موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤

تعليم يسوع في شريعة الطَّلاق

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد السَّابع والعشرون للسَّنة: تعليم يسوع في شريعة الطَّلاق (مرقس 10: 2-16)

الأحد السَّابع والعشرون للسَّنة: تعليم يسوع في شريعة الطَّلاق (مرقس 10: 2-16)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 10: 2-16)

 

2 فدَنا بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ وسأَلوه لِيُحرِجوه هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أَن يُطَلِّقَ امَرأَتَه. 3 فأَجابَهم: ((بِماذا أَوصاكم مُوسى ؟)) 4 قالوا: ((إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح)). 5 فقالَ لَهم يسوع: ((مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة. 6 فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة ((جعَلَهما اللهُ ذَكَرًا وأُنْثى. 7 ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه. 8 ويَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا)). ((فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد. 9 فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان)). 10 وسأَلَه التَّلاميذُ في البَيتِ أَيضًا عن ذلك، 11 فقالَ لَهم: ((مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها. 12 وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت)).  13 وأَتَوهُ بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم، فَانتَهَرهُمُ التَّلاميذ. 14 ورأَى يسوعُ ذلك فاستاءَ وقالَ لَهم: ((دَعُوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم، فَلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله. 15 الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه)). 16 ثُمَّ ضَمَّهم إِلى صدرِه ووَضَعَ يَديهِ علَيهِم فبارَكَهم.

 

 

مُقدّمة

 

يصف نص إنجيل مرقس وصول يسوع إلى  بِلاَدَ اليَهوديَّةِ عِندَ عِبْرِ الأُردُنّ" (مرقس 10: 1) فيوجَّه إليه الكتبة والفِريسيِّين مجموعة من الأسئلة، ومنها حول الزَّواج والطَّلاق (مرقس 10: 2-16). فقد كانت هناك مدرستان رئيسيتان لهما آراء متعارضة في قضيَّة الطَّلاق: مدرسة الرَّابي هليّل المتساهلة، سمحت بالطَّلاق "لأَيَّةِ عِلَّةٍ كانت" (متى 19: 3).  مدرسة الرَّابي شمَّاي المتشدِّدة، لا تسمح بالطَّلاق إلاَّ في حالة الخِيانة الزَّوجيَّة. فأين هو وموقف يسوع؟  ذّكر يسوع اليهود بالمعنى العميق للزواج الذي هو عهدُ حبٍ يدوم حتى الموت ولا طلاق فيه. ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 10: 2-16)

 

2 فدَنا بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ وسأَلوه لِيُحرِجوه هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أَن يُطَلِّقَ امَرأَتَه

 

تشير عبارة "الفِرِّيسيِّينَ" (من الآراميَّة הַפְּרוּשִׁים ومعناها المنعزل) إلى إحدى فئات اليهود الرَّئيسيَّة الثَّلاث: الفِرِّيسيِّينَ والصَّدوقيين والأسِّينيين، وكانت فئة الفِرِّيسيِّينَ أضيقها رأيًا وتعليمًا (أعمال الرسل 26: 5). فقد حصر الفريسيُّون الصَّلاح في طاعة النَّاموس فجاءت ديانتهم ظاهريَّة لا قلبيَّة داخليَّة. وقالوا بوجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخَلف عن السَّلف. وزعموا أنَّه معادلٌ للشريعة المكتوبة سلطةً أو أهمّ منها. فجاء تصريح المسيح بأن الإنسان ليس ملزمًا بهذا التقليد (متى 15: 2 و3 و6). أمَّا عبارة "لِيُحرِجوه" في الأصل اليوناني ἐπηρώτων αὐτὸν (معناها ليمتحنوه بسوء نيَّة) فتشير إلى الفِرِّيسيِّينَ الذين يريدون أن ينصبوا فخًا ليسوع (مرقس 8: 11) في سبيل إرباكه ومضايقته. وسؤال الفِرِّيسيِّينَ للمسيح موجّه ضمنيًا ضد هيرودس انتيباس وهيروديا.  هيرودس كان قد طلق امرأته بنت الحارث ليتزوج بامرأة أخيه فيلبس (مرقس 6: 17-28).  لو منع المسيح الطَّلاق لاشتكوه لهيرودس فيقتله كما قتل المَعمَدان. ولو سمح المسيح بالطَّلاق لكان أقلَّ من يوحنا المعمدان جُرأة في الشَّهادة للحق. ولكن يسوع استخدم هذه الفرصة ليُبيِّن قصد الله في الزَّواج. استفاد يسوع من أسئلتهم المغلَّفة ليقدِّم تعليمًا لتلاميذه. أمَّا عبارة "هَل يحِلُّ لِلزَّوجِ أَن يُطَلِّقَ امَرأَتَه" فتشير إلى سؤال في موضوع الطَّلاق حول مشكلة تطبيق القاعدة المنصوص عليها في سفر تثنية الاشتراع "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ويصرِفْها مِن بَيته" (تثنية الاشتراع 24: 1). سمحت الشَّريعة بالطَّلاق؛ ولكن ما هي الحالات التي يُسمح بها بالطَّلاق؟  ينص التشريع الموسوي على أنَّه يجوز للزَّوج أن يعطي زوجته كتاب طلاق إن وُجد فيها أمرٌ لا يليق بها، ولكن السُّؤال ما هو هذا الأمر الذي لا يليق. الطَّلاق موجود في العَالَم اليهودي، لكن إلى أي حدٍ يُسمح به؟ في الواقع السُّؤال في حدّ ذاته سيّئ الطَّرح، لأنّه يستخدم الشَّريعة، بشكل مشوّه لتبرير الأنانيَّة الشَّخصيَّة، وللتهرب من الشُّعور بالذِّنب، كما لو كان التقيّد الحرفي بالشَّريعة كافيًا لحياة ناجحة. ما يهم هؤلاء الفِرِّيسيِّين هو معرفة ما هو جائز وما هو غير جائز. هم متشدِّدون في الشريعة ولا يفكرون في اتخاذ القرار بأنفسهم أمام الله. فهم مكتفون لضمان الحد الأدنى من الشريعة. لكن الشريعة لا تذهب إلى ما هو أبعد من العدل. أمَّا عبارة " يُطَلِّقَ امَرأَتَه" فتشير إلى الانحلال من قيد الزَّواج وفك الرَّوابط الزَّوجيَّة.

 

3 فأَجابَهم: بِماذا أَوصاكم مُوسى؟

 

تشير عبارة "بِماذا أَوصاكم مُوسى؟" إلى سؤال يسوع للفِرِّيسيِّين عن وصيَّة موسى. هل هناك وصيَّة من قِبل موسى. طرح يسوع السُّؤال وترك الفِريُّسيُّون يجاوبون للردّ عليهم من إجابتهم عينها.

