم" (موعظة 35). صلَّى يسوع نفسه إلى أبيه عندما طلب منه شرب كأس الآلام: "يا أَبتِ، إِن شِئْتَ فَاصرِفْ عَنِّي هذِه الكَأس… ولكِن لا مَشيئَتي، بل مَشيئَتُكَ!" (لوقا 22: 42).  ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "لقد تسرعا في الإجابة إذ ظنا أنهما ينالان كرامة الملكوت فورًا". وقد يأتي تسرُّعهم بالإجابة بسبب محبتهم للمسيح وجهلهم بما يعنيه المسيح وبسبب تفكيرهم المحصور في مجد أرضى. ويُعلق الأب ثيؤفلاكتيوس: "قد أجاباه بغير إدراك قائلين له: "نستطيع"، إذ حسباه يتحدث عن كأس منظورة وعن المعموديَّة التي كان اليهود يمارسونها تقوم على الغسل قبل الأكل".  أمَّا عبارة "سَوفَ تَشرَبانِها" فتشير إلى نبوءة يسوع الذي تحقَّقت عندما مات يعقوب شهيدًا على يد هيرودس أغريباس الأول الذي أمر بقطع راسه حوالي سنة 44 م في أورشليم (أعمال الرسل 12: 2)؛ وكان أول الرُّسل الذين ختموا حياتهم بدم شهادتهم. أمَّا يوحنا فهو الوحيد بين الرُّسل الّذي سوف يرافق الرَّبّ يسوع على درب الصَّليب ويراه يشرب كأس آلامه ويجتاز معموديّة آلام صليبه. وهو أخيرًا قد نُفي في حكم دوميتيانوس الحاكم الرُّوماني إلى بطمس واضطُهد كما جاء في شهادته "أَنا، أَخاكم يوحَنَّا الَّذي يُشارِكُكم في الشِّدَّةِ والمَلَكوتِ والثَّباتِ في يَسوع، كُنتُ في جَزيرَةِ بَطمُس لأَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ وشَهادَةِ يَسوع" (رؤيا 1: 9). ويُعلق القديس ايرونيموس: "يسأل بعضهم كيف شرب ابنا زبدى، يعقوب ويوحنا كأس الاستشهاد. يُخبرنا الكتاب المقدّس أن هيرودس أغريباس قطع رأس الرَّسول يعقوب (أعمال 12: 2).  ويعلق العلامة ترتليانوس " وُضع يوحنا في قدر زيت مغليّ ليستشهد، فخرج من هناك كرياضيّ ليربح تاج المسيح" (ترتليانوس 36 ANF 3 :260) ونُفي بعد ذلك إلى بطمس. شرب كأس الاعتراف بالإيمان مثل الفتيان الثَّلاثة في أتون النار"(تفسير متى 3: 20-23).  جعل يسوع تلاميذه يستشفون أن مجده لا ينسجم مع السلطة البشرية بل بطاعته للاب من خلال آلامه وموته كتتويج لرسالته.

 

 40 وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني أَو شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، وإِنَّما هُوَ لِلَّذينَ أُعِدَّ لهم)).

 

تشير عبارة "فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه" إلى مبادرة الله الآب الذي هو ينبوع كل صلاح، لأنَّ يسوع في مجيئه الأول أتى لخلاص الناس ودعوتهم للإيمان والتَّوبة، وفي مجيئه الثَّاني سيأتي ليدين الأحياء والأموات (متى 31:25-34). لم يُحدِّد المسيح في مجيئه الأول من يجلس عن يمينه ومن يجلس عن يساره في الملكوت، بل أراد إن يبقى في خدمة أبيه وخدمة الناس (متى 24: 36)، وظل يسعى فيما هو لآبيه السَّماوي (لوقا 2:49) كابن طائعٍ له (متى 26: 42).  ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " مع أن يسوع هو الذي يُدين، لكنّه يُظهر بهذه العبارة بُنوَّته الأصليَّة". إن توزيع الأماكن هو من عمل الآب وليس من عمل يسوع، يوزِّعها الله بحسب الاستحقاق وليس لاعتبارات الناس. ويعلق القدّيس أمبروسيوس:" يمكننا أن نفهم عبارة " فلَيسَ لي أَن أَمنَحَهبمعنى آخر وهو أنّني قد جئتُ لكي أعلِّم التَّواضع. ما جئتُ لأُظهِر العدل بل لأقدّم حنوًا، أي أنه ليس وقت لتقديم الإكليل". أمَّا عبارة" أُعِدَّ لهم" في الأصل اليوناني δοῦναι (معناها أُعطي) فتشير إلى هذين المكانين المحجوزين للمجرمَين اللذين يُصلبا مع يسوع، حيث نجد واحد عن يمينه والآخر عن يساره (مرقس 15: 27). إنه مخطط الله الذي أعدّ الله منذ الأزل وَفقًا لقوله: "تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم " (متى 25: 34)، قال ذلك لهؤلاء الذين قبلوا حمل الصَّليب مع المسيح.  وفعل "أُعِدَّ" هي صيغة الفعل للمجهول تُعبّر عن عمل الله، أي اعدّه الله لهم كما جاء واضحا في إنجيل متى: "أَمَّا كَأَسي فسَوفَ تَشرَبانِها، وأَمَّا الجُلوسُ عن يَميني وعن شِمالي، فلَيسَ لي أَن أَمنَحَه، بل هو لِلَّذِينَ أَعدَّه لَهم أَبي"(متى20: 23). وتهدف صيغة المجهول للفعل إلى تحاشي التَّلفظ باسم الله إكرامًا وإجلالا (متى 20: 23). الله وحده يقرِّر المراكز الأولى في الملكوت. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " وكأنه يقول لهما ستنعمان بالآلام معي والاستشهاد أيضًا، لكن أمر تمتعكما بأمجاد الملكوت فهو أمر إلهي يوهب لكما لا حسب فكركما المادي إنَّما حسب خطة الله الخلاصي". المكافآت لا تُعطى جُزافا، ولكنَّها تُعطى لمن ظلوا أمناء للمسيح رغم المِحن والتَّجارب. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " ملكوت السَّماوات ليس لمَن يُعطي بل لمَن يأخذ. "فالله لا يحابي الوجوه" (أعمال 10: 34). مَن أثبت استحقاقه لملكوت السَّماوات نال ما اُعدّ للحياة لا لشخص ما اعتباطًا دون غيره. إن كنت ممّن يسعون إلى الملكوت الذي أعدّه أبي للظافرين فإنّك ستناله. آخرون تمنّوا لو أنّها قيلت عن موسى وإيليا. لكن أسماء الذين هم في الملكوت لا تُعلَن لئلاّ يُظنّ أنّ الآخرين مُبعدون" (تفسير متى 3: 20-23). وقد نشعر بحريَّة أن نطلب من الله أي شيء، ولكنَّه لا يستجيب لنا بعض الطَّلبات لخيرنا، فإنَّه يريد إن يعطينا ما هو أفضل لنا لخلاصنا. يعلم يسوع يعقوب ويوحنا أن دعوتهما لا تقوم على شغل المكان بل بتقديم المكان لخدمة الأخرين.