 

4 قالوا: إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح

 

تشير عبارة "إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح" إجابة الفريسيّين من نص سفر تثنيّة الاشتراع 24: 1-4). أجابوا يسوع كمعلمين يحفظون ولا يفهمون ما يحفظوه ويُكررونه على مسامع تلاميذهم.  أمَّا عبارة " مُوسى " اسم مصري قديم (معناه وُلد)، وفي العبري משֶׁה (معناه منتشل) فتشير إلى قائد الشَّعب العبراني ومؤسِّس النِّظام الدَّيني الذي يُسمَّى الآن باسمه حيث أعطى الله النَّاموس لموسى رأسًا ثم منحه قوة على إدراك معناه وإثبات فوائده. وصارت مبادئ ذلك النَّاموس قاعدة لكثير من الشَّرائع. وأنشأ موسى ناموس الوصايا الجسديَّة.  أمَّا يسوع فقد وهب ناموس الحياة الرُّوحيَّة. أمَّا عبارة "رَخَّصَ " فتشير إلى سماح أو إجازة أو الترخيص أي الإعفاء، والإعفاء لا يُلغي الشَّريعة الأساسيَّة.  يتكلم الفِّريُّسيُّون عن ترخيص الطلاق من قِبل موسى، ويسوع يُجيبهم أنَّها مجرد ترخيص وليست وصيَّة. أعلن يسوع أن الطَّلاق هو ترخيص وليست وصيَّة في الشَّريعة. سمح الله بالطَّلاق لفساد النَّاس في ذاك الحين، بالرَّغم من أن الطلاق غير مقبول، لكنَّه سمح به موسى لحماية الشَّريك المظلوم في موقف سيِّئ. أمَّا عبارة "أَن يُكتَبَ لَها" فتشير إلى موسى الذي لم يرخص بالطَّلاق إنما رخَّص أن يكتب كتاب طلاق فتُطلق الزَّوجة بموجبه، وهنا يوجد فرق بين التعبيرين، حيث أنَّ الترخيص بالطَّلاق يجعل منه أمرًا سهلًا، أمَّا كونه يُرخص بكتابة كتاب الطَّلاق أولًا، فيعني هذا أن الرَّجل قبل أن يُطلق امرأته يلزمه أن يذهب إلى أحد الكتبة طالبا منه أن يكتب له كتاب الطَّلاق، وكان يلزم أن يكون هؤلاء الكتبة من العقلاء الذين يباحثونه الأمر، ويهدِّئون من غضبه ما استطاعوا ويلجئون إلى كبار عشيرته أو سبطه إن احتاج الأمر، يُلطفون من الموقف، ويحاولون  مصالحة الرَّجل مع امرأته. ربما كان الرَّجل وهو يكتب كتاب طلاق لزوجته يعرف أن بهذا الكتاب ستصير لآخر فيتراجع حينها عن فكرة الطَّلاق.  أمَّا عبارة "كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح" فتشير إلى عادة اليهود أن يُعطي الزَّوج زوجته التي يريد طلاقها كتابًا يشير فيه إلى تاريخ الطَّلاق وموضوعه وسببه ويسمح لها بالزَّواج بِمْن شاءت على ما ورد في الشَّريعة "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته" (تثنية الاشتراع 24: 1). كان قانون الطَّلاق مُصممًا من أجل كبح ظلم الرَّجل للمرأة، حتى لا يكون تعسّفيًا بشكل مطلق. فمن أراد أن يطلِّق زوجته، كان عليه أن يفعل ذلك علانيَّة، وأن يتحمل المسؤوليَّة عن ذلك، وكان ينبغي أن يكون لديهم أسباب وجيهة للّقيام به. لكنَّه لا يمكن أن يسود علاقة الحب بين الرَّجل والمرأة أن كان هناك إمكانية الطلاق. إنّ ما سمح به الرَّب كان أمرًا مؤقتًا.

 

5 فقالَ لَهم يسوع: ((مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة))

 

تشير عبارة "قَساوَةِ قُلوبِكم" إلى تأكيد يسوع على ما ذكره موسى، بناء على أنانية بني إسرائيل وإغلاق قلوبهم عن مشيئة الله (التكوين 1: 27)، إذ رخَّص موسى كتاب طلاق لأجل الضُّعف البشري في حالة المجتمع الفاسدة ولاجتناب شرّ أعظم مع أنَّه لم يكن السَّماح به إلاّ إلى حين فقط.  الطلاق ما هو إلّا ثمرة قساوة قلب الإنسان ورفض المُخطَّط الإلهي.  وفي الواقع، بما أنَّ البشريَّة تعيش جوًا من العنف منذ زمن نوح (تكوين 6: 5-6)، جاء هذا الترخيص حماية للمرأة، أو اجتناب الانحراف إلى العبادات الوثنيَّة التي تُبيح الطَّلاق.  الطَّلاق سُمح في المجتمع الذي فقدَ رؤية إرادة الله لترتيب رافق الضُّعف البشري لكي يُخفِّف من قساوة نتائج الطَّلاق، لا لتوسيع عمليات الطَّلاق.  لذلك لا تُلغي وثيقة الطلاق في شريعة موسى في نظر يسوع شريعة الزَّواج الأساسيَّة والتي لا تزال قائمة. وحاول يسوع أن يكتشف نيّة موسى حين سمح بالطَّلاق في حالات شاذَّة لاجتناب شر أعظم والى حين. ورأى يسوع في هذا الإعفاء توبيخًا على انحلال الآداب وفقدان الإحساس وإغلاق القلب وعماه عن رؤية مشيئة الله.  هي ثورة الإنسان على النِّظام الذي وضعه الله لأنَّ القلبَ المتصلب هو قلب أولئك الّذين يعتقدون أنهم يستطيعون ممارسة القوّة على حياة الآخرين دون الالتزام بحبّهم. لكن هذا ليس في تصميم الرَّبّ الأصلي. أمَّا عبارة "الوَصِيَّة" فتشير إلى الفِّريِّسيَّين الذين يتكلمون عن وصيَّة من موسى ويسوع يجيبهم إنها مجرد ترخيص أو إعفاء، لان الوصيَّة هي احدى الكلمات العشر (خروج 34: 28 وتثنية الاشتراع 4: 13).  يحسن بالمجتمع إن يهتدي بتعليم الرَّب الإيجابي في تحديد الأوضاع للطَّلاق الذي يُهدِّد الحياة الشَّخصيَّة وحياة الآسرة ولا يصون المجتمع. فالطَّلاق يُصَّعب الطَّريق ويُخالف الشَّريعة الإلهيَّة والطَّبيعيَّة. وإن كان موسى قد سمح بالطَّلاق فملاخي النَّبي أعلن عن غضب الله على من يغدر بامرأته (ملاخي 2: 8).  وهنا يصرح أن الله يكره الطَّلاق. فالمسيح يشرح لهؤلاء القساة روح الشَّريعة وليس حرفه. إذا، يتطلب التفكير المليّ ليس في متى يمكن تطليق الزَّوجة، بل كيف يمكن تغيير القلب، بحيث لا يبقى قاسيًا، غير قادر على الحب الحقيقي.

 

6 فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَرًا وأُنْثى.

 