 

41 فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ اسْتاؤُوا مِن يَعقوبَ ويوحَنَّا

 

تشير عبارة "فلمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ ذلكَ الكَلامَ" إلى سماع طلب يوحنا ويعقوب من يسوع. أما عبارة "العَشَرَةُ" فتشير إلى سائر الرُّسل ما عدا يوحنا ويعقوب. أمَّا عبارة "اسْتاؤُوا" فتشير إلى الاغتياظ بسبب الغيرة وحسد الرُّسل العشرة كحسد العمَّال الأوَّلين في مَثل العملة وأجرتهم (متى 20: 5-10)، لأنهم يتطلعون هم أيضًا إلى الزَّعامة والسُّلطة ومراكز الصَّدارة وحب الرِّئاسات والمراتب والكرامة الزَّمنيَّة حيث" كانوا في الطَّريقِ يَتَجادَلونَ فيمَن هُو الأَكبَر "(مرقس 9: 34). كان منطق السَّيطرة والسُّلطة منتشرًا بين الرسل. والحسد هو المرض الذي يواجه خدَّام الرَّب لقد نس الرُّسل الصَّليب وأرادوا الوصول إلى المجد دون المرور في الألم والموت، ونسوا يسوع الذي يريد إن يؤسس ملكوتًا روحيًا لا أرضيًا.  أليس الصِّراع على السُّلطة في غالب الأحيان هو أساس التَّوترات في عَالَمنا ومجتمعنا، وسبب كثير من النِّزاعات المسلّحة وغلبة فريق على آخر؟ ما من خطأ أن يتنافس التَّلاميذ على العظمة، ما من مشكلة إذا تسابق التَّلاميذ على من سيكون فيهم الأول، فهذا شيء إنساني وشيء طبيعي. لولا التَّنافس لما كان تقدم أو تطور. المشكلة ليست بالتَّنافس، بل بالتَّنافس السَّلبي وبمعاييره وبمقاييسه: الواسطة، أو المعرفة، أو القرابة أو الدِّعاية أو التَّملق أو القوة كوسيلة للوصول إلى السُّلطة. أمَّا التنافس الإيجابي هو التنافس في سبيل خدمة الجميع والمصلحة العامة. وإن كان لا بدَّ من التَّنافس فليكن لا على المناصب بل على الخدمة وإكرام بعضتا بعضًا كما قال بولس الرَّسول: " ومَن لَه مَوهِبةُ الخِدمَة فلْيَخدُمْ...تَنافَسوا في إِكرامِ بَعضِكُم لِبَعض" (رومة 12: 7، 10).

 

42 دَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم: ((تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها

 

تشير عبارة "دَعاهم يسوعُ وقالَ لَهم" إلى الاثني عشر، وهذا دليل على اشتراك الجميع في خطا الأخوين. أمَّا عبارة "تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها" فتشير إلى تذكير يسوع بالطَّريقة التي بها يمارس الرُّؤساء السِّياسيون والعظماء سلطتهم في هذا العَالَم، إذ يتسلط كل منهم على شعبه مستخدما سلطانه لمصلحته الخاصة لا لمصلحة شعبه.  وليست غاية يسوع من هذه الكلام أن يذمَّ السُّلطة السِّياسيَّة في حد ذاتها، بل أن يُبيّن أنها ليست مثالا للتلاميذ ولا يجوز اتخاذ السُّلطة السِّياسيَّة مثالا لهم. في العَالَم يميل الناس إلى التَّسلط والرِّئاسة، ويستعملون كل نفوذ شخصي للحصول على رفعة ذاتيَّة ومنفعتهم الشَّخصيَّة، لذلك مثال التَّلاميذ هو يسوع الذي جاء ليَخدم، لا كحكام هذا العَالَم الذين جاءوا إلى السُّلطة ليُخْدَموا. وهذا الأمر أعلنه يسوع لتلاميذه في العشاء الأخير: " قَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا ما صَنَعتُ إِلَيكم الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظَمَ مِن سَيِّدِه ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه.أَمَّا وقد عَلِمتُم هٰذا، فطوبى لَكُم إِذا عَمِلتُم بِه"(يوحنا 13: 15-17).