تشير عبارة "فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة "إلى جواب يسوع مبيّنًا الدعوة التي أعطيت للإنسان منذ البدء. الدعوة التي أرادها الله عند الخلق (تكوين 1: 27) أي قبل شريعة موسى. ردّ يسوع اليهود إلى النَّاموس الطَّبيعي الذي أقامه الله في بدء الخليقة. ويقوم هذا الناموس الطبيعي على العيش على صورة الله ومثاله. ويقول غبطة البطريرك الكردينال بييرباتيستا: "ليست الشريعة معيار التمييز، بل دعوة كل فرد للسَّعي المستمر نحو حياة أفضل. لنعرف ما يجب علينا فعله، يجب أن ننظر إلى ما يمكننا فعله. ونبدأ دائمًا في معرفة الآخر ومحبته من جديد" (العظة 6/10/2024).  يدعونا يسوع إلى التَّوبة عن قساوة القلب لنستعيد بركة الخلق الأولى، بركة المصالحة بين الجنسين. أمَّا عبارة "جعَلَهما اللهُ ذَكَرًا وأُنْثى" فتشير إلى إعادة التعليم عن الزَّواج إلى كرامته الأولى حيث خلق الله الإنسان رجلا وامرأة. وهما يتحدَّان بحسب ما وضعه الله فيهما من تكامل، رغم اختلافهما. يُقرر هنا الرَّب شريعة الزَّوجة الواحدة، فالله خلق امرأة واحدة لآدم، ولأن الله خلق امرأة واحدة لآدم، فكيف يطلقها الرَّجل أو يختار غيرها؟ إرادة الله الأساسيَّة تُلغي هذا الترخيص أو السَّماح بالطَّلاق. في هذه الآية ينتقل يسوع من الكلام الذي يرخِّص بالطَّلاق إلى الكلام الذي يقوم عليه الزَّواج باعتباره المثل الإلهي الأعلى للرجل والمرأة والى الرَّباط الدائم الذي لا يُفسخ.  والآن جاء السَّيد المسيح لا ليُقدم وصايا جديدة، إنما بالأكثر طبيعة جديدة فيها تنتزع قسوة القلب، ويُرد الإنسان إلى الحياة الأولى النَّقيَّة ويعيد إلى الزَّواج كرامته الأولى وفقا لمشيئة الخالق ومخططه حيث تقوم شريعة الزَّوجين الجوهريَّة على أساس الشَّركة الزَّوجيَّة. وهذه الشَّركة هي تكامل طبيعي، وهبة الذِّات المتبادلة التامة، وهكذا يهب الزَّوجان الوجود للولد الذي هو صورة حيَّة لحبِّهما ورمزٌ دائمٌ لوحدتهما الزَّوجيَّة، وإتمامُ لمشيئة الله المنقوشة في طبيعة الرَّجل والمرأة منذ البدء.  تدعو كلمات يسوع "جعَلَهما اللهُ ذَكَرًا وأُنْثى" إلى نبذ "المثليَّة" أي لا يجوز للرّجُل إن يتَّحد جسديًا برجُلٍ آخر، ولا للمرأة أن تتّحد جسديًّا بامرأة أخرى. إذ أنَّ "المثليَّة" ظاهرةٌ صعبة التَّحليل في أصولها النّفسيَّة"، وهي "خلل كبير وجوديّ لا يحقّق التَّكامل بين الجنسين ويُغلق الباب أمام نقل الحياة" (التَّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيَّة"، رقم 2357).

 

7 ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه

 

تشير "لِذلِكَ" في الأصل اليوناني ἕνεκεν τούτου (معناها من أجل هذا) إلى قول ورد في سفر التكوين بشأن آدم "ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدً " (2: 24) وجاء في بشارة متى أنَّه كلام الله " لِذَلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه ويصيرُ الاثْنانِ جسَدًا واحدًا. (متى 19: 5) وهو هنا انه كلام يسوع. وليس هناك تناقض لأنَّ آدم تكلم بذلك بالهام من الله ولانَّ يسوع هو الله. أمَّا عبارة "يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه" فتشير إلى اقتباس من سفر التكوين "لذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا"(2: 24). وتدلُّ هذه العبارة على قطع كل علاقة بالماضي لكي يؤسِّس عائلة جديدة. فمن أجل أن يتمَّ سر الزَّواج يترك الرَّجل والديه ويستقل عن عائلته ويبنى أسرة جديدة.  ويُعلق القديس يوحنا الذِّهبي الفم": الله لم يربط الرَّجل بامرأة واحدة فحسب، وإنما أمره أيضًا أن يعتزل والديه ويَلزَمُ (باليونانيَّة προσκολληθήσεται أي يلتصق أو يتحد) بامرأته. ويظهر من هذا التعبير استحالة تحطيم الزَّواج (بالطَّلاق)، إذ يقول يلتصق". ومن هذا المنطلق، إن الرَّابطة الزَّوجيَّة أقوى من كل الرَّوابط العائليَّة ولا تفكُّ فيها. فكما الرَّجل لا يمكنه تغيير أباه وأمه مهما سبَّب له من المتاعب فكذلك لا يُمكنه تغيير امرأته الذي ترك أباه وأمه من أجلها وبسببها الزَّواج المثالي هو الزَّواج الذي يستمر بين الرَّجل والمرأة حتى الموت كما يؤكد بولس الرَّسول: "إِنَّ المَرأَةَ تَظَلُّ مُرتَبِطَةً بِزَوجِها ما دامَ حَيًّا، فإِن ماتَ زَوجُها أَصبَحَت حُرَّةً، لَها أَن تَتزَوَّجَ مَن شاءَت" (1 قورنتس 7: 39).  أمَّا عبارة "امرأَتَه " فتشير إلى ما ورد في سفر التكوين " وبَنى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتي أًخَذَها مِنَ الإِنسانِ اَمرَأَةً، فأتى بِها الإِنسان. فقالَ الإِنسان: ((هذهِ المَرَّةَ هي عَظْمٌ مِن عِظامي ولَحْمٌ مِن لَحْمي. هذه تُسَمَّى اَمرَأَةً لأَنَّها مِنِ آمرِئٍ أُخِذَت" (التكوين 2: 20-23). يجد الرجل في امرأته العون والسَّند، وتجد المرأة في رجلها الحَمايّة والاحتواء.

 

8 ويَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا. فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد

 

تشير عبارة "جسَدًا واحدًا" إلى كائنٍ واحدٍ أو كيانٍ واحد (رومة 1: 3)، مما يدلُّ على الغريزة الطَّبيعيَّة التي تدفع الجنس الواحد نحو الآخر ويكمِّله كما يؤكده الله: " لذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدً" (تكوين 2: 24).  ويستخدم بولس الرَّسول هذه الآية في رسالته إلى أهل أفسس للدلالة على الزَّواج المسيحي " يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرُ الاِثْنانِ جَسَدًا واحِدًا " (أفسس 5: 30). والزوجان اللذان حصلا على نعمة الرُّوح القدس في سر الزَّواج يضع الرُّوح القدس الحبَّ في قلبيهما، ويزيد هذا الحبُّ مع الزَّمن طوال العُمر. أما عبارة "جسَدًا" في الأصل اليوناني (σάρξ) فتشير إلى الشَّخص البشري، الذي يغمره الخالق بخيراته، رغم أنَّه سريع العطب، وعرضة للموت كما جاء في قول أشعيا النَّبي: "كُلُّ بَشَرٍ عُشْبٌ وكُلُّ جَمالِه كزَهْرِ البَرِّيَّة. العُشبُ يَيبَسُ وزَهرُه يَذْوي (أشعيا 40: 6). كلُّ بشرٍ أي كلُّ جسدٍ وكلُّ إنسانٍ، كزهر الحقل مُكلل بالعظمة ومحدود في قدرته وعدد سنيه. أمَّا عبارة " فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد" فتشير إلى الوصيَّة الإلهيَّة (التكوين 2: 24) التي تحمل صورة الزَّواج الرُّوحي القائم بين السَّيد المسيح والكنيسة عروسه الواحدة الوحيدة! هذه هي الحياة الأولى النَّقيَّة، في هذا يقول الرَّسول بولس: ولِذلِك يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرُ الاِثْنانِ جَسَدًا واحِدًا إِنَّ هذا السِّرَّ لَعَظيم، وإِنِّي أَقولُ هذا في أَمرِ المسيحِ والكَنيسة" (أفسس 5: 31-32). يُعيد يسوع صياغة أسُس الزَّواج وفقًا لمُخطّط الرَّب. إذ أن الحبَّ يعني الاتّحاد بالآخر، حيث يُصبح الزَّوجان جسدًا واحدًا. عندما يُصبحان، حقًّا وبكامل الحرّيَّة، جسدًا واحدًا، كيف يمكننا أن نفصل بينهما؟ يقول المجمع الفاتيكاني الثَّاني "إن الرَّجل والمرأة أصبحا بسرّ الزَّواج جسدًا واحدًا لا اثنين (متى 19: 6) ليتعاضدا هكذا ويساعد أحدهما الآخر باتِّحاد شخصيتهما وأعمالهما اتحادًا وثيقًا. إنَّهما يُدركان من خلال ذلك وحدتَهما ويعملان دائمًا على ترسيخها وتعميقها. إن هذا الاتحاد الوثيق، وهو عطاء متبادل بين شخصين، وخير الأولاد، يتطلبان أمانة الزَّوجين المُطلقة ويُقضيان بوحدة لا تنحل" (دستور رعائي في الكنيسة في عَالَم اليوم، العدد 48). إن المرأة شريكة متساويّة للرجل، ومسيرة الحبّ الجديدة والمُلزمة الّتي يقترحها يسوع، لا يُمكن أن تتحقّق بدون الإسهام الكامل لحريَّة كل من الرَّجل والمرأة ليُصبحا جسدًا واحِدًا.