 

43 فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك. بل مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا

 

تشير عبارة "فلَيسَ الأَمرُ فيكم كذلِك" إلى نظام ملكوت المسيح المختلف عن ممالك الأرض، فان أعضائه أخوة متساوون، الغني والفقير، المتعلِّم والأمِّي كلهم في رتبة واحدة في كنيسة المسيح. العمل في ملكوت الرَّب لا يحتاج لا إلى سفراء ولا إلى وزراء، لكن لخدّام مُتطوِّعين، يعتبرون كلَّ الآخرين إخوةً وأخواتٍ لهم، وبحاجة لخدمتهم.  ليست الوظيفة هي الّتي تُدخلنا إلى السَّماء، لكن الأعمال الّتي نُتمِّمُها في مهنتنا. أن إشغال المناصب، غيرُ مُرتبطٍ لا بالحسب ولا بالنَّسب، ولا بمصلحة خاصّة أو عامّة. أمَّا عبارة " مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا " فتشير إلى تعارض سُلَّم قيم العَالَم مع سُلَّم قيم الإنجيل. يسود في العَالَم التَّسلط والسِّيادة ومصلحة الذَّات، وفي الإنجيل تسود الخدمة والفِدية ومصلحة الآخرين. يعتبر هذا القول ليس قانونًا بل دستورًا لتعاليم يسوع في الحياة الأخويَّة. فالدُّستور هو التَّشريع الذي يُحدِّد الحقوق والواجبات العامة، أمَّا القانون فهو الذي ينظم العمل والحياة في مجال معين كقانون للعمل، وقانون للعقوبات... العظيم في ملكوت السَّماوات هو من ينسى نفسه ويخدم الآخرين ويتضع باذلًا نفسه كما فعل المسيح نفسه. فهذه لا يعني أن الخدمة عبوديَّة. إنّ المجد الحقيقي لا نجده في الأعلى، بل في الخدمة المتواضعة للآخرين.  فالعظمة ليست في الألقاب والمقامات بل في خدمة الآخرين على خطى ذاك الذي قال: "أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس"(مرقس 10: 45). أمَّا عبارة " فَلْيَكُنْ " فلا تشير فقط إلى نصيحة، بل إلى أمرٍ للتَّمسك في سُلَّم قيم الإنجيل. أمَّا عبارة "خادِما" في الأصل اليوناني اليونانيَّة διάκονος (معناها تابع شخصي أو معين) فتشير على خادم الإنجيل مثل طيموتاوس (1 تسالونيقي 3: 2)، وبولس وأبولُّس (1 قورنتس 3: 5) وابفراس (قولسي 1: 7).  وجاء يسوع إلى العَالَم كالخادم، عبد الله المتألم (أشعيا 52: 13).  والخدمة تتطلب التَّواضع والرَّغبة في فعل الخير. وهذا النَّمط الحياتي هو أساس لمقدرة التَّلاميذ على الاقتداء بالرَّب (يوحنا 13: 34-34).  فتلاميذ المسيح قاموا على خدمته وكانوا شهود عيان له (لوقا 1: 2 وأعمال 26: 16). لذلك الوسيلة للوصول إلى العظمة هي الخدمة على مثال المسيح. ويسوع كان دائمًا يعمل بما يُعلّم. فقد غسل أقدام تلاميذه في العشاء الأخير (يوحنا 13: 4-15). ويعبّر غسل يسوع لأقدام التَّلاميذ تعبيرًا رمزيًا عمَّا كان جوهر حياة يسوع وآلامه، وهو المحبَّة التي تقوم بأكثر الخدمات ضعةً لخلاص البشر. في الإنجيل يكون الأوَّل حين يكون خادم الجميع وعبدًا لهم باذلا نفسه في سبيلهم. أوضح لهم يسوع الفرق الأساسي بين العظمة الأرضيَّة والعظمة الرُّوحيَّة، فالعظمة الحقَّة تنبع من الخدمة المتواضعة المتطوعة. لذلك لا بدَّ لنا أن نتخلى عن مبدأ المناصب ونلتزم بقاعدة واحدة للجميع: الخدمة.  الأكبر هو الذي يجعل من نفسه خادم الآخرين، كما فعل يسوع مُحقّقا ذاته في سرّ الإفخارستيا، حيث " أَخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَه تلاميذه وقال هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْري " (لوقا 2: 19). علم يسوع إن العظمة تأتي من خدمة الآخرين كما جاء أيضا في توصيات بطرس الرَّسول " اِرعَوا قَطيعَ اللهِ الَّذي وُكِلَ إِلَيكم واحرِسوه طَوْعًا لا كَرَهًا، لِوَجهِ الله، لا رَغبَةً في مَكسَبٍ خَسيس، بل لِما فيكم مِن حَمِيَّة.  ولا تَتَسلَّطوا على الَّذينَ هم في رَعِيَّتكم، بل كونوا قُدْوةً للِقَطيع" (1بطرس 5: 2-3). ليست درب الصَّليب والآلام بمفهوم يسوع هو العذاب والألم فحسبـ، إنَّما أيضًا الخدمة.  ولو كرّس كل واحد منا نفسه لخدمة الجميع، لأحدثنا ثورة اجتماعيَّة حقيقيَّة في العَالَم.

 

44 ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا.

 

تشير عبارة "ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا" إلى مقام الإنسان يكمن في الاسم والصيت والوظيفة. أمَّا عبارة "الأَوَّلَ" فتشير إلى الآمر والناهي. أمَّا عبارة "عَبْدًا" في الأصل اليوناني δοῦλος (خادم بلا حريَّة) فتشير إلى إنسان يكون تحت مُلك إنسان آخر حيث يكون صاحب الحق فيه، جسمًا وروحًا وتصرفات وإرادة. وقد ارتضى يسوع أن يتَّخذ هو نفسه صورة عبد كما ورد في تعاليم بولس الرسول: "تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد" (فيلبي 2: 7)، "ولَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (العبرانيِّين 4: 15)، كما تنبَّأ عنه أشعيا النَّبي "فإِذا قَرَّبَت نَفسُه ذَبيحَةَ إِثمٍ " (أشعيا 53: 10). اتّخذ يسوع المكان الأخير، مكان المصلوبين، مكان العبيد. الصَّليب هو المقياس الحقيقي للعظمة. يسوع هو "العبد المتألم" المطيع والمنفِّذ والمستعد أن يفدي نفسه في سبيل الآخرين. وهكذا يقتدي التَّلميذ بمعلمه كما طلب يسوع من تلاميذه: "فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضًا أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض" (يوحنا 13: 14). يُشبه عمل يسوع تلك الأعمال الرَّمزيَّة التي قام بها بعض الأنبياء. كان "غسل قدمي" أحد يُعدُّ عملا مُذلًا، لا يُفرض حتى على عبد يهودي، لكنه قد يصبح أسمى وجه للتَّعبير عن البر بأبٍ أو معلّم. أمَّا في إنجيل لوقا نجد الآية بعبارة موازية "أَمَّا أَنتُم فلَيسَ الأمْرُ فيكُم كذَلِكَ، بل لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم"(لوقا 22: 26)، لانَّ في العَالَم الفلسطيني، " الأصغر" هو الأخير في تسلسل الرُتب، وكذلك في الكنيسة الأولى (أعمال الرسل 5: 6). في الإنجيل، الأوَّل يكون الأول حين يكون خادم الجميع وعبدًا لهم. لم يَعدْ تلميذ المسيح خادمًا بل عبد الجميع من دون استثناء. ونحن لا نختار من نخدم، فكلهم لهم حق في خدمتنا.  قدَّم يسوع تَّعْليمًا جديدًا الذي يَقْلِبُ الـمَفاهيمَ الَّتي يَضَعُها العَالَم، فَيَجْعَلَ العَظَمَةَ في التَّواضُعِ وَالـمَرْكَزَ الأَوَّلَ في خِدْمَةِ لِلْجَميعِ.

 

45 لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس.

 

تشير عبارة "ابنَ الإِنسانِ" إلى السَّيد المسيح الذي قلّده الآب سلطته ومجده وقدرته فصار أحسن قدوة للإنسان كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2: 6-7) وقد ورد هذا اللَّقب 84 مرة في الأناجيل. أمَّا عبارة "لِيُخدَم" فتشير إلى قبول الإنسان خدمة تؤدَّى له.  قَبِل المسيح على سبيل المثال خدمة مريم ومرتا له (لوقا 10: 38-42)، ولكن لم يكن ذلك هدف حياته. أمَّا عبارة " لِيَخدُمَ " فتشير إلى خضوع الإنسان لله من خلال خدمته لأخيه الإنسان. هذا القول من أوائل التَّصريحات الواضحة عن غرض المسيح في مجيئه الذي يكمن في الخدمة والفداء. وفي مفهوم يسوع الخدمة لا تعني الاستعباد، الفداء لا تعني استغلال.  أمَّا عبارة "يَفدِيَ بِنَفْسِه " فتشير إلى ما يُعطى عن الأسير لنجاته من الأسْر، ثم أطلقت على كل ما يُنقذ الإنسان من المصائب أو العبوديَّة أو العقاب أو الموت (خروج 21: 31، وأمثل 13: 8). والفداء بنفسه هو أعظم برهان على أن يسوع لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم غيره، وكانت خاتمة خدمته للناس بذل حياته عنهم. والفداء هو إنقاذ عن طريق دفع الثَّمن لافتداء الأسرى. والثَّمن في مفهوم يسوع يكمن في ضرورة موته من أجل الشَّعب، كعبد الرَّب المُـتألم الذي يفدي الناس من الشَّر (أشعيا 53: 11-12)؛ كان العبد يُفدى بالمال، أمَّا يسوع فافتدانا بآلامه وموته واكَّد ذلك بولس الرَّسول " فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن " (1 قورنتس 7: 23). كان الثَّمن يكمن في وضع حياته للموت، فصارت حياته ثمن فدائنا.  فالفداء هي دلالة على أن النَّاس أسرى الخطيئة وعبيدٌ لها وتحت دينونة الله وعرضة للموت (رومة 2: 6-9) لذلك بذل المسيح حياته ليفديهم من تلك العبوديَّة والدَّينونة والموت. مات المسيج كفارة عن الخطأة لكيلا يموتوا إلى للأبد. أمَّا عبارة "جَماعةَ النَّاس" في الأصل اليوناني ολλῶν (معناها كثير من الناس) فلا تشير إلى التَّخصص بل الشُّمول أي مجمل الشَّعب، بل البشريَّة كلها: بموت الواحد يتَّم فداء الجماعة (2 قورنتس 5: 13-14). فهناك مقابلة بين الواحد الذي هو الفادي يسوع والكثرين وهم المُفتَدون. لأنَّ ذلك الفادي، ابن الله، كان لموته قيمة لا تُحد. يقبلها الله بدل موت البشر إن أتوا إليه بالإيمان والتَّوبة. وقول الإنجيل جماعة الناس لا يمنع أنَّه فدية الجميع وَفقًا لقول بولس الرَّسول: " الَّذي جادَ بِنَفْسِه فِدًى لِجَميعِ النَّاس" (1 طيموتاوس 2: 6). لكن الفداء وإن كان عن الجميع قبله كثيرون لا الجميع. ومن هذا المنطلق، لا تشير العبارة هنا إلى تحديد مجال عمل المسيح التَّكفيري، كأنه عن جماعة فقط بل للكِّل.  إنه فداء جماعة يحصلون على بركة بالذَّبيحة الواحدة لذلك الواحد كما وضَّح ذلك بولس الرَّسول "فكما أَنَّه بِمَعصِيَةِ إِنسانٍ واحِدٍ جُعِلَت جَماعةُ النَّاسِ خاطِئَة، فكَذلِكَ بِطاعةِ واحِدٍ تُجعَلُ جَماعةُ النَّاسِ بارَّة " (رومة 5: 19). وفي الواقع، بذل يسوع دمه على الصَّليب مُحقَّقًا العهد الذي قُطعه قديمًا في جبل سيناء بدم الضَّحايا (خروج 24: 4-8)، مُخْبِرًأ ضمنًا بتحقيق العهد الجديد الذي تنبأ به الأنبياء (ارميا 31: 31-34)، وذلك ما لذبيحته من قيمة شاملة من اجل جماعة الناس (أشعيا 53: 12). أمَّا عبارة "يَفدِيَ" في الأصل اليوناني λύτρον ἀντὶ (معناها فدية) فتشير إلى الثَّمن الذي يدفع لعتق عبد وتحريره من العبوديَّة.  وقد دفع يسوع فدية عنا لعدل الله في حقوقه على الإنسان، التي لم يكن في طاقتنا دفعها. وبيّن يسوع انه ينبغي أن يموت لفداء جميع الناس من عبوديَّة الخطيئة والموت. وهذا هو سبب موت المسيح. وفي هذا الصَّدد قال بولس الرَّسول: " قَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح" (1 بطرس 1: 18-19). كان العبد يُفدى بالمال، أمَّا يسوع فافتدانا بدمه وآلامه وموته، نيابة عن الإنسان ومكانه كما أكّد ذلك بولس الرَّسول اشترينا ودُفع الثَّمن (1قورنتس 6: 20). مات يسوع من اجل وبدل جماعة الناس، كالعبد المتألم من أجل كافة الشَّعب " يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين وهو يَحتَمِلُ آثامَهم.  فلِذلك أَجعَلُ لَه نَصيبًا بَينَ العُظَماء وغَنيمةً مع الأَعِزَّاء لِأَنَّه أَسلَمَ نَفْسَه لِلمَوت وأُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكَثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم"(أشعيا 53: 11-12). وهذا القول هو من أهم الأقوال التي وردت في الأناجيل، بل هو مفتاح الإنجيل.  ليتنا نتبع المسيح الخادم الذي يخدم فيضحِّي بحياته من أجل الجماعة. ويُعلق البطريرك لويس روفائيل ستاكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك عن خدمة الكاهن كتلميذ المسيح بقوله: "الكاهن هو خادم بالدَّرجة الأولى وليس شيخًا ولا أميرًا ولا موظفًا من درجة رفيعة، فلا داع لينفخ روحه ويُكبر حجمه ويغدو شخصًا مغرورًا يتكلم عن نفسه وإنجازاته، بل هو الخادم المتواضع الذي يعمل بروح المسؤوليَّة والقيادة. والتَّواضع لا يعني مسح مواهبنا وقدراتنا، بل أن نستثمرها من اجل الكنيسة والجماعة ويكون شعورنا بانَّها نعم من الله نحمده عليها". يمكننا أنّ نكتشف أنّ في داخلنا الرغبة في منطق الحياة، وهو الّذي يقترحه علينا يسوع اليّوم أن نصير خدامًا ومكاننا هو آخر الجميع.  فالأمر متروك لنا كتلاميذ أنّ نتبنَّى منطق حياتنا الخاص على مثال المعلم الّذي لا يتماثل فقط في الخدمة، بل وفي بذل ذاته من أجل الآخرين.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 10: 35-45)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (مرقس 10: 35-45) نستنتج أن النَّص يتمحور حول السُّلطة وموقف يسوع منها. ومن هنا نتساءل: ما هو موقف التَّلاميذ من السُّلطة؟ ثم ما هو موقف يسوع منها.