 

9 فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان

 

تشير عبارة "فما جَمَعَه الله" إلى الرباط الإلهي الذي أراده الله. الزَّواج عهد قطعه الزَّوجان أمام الله لا يستطيعان فسخه باتفاقهما، لأنَّ الله هو الذي جمع الزَّوجين من أجل أن يصبحا جسدًا واحدًا.  وإن كان الله هو الذي جمعهما فكيف يفرِّق الإنسان بالطَّلاق ما جمعه الله؟ ويُعلق البابا يوحنّا بولس الثَّاني: "إنّ هذه الآيَّة تختزن عظمة الزَّواج الأساسيَّة وفي الوقت عينه القوة المعنويَّة للعائلة" (عظة بتاريخ 12 تشرين الأوّل 1980). الله هو الذي وحَّد بينهما، فمن يحقَّ له أن يفصلهما؟ فكي نفهم ما هو الحبّ الزَّوجيّ، لا تكفي الإشارة إلى ما هو المسموح أو الممنوع من الشَّريعة؛ بل يجب أن نعود إلى ما هو مكتوب منذ البداية في قلوبنا؛ يجب العودة إلى دعوتنا الأصليّة. إن الحبَّ اقوى من الموت، وعهد الحب يدوم، لأنَّه يرتبط بالله الذي كان شاهدًا بين الرَّجل والمرأة.  أمَّا عبارة "فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان" فتشير إلى تأسيس قداسة الزَّواج على سلطة الله نفسه وعدم الطَّلاق بين الزَّوجين، كما جاء في سفر التكوين "ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (التكوين 2: 24). يعود يسوع لفعل الخلق الإلهي، إذ يؤكد على اتحاد الرجل بامرأته بشكل لا يتم تفرقته. إنّ الطلاق لم يكن له أساس من قِبل الرّب بل يقف الطَّلاق حاجزًا بوجه الأنانيَّة البشريَّة التي هي المدمّرة الأولى للزَّواج الذي أراده الله.  وقد ردّ يسوع الزَّواج إلى قدسيته وعدم انحلاله، وردَّ إلى المرأة حقَّها ومكانتها، وردَّ إلى المجتمع البشري صفاءه القديم وجعل من الزَّواج وحدة لا تنفصم، وسرًا مباركًا يمنح النِّعمة. فأصبح الزَّواج صورة للاتحاد القائم بين الله وشعبه، وبين المسيح وكنيسته، ويُعلق القديس أمبروسيوس:"لمن يرغب في تطليق زوجته: إنك لا تهدم وصيَّة سماويَّة، إنَّما تهدم عمل الله".  الزَّواج المسيحي هو ثمرة عمل الله (متى 19: 6). وبهذا على الزَّوج والزَّوجة أن يتحملا بعضهما بثبات للحفاظ على العلاقة التي جمعها الله بينهما.  فالسَّيد المسيح حين منع الطَّلاق مبيّنًا رفض الإنسان لمخطط الله الأصلي، أعطى لكل زوجين نعمة تصون البيت من الانهيار. ويصبح يسوع معلمًا في تفسير الكتب المقدسة لأنّه يعود إلى البدء، أي إلى إرادة الله الأصلية: "يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا."(التكوين 2: 24)، فالزَّواج وثاق أبدي، لا رجوع فيه ولا طلاق فيه. فهل يصون الزَّوجان هذه النَّعمة ويستمرا في جهادهما؟

 

10 وسأَلَه التَّلاميذُ في البَيتِ أَيضًا عن ذلك.

 

تشير عبارة "البَيتِ" إلى البيئة العائلية وجو الصدقة. أما عبارة "وسأَلَه التَّلاميذُ" إلى لقاء يسوع بتلاميذه الّذين حضروا الحوار السابق بينه وبين الفريسيّين لكي يجيب على أسئلتهم.

 

11 فقالَ لَهم: مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها

 

تشير عبارة "مَن طَلَّقَ امرَأَتَه" إلى ما يجري في العَالَم اليهودي حيث أن الرَّجل هو الذي يُعلن الطَّلاق، لا القضاء. أمَّا عبارة "زَنى علَيها" فتشير إلى إعلان الطَّلاق من قبل الرَّجل، ولكن هذا الطَّلاق لا يُحرِّره من شريعة الزَّواج الإلهيَّة ومن موجباتها الأخلاقيَّة. وفي الواقع، يعلن يسوع أن الطَّلاق غير مسموح.  ولكن هناك استثناء في إنجيل متى " مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى" (متى 5: 32) وربما أيضًا في رسالة بولس الرَّسول "وإِن شاءَ غَيرُ المُؤمِنِ أَن يُفارِق فلْيُفارِق، فلَيسَ الأَخُ أَوِ الأُختُ في مِثْلِ هذه الحالِ بِمُرتَبِطَيْن، لأَنَّ اللّهَ دعاكُم أَن تَعيشوا بِسَلام" (1قورنتس 7: 15). أمَّا عبارة "زَنى علَيها" فتشير إلى إقامة الرَّجل علاقة مع امرأة أخرى غير زوجته، وزوجته الأولى (التي طلقها) مازالت زوجته، شريكة الحياة بحسب حكم الله، لذلك قال يسوع زنى عليها، لأنَّها ما زالت زوجته. إذا سمح موسى بالطَّلاق، يسوع لم يسمح قط. يعلن يسوع صراحة علاقة الطلاق بالزنى، إذ الطلاق يُمهد الطّريق للزنى، أي عدم الأمانة من قبل أي طرف سواء الرجل أم المرأة. لكن تفسير يسوع يتمثل في اهتمامه بمحتوى ووحدة كلّ الكتاب المقدس كميثاق واحد وليس كمجموعة من القواعد. وهكذا قطع علاقته بتفسير الشريعة التي تتساهل مع متطلبات الملكوت (متى 5: 31).

 

12 وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت

 

 تشير عبارة "وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها" إلى ما كان يجري في بعض الأوساط غير اليهوديَّة التي سمحت للمرأة أن تطلب الطَّلاق. إذ لم يبح القانون اليهودي للمرأة أن تطلق زوجها (تثنية الاشتراع 24: 1-4) ولم يذكر متى هذه العبارة وليس في شريعة موسى ما يؤذن في ذلك (تثنية الاشتراع 24: 1-4). وليس هي من الأمور التي اعتاد اليهود سوى أن هيروديا التي طلَّقت زوجها فيلبس وتزوَّجت هيرودس انتيباس، فوبَّخها يوحنا المعمدان (متى 14: 3-10)، إنما أذنت في ذلك الشَّريعة اليونانيَّة والشَّريعة الرُّومانيَّة.  وإِذا كانَ لامرَأَةٍ زوجٌ غَيرُ مُؤمِنٍ ارتَضى أن ُيساكِنَها، فلا تَتَخَلَّ عن زَوجِها " (1 قورنتس 7: 13).  هذا النَّهي عن الطَّلاق التقليدي هو من أبرز حالات تخلِّي يسوع عن شريعة موسى. ويحض يسوع الزَّوجين على المعاملة بالمثل. لان الرَّجل والمرأة يتمتَّعان بنفس الحقوق والواجبات. فلا يليق بنا أن نحطِّم الزَّواج من خلال إنكار الإيمان علانيَّة بسبب ضيق أو اضطهاد ولا من خلال سلوكنا برفض الوصيَّة، وإلاَّ نكون قد مارسنا طلاقًا ممقوتًا.