 

ما هو موقف التَّلاميذ من السُّلطة؟

 

بينما كان يسوع وتلاميذه سائرين في الطَّريق إلى اورشليم أعلن لهم مرة ثالثة عن موته وقيامته. وبهذا الإعلان جعل يسوع تلاميذه يستشفُّون آلامه وموته كتتويج لرسالته، ومع ذلك، هم ما زالوا يتعلقون بمسيح مُمجدٍ وقدير يُلبِّي طموحاتهم، فدنا إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدى يطلبان أن يتَّخذا المكانة الأولى في ملكوت المسيح "اِمنَحْنا أَن يَجلِسَ أَحَدُنا عن يَمينِك، والآخَرُ عَن شِمالِكَ في مَجدِكَ" (مرقس 10: 37).

 

لا يزال هذان الرَّسولان وباقي الرُّسل يعيشون عقليَّة عصرهم. فهم يسعون إلى اعلى المناصب في السُّلطة، ولا يعلمون أن ملكوت المسيح ملكوت روحي، والدُّخول فيه يتطلب كأسًا من الموت ومعموديَّة الدَّم. فحاول يسوع أن يدلَّهما على الطَّريق التي توصلهما إلى المجد في ملكوته ليس فقط عن طريق العذاب والموت بل أيضا عن الخدمة. في العَالَم يميل الناس إلى التَّسلط والرِّئاسة، ويستغلون كل نفوذ شخصي للحصول على رفعة ذاتيَّة. أمَّا في الملكوت فالعظمة تنبع من الخدمة المتواضعة والبذل في سبيل الآخرين.

 

ما هو موقف يسوع من السُّلطة؟

 

تقلّد يسوع سلطته من الله. ووصف السُّلطة من وجهة نظر جديدة: بدلا من استغلال الناس من خلال السُّلطة، علينا أن نخدمهم. بينما يستغل رؤساء هذا العَالَم ما لهم من سلطة للسيطرة على الآخرين، فالمسيح يقف بين خاصته موقف من يخدم وكأن له قلب خادم، كما قال: "فأَنا بينَكم كالَّذي يَخدُم" (لوقا 22: 25-27). بالرغم من أنه ربٌّ ومعلمٌ (يوحنا 13: 13)، أتى يسوع من أجل الخدمة وبذل الذَّات (مرقس 10: 42-44). فكان يسوع يمارس ما يُعلم به. وهكذا اتَّخذ صورة العبد، ولكن في النهاية تجثو له كلّ ركبة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض" (فيلبي 2: 5-11). لذلك فإنه بعد قيامته، سوف يستطيع أن يقول لخاصته "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ (ἐξουσία) في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18). السُّلطة ليست قيادة ونفوذ بل صدق وشهادة حياة.

 

يتميز موقف يسوع أمام السُّلطة السِّياسيَّة بمرونة أكبر. فهو يعترف باختصاص قيصر "أَدُّوا إِذًا لِقَيصَرَ ما لِقَيصر، وللهِ ما لله "(متى 22: 21)، ولكن ذلك لا يجعله يتغاضى عن الظُّلم الواقع من قِبل ممثلي السُّلطة "تَعلَمونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها " (مرقس 10: 42). فعندما يَمْثُل أمام الحاكم بيلاطس البنطي، لا يشكّك في سُلطته التي يعرف أصلها الإلهي، وإنَّما يفضح ظلمها الذي يذهب هو ضحيته، كما صرّح يسوع له: "لو لم تُعطَ السُّلطانَ مِن عَلُ، لَما كانَ لَكَ علَيَّ مِن سُلْطان، ولِذلِكَ فالَّذي أَسلَمَني إِلَيكَ علَيه خَطيئَةٌ كبيرة" (يوحنا 19: 11)، ويقرّ لنفسه بمملكة: "لَيسَت مِن هذا العَالَم"(يوحنا 18: 36). ومن هذا المنطلق، إن ملكوت المسيح يختلف كلّيًّا، بتأسيسه وأهدافه وموظَّفيه عن مملكة العَالَم.  ولا يعتمد يسوع على القوّة ولا على السلاح كما أعلن: "لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العَالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ"(يوحنا 18: 36). وتنتشر مملكته بين البشر وعلى الأرض بكلِّ هدوء، وهو لكلِّ البشر، وتقبل بين أعضائها كلَّ إنسان يؤمن بالله الخالق، ويعترف، بأنّ يسوع هو الابن المخلِّص. وفي مملكته تتجلّى المساواة والعدالة والمحبّة والسّلام.

 

أشار يسوع بمبدأ أساسي للسلطة: "أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). وهذا القول مفتاح الإنجيل، وهو من أوائل التَّصريحات الواضحة عن هدف المسيح في مجيئه إلى الأرض، كما يوضِّح عمل المسيح بشقيّه: ليَخدم وليَفدي. والواقع يقسم مرقس إنجيله إلى قسمين: من الفصل الأول حتى العاشر يختص بخدمة الابن، وبقيَّة الإنجيل تختص بذبيحة الابن أي فدائه (مرقس 10: 45).

 

أ) السُّلطة خدمة

 

يتفق لفظ "خدمة" بالعبريَّة עבד باليونانيَّة δουλεύω للدَّلالة على حالتين: خدمة العبد على مستوى العبوديَّة، وخدمة الخادم على مستوى الإنسان الخاضع لله.  والمسيح طالب بسلطته ليغفر الخطايا، وليعلِّم، وليطرد الباعة من الهيكل. ولكن السُّلطة ليست التَّسلط، بل هي خدمة. لقد جاء المسيح ليَخدم لا ليُخدم. لم يأت ليأمر وإنَّما ليُطيع؛ لم يأتِ لكي تُغسل قدماه بل لكي يَغسل هو أقدام تلاميذه. فالسُّلطة لا تعارض الخدمة، بل هي مسؤوليَّة يعطيها الله للخدمة. ويعلق البابا فرنسيس: "يقول لنا يسوع أن السُّلطة الحقيقيَّة هي في الخدمة، في خدمة الآخرين وليس في استغلالهم؛ والسُّلطة هي للخدمة وبالتَّالي فيجب ممارستها من أجل خير الجميع ومن أجل نشر الإنجيل" (عظة البابا 4/10/2020). وعندما شجب يسوع شهوة السُّلطة، فهو يعارض النَّموذج السِّياسي أي كان. ويُعلق القديس ايرونيموس "لنتبع المسيح ربنا، فإن من يقول أنَّه يؤمن به يلزم أن يسلك كما سلك ذاك" (1 يوحنا 2: 6).

 

عندما أراد يعقوب ويوحنا الحصول على ارفع مراكز السُّلطة في ملكوت يسوع، أراهم يسوع أن العظمة تأتي من خدمة الآخرين وبذل الذَّات فدية عنهم. العظمة الحقيقيَّة هي في الصَّليب وفي الخدمة والبذل. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم على لسان يسوع: " إن كنتم تطمحون إلى المركز الأوّل وإلى المجد العظيم، يجب أن تبحثوا عن المركز الأخير وأن تجتهدوا لتصبحوا الأكثر بساطة، والأكثر تواضعًا والأكثر صِغَرًا بين الجميع. كونوا بعد الآخرين. هذه هي الفضيلة التي ستمنحكم الشَّرف الذي تطمحون إليه.  هكذا، يمكنكم أن تحصلوا على المجد والشُّهرة"(عظة ضدّ الهراطقة).  أمامنا مثال ساطع، إذ "إنّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45).

 

عندما أوفد يسوع تلاميذه للرِّسالة، فوّض لهم سلطانه الخاصّ " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ" (لوقا 10: 16)، وعهد إليهم بسلطانه "فأَقامَ مِنهُمُ اثنَي عَشَرَ لِكَي يَصحَبوه، فيُرسِلُهم يُبَشِّرون، ولَهم سُلْطانٌ يَطرُدونَ بِه الشَّياطين" (مرقس 3: 14 -15). ولكنه علّمهم أن هذا التَّفويض هو في الحقيقة خدمة: "لِيَكُنِ الأَكبَرُ فيكم كأَنَّه الأَصغَر، والمُتَرَئِّسُ كأَنَّه الخادم" (لوقا 22: 26). وفعلًا نرى الرُّسل يلتزمون في وصية يسوع ويمارسون سلطانهم مع حرصهم قبل كلّ شيء على خدمة المسيح والناس كما يشهد بولس الرَّسول "أَيُّها الإِخوَة، جَهْدَنا وكَدَّنا فقَد بَلَّغْناكم بِشارةَ الله َونحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم "(1 تسالونيقي 2: 9). ويوضِّح بطرس هذه الفكرة بقوله للكهنة الكنائس: " اِرعَوا قَطيعَ اللهِ الَّذي وُكِلَ إِلَيكم ...ولا تَتَسلَّطوا على الَّذينَ هم في رَعِيَّتكم، بل كونوا قُدْوةً للِقَطيع (1بطرس 5: 1-4). ومع كون هذه السُّلطة تمارس بطريقة منظورة، إلا أنها تظلّ مع ذلك روحيَّة في طبيعتها؛ فهي تقتصر على إدارة شؤون الكنيسة.