 

13 وأَتَوهُ بِأَطفالٍ لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم، فَانتَهَرهُمُ التَّلاميذ

 

تشير عبارة "لِيَضَعَ يَدَيهِ علَيهم" في الأصل اليوناني ἅψηται (معناها يلمس) إلى علامة للبركة كما فعل يعقوب عندما بارك ابني يوسف: أَفْرائيمُ ومَنَسَّى (تكوين 48: 4).  أحضر الأهل إلى يسوع الأطفال ليسلِّموا عليه تحيَّة المساء وينالوا بركته (لوقا 10: 15) قبل أن يأووا إلى فراشهم. واعتاد الرَّبَّانيون مثل ذاك في مباركتهم أولاد اليهود. إن الرَّب حامي الطُّفولة والأمومة. وهنا نستدل على أهميَّة تقديم الأطفال إلى المسيح وإلى الكنيسة لنيل البركة. عبارة "انتَهَرهُمُ التَّلاميذ" فتشير إلى التلاميذ الذين لم يفهموا قيمة الطِّفل وطبيعة الملكوت فزجرَوا الأطفال أو والديهم بعُنف وأغضبوهم. سمح التلاميذ لأنفسهم بالسَّعي وراء سلطان استبدادي، من خلال إبعاد الأطفال وزجرهم. لكن ملكوت الله ليس ملكوتًا سياسيًا بل روحيًا، وهذا الملكوت لا يميّز بين الطِّفل والبالغ، حيث إن الجميع مدعوُّون إلى دخوله. ويُعلق القديس أمبروسيوس: " لم يفعل التلاميذ ذلك بقسوة قلب أو سوء نيَّة تجاه الأطفال بل كانت لهم غيرة كخدام ساهرين خشية أن تزحمه الجموع، ففي موضع آخر قالوا: يا مُعَلِّم، الجُموعُ تَزحَمُكَ وتُضايِقُك" (لوقا 8: 45).

 

14 ورأَى يسوعُ ذلك فاستاءَ وقالَ لَهم: دَعُوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم، فَلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله

 

تشير عبارة "استاءَ" في الأصل اليوناني ἀγανακτέω (معناها اغتاظ) إلى ظهور علامة الغيظ والغضب على وجه يسوع. وكان سبب الاستياء أنَّ التلاميذ صرفوا الأطفال عنه. وهذه هي المناسبة الوحيدة التي تنسب هذه الكلمة "استاءَ" إلى يسوع. في ذلك الحين يُمثل الأطفال طبقة محتقرة بلا حقوق.  لقد أخطأ التلاميذ في فهم قيمة الطِّفل حتى يكون له نصيب في الملكوت. بل بالعكس هو الصَّحيح، إذ يجب على البالغ أن يتغير ويصير صغيرا (متى 18: 3). أمَّا عبارة "دَعُوا الأَطفالَ يأتونَ إِليَّ، لا تَمنَعوهم " فتشير إلى أولئك الذين استعدّوا لاستقباله كهدية من الله مثل الأطفال. ليس ضروريًا أن يصبح الطِّفل بالغًا حتى يكون له نصيب في الملكوت، بل بالعكس هو الصَّحيح، إذ يجب على البالغ إن يتغير ويصير طفلا.  يطلب يسوع أن نثق في الله ببساطة الطِّفل وثقته وبراءته. أمَّا عبارة " الأَطفالَ " فتشير إلى ثمرة سرّ الزَّواج الّذي يقبل الدُّخول في مخطط الله وإتمامه بالكامل بالرَّغم من التَّحديات لكل زوجين. فالأطفال هم النعمة الّتي يبارك بها الله الزَّوجين المشاركين معه في سرّ حبه.  أمَّا عبارة "لِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله" فتشير إلى ملكوت الله الذي يخصُّ أولئك الّذين استعدّوا لاستقباله كهدية من الله مثل الأطفال.  ليس الطِّفل هنا براءة، بل الطَّاعة والاستعداد للتقبُّل.  يطالب يسوع تلاميذه أن يبلغوا إلى الطُّفولة الرُّوحيَّة ليكون لهم نصيب في الملكوت معه.  ويُعلق ثيوفلاكتيوس، البطريرك بلغاريا: "لم يقل "لهؤلاء"، بل قال: " فَلِأَمثالِ هؤلاءِ مَلَكوتُ الله "، أي للَّذين لهم في نيَّتهم كما في تصرفاتهم ما للأطفال بالطَّبيعة من بساطة وعدم الأذية. فالطِّفل لا يُبغض، ولا يحمل نيَّة شريرة".  ويقول بولس الرَّسول: "لا تَكونوا أَيُّها الإِخوَةُ أَطفالا في الرَّأي، بل تَشَبَّهوا بِالأَطفالِ في الشَّرّ، وكونوا راشِدينَ في الرَّأي" (1 قورنتس 14: 20). ومن لا يقبل حقائق الإيمان بالملكوت ببساطة الطِّفل، وثقته، يصعب عليه أن يُدرك أعماقه، وبالتالي أن يدخله. لذلك يجب على البالغين أن يكونوا كالأطفال لكي يدخلوا ملكوت السَّماوات. أن الصِّفة الأساسيَّة للطفل والتي تعبّر عن كرامته هي صفة "الابن". فمن يفقد جوهر الطُّفولة إنَّما يفقد ذاته، ويفقد عناية الله الآب به. يعلق الرَّاهب إسحَق السِّريانيّ: "اقترب من الله لنيل العناية التي يسهر بها الآباء على أولادهم الصِّغار. لقد قيل: الرَّبّ يسهر على الأولاد الصِّغار" (الخُطَب النُّسكيَّة، المجموعة الأولى، الفقرة 19).  فالّذين يمنعون الآن الأطفال عن الاقتراب من يسوع يُغيظونه، والّذين يأتون بهم إليه ينالون رضاه.

 

15 الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه

 

تشير عبارة "يَقبَلْ" إلى قبول الملكوت الذي ليس شيئًا يحصل عليه الإنسان أو يستحقه، بل يجب قبوله كهبة مجانيَّة. وفي هذا المجال يتفوَّق الطِّفل على البالغين، لأنه مستعدٌ للقبول بسرعة. أمَّا عبارة "مِثْلَ الطِّفل" فتشير إلى المرء المُنفتح والمُستعد لتقبّل العطاء. فالملكوت يُمنح كهدية ليس كنتيجة جهد بشري بل استعداد بثقة للملكوت ومعرفة الإنسان أنه ضعيف.  إن الأطفال والّذين يتمثَّلون بهم هم في حالة ثقة تامَّة.  فمن يقبل بشرى الملكوت بهذه الاستعدادات الباطنيَّة ودون جدال يدخل الملكوت. فيجب أن نتقبل ملكوت الله كما الطِّفل يقبله، لأنَّ ملكوت الله عطيَّة يجب أن نعرف كيف نتقبَّلها كهديَّة من الله.  لا يحسب الطِّفل أنَّه استولى بالقوة على ما حصل، لأنَّه ضعيف ومرتبط بغيره. وهكذا نحن لن نستولي على ملكوت الله بقوانا.  أمَّا في إنجيل متى فيجب أن نصير أطفالاً لندخل ملكوت الله، أي لا بَّد لنا من التواضع لندخل ملكوت الله. "الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات.  فمَن وضَعَ نفسَه وصارَ مِثلَ هذا الطِّفل، فذاك هو الأَكبرُ في مَلَكوتِ السَّموات "(متى 18: 3-4).