 

ب) السُّلطة فدية

 

السُّلطة ليست فقط خدمة الآخرين، بل إنها أيضا بذل الذَّات لأجل الآخرين وفديتهم، كما جاء في قول المسيح لتلاميذه: "لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). "كلمة فدية تتكرَّر تسع مرات في العهد الجديد. لفظة فدية في الأصل اليوناني δίδωμι؛ والمقصود بها هو الثَّمن المدفوع لإخلاء سبيل سجين أو لافتداء أسير. وبعبارة أخرى الإنقاذ عن طريق دفع الثَّمن. نفس الإنسان قد تُفقد أو تُخْسَر "وماذا يُعطي الإِنسانُ بدلًا لِنَفسِه؟" وتعني هذه الآية أنَّ يسوع جاء ليضع حياته كثمن الفدية حتى يستردَّ الخاسرون حياتهم من جديد. ومن هنا جاء لفظ آخر في اليونانيَّة لكلمة فديةλύτρον تسبقها حرف جر ἀντὶ للدلالة على طبيعة عمل يسوع النِّيابي. ويمكن إيضاح معنى حرف الجر بتوقيع أحدهم بإمضائه نيابة عن آخر لا يعرف القراءة والكتابة. فهو يعمل ما لا يستطيع الآخر أن يعمله نيابة عنه ومكانه. أمَّا في العهد القديم فتدل كلمة "فدية" יִּפְדְּךָ على التَّحرير الذي وهبه الله لشعبه من عبوديَّة مصر (تثنية الاشتراع (ومن الجلاء إلى بابل (أشعيا 41: 14)، ومن الخطيئة على وجه عام (مزمور 130: 8).

 

إن" الفدية"ἀπολύτρωσις في مفهوم العهد الجديد تدلُّ على "التَّحرير" الذي تمّ في يسوع المسيح (1 قورنتس 1: 30). إنه مغفرة الخطايا (قولسي 1: 14) وغايته إنشاء شعب جديد خاص الله (أفسس 1: 14)، بعد أن كان الشَّعب عبدًا للخطيئة والموت (رومة 6: 6). ويقول لنا بولس الرَّسول: "إن الفداء هو عطيَّة مجانيَّة من الله كما جاء في رسالته: "فكانَ لَنا فيه الفِداءُ بدَمِه أَيِ الصَّفْحُ عنِ الزَّلاَّت على مِقدارِ نِعمَتِه الوافِرة" (أفسس 1: 7). وكثيرا ما يقول بولس الرَّسول أن المسيحي "اشتري" أو "افتدي" "فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن"(1 قورنتس 6: 20). وتشير هذه العبارة قبل كل شيء إلى أن المسيحي هو "خاصة الله"، ومُحرَّر من عبوديَّة الخطيئة والموت. بالمسيح الذي مات وقام، ينال المؤمن منذ الآن هذا الفداء. وهذا الفداء لن يكون تامًا ونهائيًا إلاَّ في آخر الأزمنة (أفسس 1: 14). ويشمل جسد الإنسان (رومة 8: 24) والخليقة كلها (رومة 8: 22).

 

ثمن الفداء هو "دم " يسوع، أي حياته المبذولة عن محبة كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "فكانَ لَنا فيه الفِداءُ بدَمِه" (أفسس 1/ 7). فان الله لكثرة محبته لنا، لم يتردَّد في تسليم ابنه "أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين. فما أَحرانا اليَوم، وقَد بُرِّرنا بِدَمِه، أَن نَنجُوَ بِه مِنَ الغَضَب! "(رومة 5: 8).

 

ج) كيف يُجري الله فداءنا في المسيح؟

 

يُعبر بولس الرَّسول عن طريقة الفداء من خلال مفردات خاصة بالقانون والذَّبائح والمشاركة. أمَّا المفردات الخاصة بالقانون فيكتب بولس الرَّسول: "حَقَّقَ اللهُ الفداء أو التَّحرر بالرُّوح بإِرسالِ ابِنه في "جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدنا الخاطِئ، كَفَّارةً لِلخَطِيئَة. فَحَكَمَ على الخَطيئَةِ في الجَسَد" (رومة 8: 3).

 

استخدم بولس الرَّسول ألفاظًا خاصة بالذَّبائح، وهي ذبيحة عن الخطيئة كالتَّكفير "لكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه" (رومة 3: 24-25). الكفارة تدل على مكان الرَّش في عيد التَّكفير السَّنوي في هيكل اورشليم. وفي أثناء هذا الاحتفال، كانت خطايا إسرائيل تًغفر (أحبار 16). ويرى بولس الرَّسول في هذه الرُّتبة صورة لذبيحة المسيح. فالمسيح يبذل "دمه" أي أنَّه بتقريب ِب نفسه ذبيحة، يهب لنا غفران الله. وبالإيمان وحده يُمكننا من الاستفادة من هذا الغفران، وهذا الخلاص كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله" (2 قورنتس5: 21).

 

جاء توضيحًا للمفردات المشاركة للتعبير عن طريقة الفداء في تعليم بولس الرَّسول" فإِذا اتَّحَدْنا بِه فصِرْنا على مِثالِه في المَوت، فسنَكونُ على مِثالِه في القِيامةِ أَيضًا... فإِذا كُنَّا قَد مُتْنا مع المسيح، فإِنَّنا نُؤمِنُ بِانَّنا سنَحْيا معَه" (رومة 6: 5-7). فالمسيح يتضامن بذبيحته مع البشريَّة الخاطئة ويُصبح رأس البشرية الجديدة التي تشترك في حياته، مُقرّبًا نفسه لله وجاعلاً نفسه عن محبة في خدمة البشر كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "سِيروا في المَحَبَّةِ سيرةَ المسيحِ الَّذي أَحبَّنا وجادَ بِنَفسِه لأَجْلِنا قُربانًا وذَبيحةً للهِ طَيِّبةَ الرَّائِحة" (أفسس 5: 2).