 

16 ثُمَّ ضَمَّهم إلى صدرِه ووَضَعَ يَديهِ علَيهِم فبارَكَهم

 

عبارة " ضَمَّهم إلى صدرِه " في الأصل اليوناني ἐναγκαλισάμενος (احتضن) تشير إلى علامة رقَّة قلب يسوع وحبِّه للأطفال (لوقا 18: 15). زاد إنجيل مرقس هذه العبارة على ما قاله إنجيل متى (18: 3-4). يقوم يسوع هنا بحركة ذات مغزى، وهي احتضان الأطفال وضمّهم إلى صدره، ومباركتهم. وعوضًا عن جنون العظمة والسُّلطة، يقوم يسوع بلفتة حنان. أمَّا عبارة " بارَكَهم" في الأصل اليوناني κατευλόγει (معناها راح يبارك) فتشير إلى بركة يسوع للأطفال باستمرار. ولا يَرد هذا الفعل إلاَّ هنا. ويُعلق القديس كيرلس الكبير: "حتى وقتنا الحاضر يُقدم الأطفال للمسيح لمباركتهم من خلال الأيدي المكرسة. مثال هذا العمل قائم حتى اليوم وقد جاء إلينا خلال عادة المسيح مؤسس هذه العادة".  ومن يقبل للرب في بساطة الأطفال يحتضنه الرَّب كما احتضن هؤلاء الأطفال.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 10: 2-16)

 

بعد دراسة وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 10: 2-16) يمكننا الاستنتاج أنَّه يتمحور حول موضوع قانون الزَّواج والطَّلاق وموقف يسوع منهما. ومن هنا نتساءل: بما يقوم موضوع الطَّلاق في الدِّين اليهودي؟ وما موقف يسوع منه؟

 

 

1) ما هو تعليم يسوع من الطَّلاق؟

 

كان موضوع الطَّلاق في أيام المسيح موضوع جدال وحوار حول نص التَّشريع الموسوي "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ويَصرِفْها مِن بَيته"(تثنية الاشتراع 24: 1-4). نظَّمت الشَّريعة ممارسة الطَّلاق، لكنَّها لم تُحدِّد أي "عيب" يسمح للرَّجل بطلاق امرأته. فالنَّص يُجيز للزَّوج أن يُعطي زوجته كتاب طلاق إذا ما وجد فيها أمرٌ لا يليق. ولكن السُّؤال: ما هو هذا الأمر الذي لا يليق؟ فسأل الفِرِّيسيِّونَ المسيح عن الطَّلاق، لأنَّهم منقسمون فيه بين تيَّارين أو مدرستين من مدارس الرَّبانيَّين: هليل وشمّاي. فمدرسة هليل سمحت بالطَّلاق لأجل كل علة. وأمَّا مدرسة شمّاي فلا تسمح بالطَّلاق إلا في حالة خيانة زوجيَّة. لم يأتِ يسوع لكي يرضي النَّاس حسب أهوائهم، وإنَّما لكي يرفعهم إلى مستوى لائق كأبناء لله، ولذلك جاء موقفه حول مفهوم الحياة الزَّوجيَّة كحياة فائقة لا يفصلها إلاَّ الموت:

 

أولا: تعليم يسوع عن الطلاق للفِريسيِّين

 

أ) تجاه تشريع موسى: صرَّح يسوع أن تشريع موسى كان مجرد موافقة نتيجة الضُّعف البشري ولحماية الشَّريك المظلوم؛ فقد سمح بالطَّلاق في حالة المجتمع العائبة كما جاء في كلام يسوع: "إِنَّ مُوسى رَخَّصَ أَن يُكتَبَ لَها كِتابُ طَلاقٍ وتُسَرَّح مِن أَجْلِ قَساوَةِ قُلوبِكم كَتَبَ لَكُم هذهِ الوَصِيَّة" (مرقس 10: 5). فان وثيقة الإعفاء أو الترخيص الذي منحه موسى لا تلغي في نظر يسوع شريعة الزَّواج الأساسيَّة والتي لا تزال قائمة. إن الزَّواج ليس عقد كبيع الأرض وشرائها. لذلك أدان المسيح هذا التصرف موضِّحا قصد الله، وهو أن يحقق الزَّواج الوحدة" الدَّائمة حيث " يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (تكوين 2: 24).

 

ب) تجاه تشريع الله: أوضَح يسوع أنَّ الزَّواج، قبل تشريع موسى، قد أُسس باعتباره المثال الإلهي الأعلى للرَّجل والمرأة، وأنَّ رباطه دائمٌ لا يفسخ كما أراده الله فقال: "فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَرًا وأُنْثى. ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه. ويَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا. فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد. فما جَمَعَه الله فَلا يُفَرِّقَنَّه الإِنسان" (مرقس 10: 6-9). وعليه تقوم شريعة الزَّوجين الجوهريَّة على أساس أن الشَّركة الزَّوجيَّة هي تكامل طبيعي وهبة الذِّات المتبادلة التَّامة التي هي صورة حيَّة لحبّهما ورمز لوحدتهما الزَّوجيَّة وإتمام مشيئة الله المنقوشة في طبيعة الرَّجل والمرأة منذ البدء" كما جاء في الكتاب المقدس: " فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة جعَلَهما اللهُ ذَكَرًا وأُنْثى ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدً" (التكوين 2:24).

 

تدل عبارة "يَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا " إلى عدم الانفساخ دلالة على الحُبِّ العميق. ومن الطَّبيعي أن نُرفق لفظة "دائما" بلفظة "حب". لأنه في الزَّواج المسيحي يرتبط الزَّوج الواحد بالآخر بعقد بينهما لا يستطيعان فسخه باتفاقهما، إذ لا يوجد هناك فقط مشيئتان ملزمتان فقط، بل هناك أيضًا مشيئة ثالثة وهي مشيئة الله وعهد قطعه الزَّوجان أمام الله. ويعلن يسوع أن لا أحد يستطيع أن يفسخ اتحاد الزَّوجين الأساسي. إذ يتدخل الله ليرسّخ هذه الحبِّ.

 

ثانيًا: تعليم يسوع عن الطلاق لتلاميذه:  

 

أوضح يسوع لتلاميذه على انفراد أن الرَّجل والمرأة في موضوع الزَّواج متساويان. إذ قال "مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها وإِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت" (مرقس 10: 11-12). إن المرأة تبدو كشخص خاصٍ بالرَّجل (خروجٍ 20: 17) فتكون هي وهو واحدًا في أمانة متبادلة (تكوين 2: 23 24). ويكشف يسوع هنا عن كل أبعاد الأمانة الزَّوجيَّة (متى 5: 27-28) بحيث تُلزم الرَّجل إلزامها للمرأة (مرقس 10: 11)، وتربط الزَّوجين برباط غير قابل للانفصام (متى 19: 6). يسوع المفسّر الموثوق للكتب المقدسة، القادر على معرفة كلمة الله لأنه يبحث عن قلب الله، كما قال غريغوريوس الكبير، "تفاسيره هي ثمينة ولها شكل خاص. ونحن، تلاميذ يسوع، نتبعه اليّوم في إدراك طريقته التفسيريّة الّتي يجب أنّ تكون طريقتنا حينما نعرف قلب الله وندخل نحن في مخططه وليس هو الّذي يتوجب عليه كإله بالدخول في مخططنا البشري.  وأكَّد بولس الرَّسول أن تعاليم يسوع تنص على وحدة الزَّواج وعدم الطَّلاق بقوله: "وأَمَّا المُتزَوِّجونَ فأُوصيهم، ولَستُ أَنا المُوصي، بلِ الرَّبّ، بِأَن لا تُفارِقَ المَرأَةُ زَوجَها، وإِن فارَقَتْه فلْتَبقَ غَيرَ مُتَزَوِّجة أَو فلْتُصالِحْ زَوجَها وبِأَلاَّ يَتَخَلَّى الزَّوجُ عنِ امرَأَتِه" (1 قورنتس 7: 10-16).

 

يُقدِّم الأنبياء العهد الذي يجمع بين الإنسان والله برباط حب أمين، تحت رمز زواج غير قابل للفسخ (هوشع 2 4). فلا يجوز للرجل أن يطلق امرأته كما كانت العادة المتَّبعة في العَالَم اليهودي. "مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى علَيها" (مرقس 10: 11)؛ كذلك لا يجوز للمرأة أن تطلق زوجها كما كانت العادة في بعض الأوساط غير اليهوديَّة "إِنْ طَلَّقَتِ المَرأَةُ زَوجَها وتَزَوَّجَت غَيرَهُ فقَد زَنَت" (مرقس 10: 12) كما فعلت هيروديا ابنة ارستوبولس، حفيدة هيرودس الكبير. إذ تزوجت هيرودس فيلبس (متى 14: 3) لكنها طلقته وتزوَّجت أخاه هيرودس انتيباس (متى 14: 3-10).

 

ثالثا: تعليم الكنيسة عن الطلاق: بناء على ما تقدَّم جاء ت القوانين في الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكيَّة مؤكدة على دوام الشَّركة الزَّوجيَّة وعدم الطَّلاق. "إن العهد الزَّواجي، الذي يقيم به الرَّجل والمرأة بينهما شركة للحياة كلها، والذي يهدف بطبيعته إلى خير الزَّوجين وإنجاب البنين وتربيتهم، قد رفعه السَّيد المسيح إلى مقام سر مقدس بين المعمدين" (مجموعة الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكيَّة، 1055)، "وللزواج ميِّزتان جوهريتان هما الوحدة وعدم الانحلال" (1056). ويقوم الزَّواج على رضى الطَّرفين، "والرِّضى الزَّواجي فعل إرادة، به يتبادل الرَّجل والمرأة، بعهد لا رجعة فيه، هبة الذِّات، عطاء وقبولا، ليُقيما الزَّواج بينهما (1057، 2).

 

نستنتج مما سبق أن تعليم يسوع بالمباينة مع موسى يُحرِّم الطَّلاق بتاتًا وقد قيل: "مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق. أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى" (متى 5: 31). أن تشريع موسى هو تكييف مع طبيعة الإنسان الفاسدة. وبما أنَّ يسوع جاء ليعالج هذه الطَّبيعة الشَّريرة فإنَّه يرفض هذا التكييف ويستعيد للزواج مستواه الأصلي، كما أراده الله في البدء. فلا يجوز الطَّلاق أبدًا. وقد اكّد ملاخي النَّبي أن الله يبغض الطَّلاق (ملاخي 2: 14-16).

 

 

2) ما هو تفسير "مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء "(متى 5: 32)

 

تعني الجملة الاستثنائيَّة " إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء " الزِّنى على جميع أنواعه (الزِّنا، واللِّواط، السِّحاق، الجماع مع الحيوانات ... أو الجماع الجنسي مع الأقارب (أحبار 18:1) أو الجماع الجنْسي مع رَجل مطلَّق أو امرأة مطلَّقة (متى 10/11). أمَّا تفسير الكلمة اليونانيَّة "الفَحْشاء (πορνεία) فهناك أربعة معانٍ رئيسيَّة:

 

1) "أمر غير لائق": يعني امر غير لائق، أي عيب كما ورد في سفر تثنية الاشتراع " إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته " (تثنية الاشتراع 24: 1)؛ في هذه الحالة يحلل نص التثنية صرف امرأة لأسباب شتّى.

 

2) الزِّنى أي خيانة المرأة لزوجها. الزِّنى هو الفعل الذي ينتهك حرمة تبعيَّة امرأة لرجلها أو خطيبها " وأَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزِّاني والزَّانِيَة"(أحبار 20: 10). في هذه الحالة يجيز النَّص نفسه تسريح المرأة الزَّانيَّة. وترى الكنيسة الأرثوذكسيَّة في هذه الآية تسهيلا قدَّمه يسوع للسَّماح بزواج لمن وقع ضحيَّة الزِّنى. فالزِّنى يجعل الزَّانيَّة جسد واحد مع الرَّجل الآخر، وبهذا الأمر هي قطعت علاقة الجسد الواحد مع زوجها.  فالطَّلاق يقيِّد تمامًا إلاّ لعلة الزِّنى. ولا تقبل الكنيسة الكاثوليكيَّة في قوانينها مثل هذا التأويل إنما تطلب التعامل بالرَّحمة مع الطَّرف الضَّعيف كما فعل يسوع مع المرأة الزَّانيَّة (يوحنا 8: 1-11).

 

3) الزَّواج المُحرَّم: هو الزواج من الأهل والأقارب كما ورد في الكتاب المقدس " لا يَقتَرِبْ أَيُّ رَجُلٍ مِن ذاتِ قَرابَتِه لِكَشْفِ عَورَتِها: أَنا الرَّبّ.  عَورَةَ أَبيكَ وعَورَةَ أُمِّكَ لا تَكشِفْ. إِنَّها أُمُّكَ، فلا تَكْشِفْ عَورَتَها. وعَورَةَ زَوجَةِ أَبيكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها عَورَةُ أَبيك. وعَورَةَ أُختِكَ، اِبنَةَ أَبيكَ كانَت أَوِ آبنَةَ أُمِّكَ، مَولودةً في البَيتِ كانت أَو في خارِجِه، لا تَكشِفْ. وعَورَةَ بنْتِ آبنِكَ أَو بِنْتِ آبنَتِكَ لا تَكْشِفْ، فإِنًّها عَورَتُك. وعَورةَ بِنْتِ زَوجَةِ أَبيكَ المَولودةِ مِن أَبيكَ لا تَكشِفْ، إِنَّها أُختُكَ، فلا تَكشِفْ عَورَتَها. وعَورَةَ أُختِ أَبيكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها ذاتُ قَرابةٍ لأَبيكَ. وعَورَةَ أُختِ أُمِّكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها ذاتُ قَرابةٍ لأُمِّكَ. وعَورَةَ عَمِّكَ لا تَكشِفْ وإلى آمرَأَتِه لا تَقتَرِبْ، فإِنَّها عَمَّتُكَ. وعَورَةَ كَنَّتِكَ لا تَكشِفْ، إِنَّها زوجَةُ آبنِكَ فلا تَكشِفْ عَورَتها. وعَورَةَ زوجَةِ أَخيكَ لا تَكشِفْ، فإِنَّها عَورَةُ أَخيكَ. وعَورَةَ امرَأَةِ أَبيكَ وآبنَتِها لا تَكشِفْ، ولا تَتَّخِذِ اَبنَةَ آبنِها ولا آبنَةَ آبنَتِها لِتَكشِفَ عَورَتَها، فَهُنَّ ذَواتُ قِرابَتِكَ: إِنَّها فاحِشة.  وآمرأةً مع أُختِها لا تَتَّخِذْ لِتَكونَ ضَرَّتَها فتَكشِفَ عَورَتَها مَعَها وهي حَيَّة" (أحبار 18: 6-18) ورد هذا المعنى على الأرجح في أعمال الرُّسل " فقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا أَلاَّ يُلْقى علَيكم مِنَ الأَعباءِ سِوى ما لا بُدَّ مِنُه، وهُوَ اجتِنابُ ذَبائحِ الأَصنامِ والدَّمِ والمَيتَةِ والفَحْشاء. فإِذا احتَرَستُم مِنها تُحسِنونَ عَمَلًا " (15: 28-29). في هذه الحالة يحرّم يسوع كل تسريح امرأة إلاّ في حالات الزَّواج المُحرَّم المنصوص عنها أعلاه (أحبار 18: 6-18).