 

كانت الفدية هي الثَّمن الذي يُدفع لإعتاق العبد. دفع يسوع الثَّمن فدية عنَّا، حيث لم يكن في طاقتنا أن ندفعها؛ فموته قد أعتقنا جميعا من عبوديَّة الخطيئة. وها هو سبب موت المسيح. لقد ظن التَّلاميذ أن حياة يسوع وقوته ستخلصهم من سلطة روما، ولكن يسوع قال إن موته هو الذي يخلصهم من الخطيئة، وهي عبوديَّة أقسى من عبوديَّة روما، كما أكد ذلك بطرس الرَّسول: "وقَد عَلِمتُم أَنَّكم لم تُفتَدَوا بِالفاني مِنَ الفِضَّةِ أَو الذَّهَب مِن سيرَتِكمُ الباطِلَةِ الَّتي وَرِثتُموها عن آبائِكم، بل بِدَمٍ كريم، دَمِ الحَمَلِ الَّذي لا عَيبَ فيه ولا دَنَس، دَمِ المسيح" (1 بطرس 1: 18:19).

 

 

الخلاصة

 

بينما كان يسوع يقترب من أورشليم، ويُنبئ للمرة الثَّالثة بآلامه وموته (مرقس 10: 32-34)، يبدو أن التَّلاميذ، على العكس، كانوا يبتعدون عنه ويطلبون المراتب الأولى ومراكز الشَّرف والسُّلطة في المملكة الأرضية. أسَّس يسوع ملكوتًا روحيًا، لذلك من يرغب اقتناء المكانة الأولى في ملكوته، ينبغي أن يصير على مثال يسوع خادمًا عند الجميع، وان يَعُدَّ نفسه آخر القوم، وان يتلاشى في سبيل الآخرين خدمة وبذلا وعطاءً وتفانيًا على مثال ابن الإنسان، يسوع المسيح. وهذه هي القاعدة الذَّهبيَّة التي سنّها يسوع لتلاميذه. يتوجب على كلِّ واحد منَّا أن يصبح خادمًا وعبدًا فيتضامن مع الجميع لكي يقتدي بيسوع ويسير على خطاه للوصول إلى المجد. هذا هو النَّهجُ الجديد لممارسة السُّلطة.

 

 يُمكننا إحداث ثورة اجتماعيَّة حقيقيَّة في هذا العَالَم المتخبط بالعنف والظُّلم والقتل لو كرّس كل واحد نفسه لخدمة الآخرين. إذ لا يوجد موضع في كنيسة الله للتَّسلط العَالَمي بل للخدمة وبذل الذَّات للآخرين كما صرَّح يسوع: "من أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا" (مرقس 10: 44). وفي هذا الصدد يثول بولس الرسول: "بِفَضلِ مَحَبَّةِ (المسيح) اخدِموا بَعضُكم بَعضًا "(غلاطيَّة 5: 13.) فإن العظمة الحقيقيَّة ليست في المراكز العَالَميَّة بل بالتَّشبه بالمسيح في خدمته وتضحيته وبذل الذَّات فداء للجميع.

 

خضَع يسوع للتَّجربة في اختيار بين مجد العَالَم الزَّائل والمجد الذي أعطاه إيّاه الآب، إذ قالَ له إبليس: "أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه" فعلمنا أنداك أن نطلب المجد الحقيقي من الآب، "فَأَجابَه يسوع: مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد" (مرقس 4: 6).  فالمجد الذي يطلبه يسوع من الآب لا يتعلّق بالسُّلطة وتوابعها، بل بالمجد على الصَّليب ليمُجد الآب ويهب الحياة الأبديَّة كما جاء في صلاة يسوع: "يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ بِما أَولَيتَهُ مِن سُلطانٍ على جَميعِ البَشَر لِيَهَبَ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له"(يوحنا 17: 1). 

 

 

دعاء

 

أيها ألآب السَّماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الحبيب، الذي جعل الجلوس معه في الملكوت مرهونًا بروح الخدمة وتحمل الألم، امنحنا أن نشرب كأس الآلام التي شربها، ونتعمد بالمعموديَّة التي اعتمدها، معموديَّة الحب، فنخدم إخوتنا حتى الرَّمق الأخير من حياتنا. آمين 

 

 

قصة وعبرة: الحياة خدمة وعطاء

 

"تشن" اسم طفل صيني في السَّابعة من عمره، أُصيب مع والدته في الوقت نفسه بسرطان في المخ، وفقد بصره وهي بفشل كلوي مُزمن.  طيلة فترة العلاج كان كلُّ منهما يزور الآخر، ويخفف آلم الآخر. وكانت حالة "تشن" تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. وقد شارف على الموت. عندئذ طلب "تشن" من الأطباء نقل كليته لأمِّه، لكنَّها رفضت ومع إصرار الطاقم الطِّبي وإلحاح تشن قائلا: "استمري في الحياة بقطعةٍ مني".

 

وافقت الأم أمام هذا الموقف العصيب. وبعد عمليَّة زرع الكلى مات "تشن" بعد ساعات قليلة، فاكتشفت الأم أنَّه طلب من الأطباء دون إعلامها أن يتبرع بكبده لمريض كان معه في الغرفة، وكليته الأخرى لفتاة بالغرفة المجاورة له!

توفي "تشن” وأعطى الحياة لثلاث أشخاص بعده. متى تعلّم "تشنّ" هذا الكم الهائل من التَّضحيَّة؟ تخرّج ""تشن" عظيمًا من مدرسة يسوع، مدرسة الحب.

 

لم يفهم تلاميذ يسوع في حينها أن العظمة تكون في الخدمة حتى التَّضحيَّة بالنَّفس على مذبح الحبِّ كما فعل هو ليعطي الحياة للذين هم في الأرض. لم يتبرع يسوع بكليتيه فقط أو بكبده أو بقرنية عينيه أو أحد أعضاء جسده بل بجسده ودمه كاملين، ولا زال حتى اليوم يقدِّم نفسه مأكلًا ومشربًا للذين يتقدَّمون منه. رغم من ذلك لا زلنا حتى اليوم نسأل يسوع كيعقوب ويوحنا أن يعطينا نوعًا من السُّلطة كي نتسلط على الآخرين ونتحكم بأعناقهم وأرزاقهم! بدلا من خدمتهم والتضحية في سبيلهم.