 

4) حالة زواج غير شرعي: يقصد به الأشخاص الّذين يتساكنون معًا دون زواج شرعي. فمثلُ هذا الزَّواج يكون باطلًا من أساسه، وهو يضع الزَّوجين في "حالة زنى" أدركوا ذلك أم لم يدركوه أي عن حُسْن نيّة أو سوء نيّة.  وعندئذ ينبغي إبطال الزَّواج، أو تصحيح الزَّواج إن كان الزَّوجين مُدركين الأمر وعندهما رغبة في ذلك. وتعليم بولس الرَّسول واضحًا في هذا الصَّدد " وأَمَّا المُتزَوِّجونَ فأُوصيهم، ولَستُ أَنا المُوصي، بلِ الرَّبّ، بِأَن لا تُفارِقَ المَرأَةُ زَوجَها، وإِن فارَقَتْه فلْتَبقَ غَيرَ مُتَزَوِّجة أَو فلْتُصالِحْ زَوجَها وبِأَلاَّ يَتَخَلَّى الزَّوجُ عنِ امرَأَتِه" (1 قورنتس 7: 10-11).

 

نستنتج مما سبق أن أيَّة كانت قيمة هذه الافتراضات، تقوم أهميَّة نص إنجيل مرقس (10: 2-16) على التذكير بعدم انفساخيه الاتحاد الزَّوجي، علمًا أنَّ التقليد الأرثوذكسي يجد فيه أساسًا للتحقق في حالة الزِّنى من وجود طلاق.

 

 

3) ما هو موقف الكنيسة الكاثوليكيَّة من الطَّلاق؟

 

لا طلاق في التقليد الكاثوليكي، لان الزَّواج لا ينفصل عندما يكون سرًا. والكنيسة لا يمكن تغيير هذا الوضع. إنها عقيدة. إنَّه سرٌّ لا ينفصم عُراه. الزَّواج المسيحي قائم على الثُّبوتيَّة وعدم الانحلال حفاظًا على الأمانة الزَّوجيَّة والمُساواة بين الزَّوج والزَّوجة وتأمين تربيَّة الأولاد البدنيَّة والأدبيَّة وخير الآسرة والمجتمع والمحافظة على سرِّ اتحاد المسيح بكنيسته. بينما الطَّلاق يتنافى والعلاقة الزَّوجيَّة من حيث المساواة بين الزَّوجين في الكرامة، لأنَّه رفض للوحدة الكيانيَّة بين الرَّجل والمرأة، ورفض لشبهما مع الله المحبة، الواحد في ثلاثة والثَّلاثة في واحد، كما انه رفض أيضا للغنى الإنساني الذي يكمن في هذه الوحدة الكيانيَّة.

 

يناقض الطَّلاق الثِّقة الكاملة بين الزَّوجين؛ لأنَّ تلك الثِّقة يُهدِّدها الشَّك، الذي يوجده مجرد التفكير بإمكانيَّة الطَّلاق؛ وفي هذا المعنى قال حافظ الجمالي: " ليس من قلق أكبر من قلق أهل المرأة بل ليس بؤس أكبر من بؤس المرأة في نظام يسمح بالطَّلاق". وان مجرد توقع الطَّلاق يدفع كلاً من الزَّوجين أن يسعى لا لخير شريكه والأولاد، بل لمصلحته الخاصة. إنَّه يُعدم الإخلاص بين الزَّوجين والتضحيَّة في المرأة. وفي الواقع لا تهب المرأة نفسها حقًا ألاَّ إذا اطمأنت إلى استقرار حياتها وثبوتها، وعرفت أنَّها لن تفارق زوجها إلاَّ في الموت. وفي هذا الصَّدد جاء تعليم المجمع الفاتيكاني: " إن الحب الزَّوجي الذي يقبل به الزَّوجان بتعهدهما المتبادل، يبقى أمينا وغير قابل الانفصال فكرًا وجسدًا في السَّراء والضَّراء، إنَّه ينبذ كلَّ طلاق" (الكنيسة في العَالَم اليوم، 49).

 

يضر الطَّلاق أيضًا بمهمة الوالدين الخاصة بتربية البنين. لا بدَّ في تربية الأطفال الجسميَّة والأدبيَّة من حياة زوجيَّة مستقرة يجدون فيه المحبة والعاطفة ومعنى السُّلطة. وفي هذا الصَّدد قال المجمع الفاتيكاني" إن خير الأولاد يتطلب الأمانة المطلقة بين الزَّوجين، ويفضي بوحدة لا تنحل" (الكنيسة في العَالَم اليوم، 48). ونحن هنا في غنى عن القول إن أبحاث علم النَّفس الحديث قد دلَّت على أن الطَّلاق يترك أثرًا سيئًا طوال الحياة في نفوس الأطفال.

 

يضر الطَّلاق أخيرًا في نظام المجتمع وتقدُّمه، لأنَّه يُبدد شمل الأسر، ويُثير الشَّكوك والبغضاء والخصومات بين الأزواج وأقاربهم، ويُكثر الأيتام ويُشجع على التحرُّر من كل قيد أخلاقي ودفع إلى الأجرام. وقد دلَّت الأبحاث على أن الانتحار يكثر بين المطلَّقين أكثر منه بين المتزوجين، كما دلت الأبحاث على أن كثيرًا من المطلَّقين ينتهون إلى الأمراض النَّفسيَّة والجنون، وان عددًا غير قليل من المُطلَّقات ينتهين في دور الدَّعارة.

 

في حالة الصُّعوبات بين الزَّوجين: إن القوانين الكنيسة الكاثوليكيَّة لا تبيح الطَّلاق، وإنّما هناك حلّان يمكن للزَّوجين أن يلجآ إليهما متى استعصى عيشهما معًا:  

 

أولًا: الهجر (الانفصال الدَّائم أو الجزئي) الذي لا يلغي سرّ الزَّواج، ويتمُّ في حالة الزِّنى أو عندما يُشكّل عيش الزَّوجين معًا خطرًا على أحدهما أو على الأولاد، علمًا أن الهجر يتيح للزوجين إمكان التصالح وعودة الواحد إلى الآخر.  

 

ثانيًا: بطلان أو فسخ الزَّواج: تُبطل الكنيسة الزَّواج عندما تُثبت المحاكمة الكنسيَّة القانونيَّة أن ما بدا وكأنَّه سر الزَّواج، لكنه لم يكن في الواقع لم يكن سرًا. عندها تعلن الكنيسة بعد تحقيقٍ دقيق أن الزَّواج لم يتم في الواقع أبدًا لغياب شرط أساسي أو وجود سبب مُبطل بحسب القوانين الكنسيَّة ، ومنها عدم القدرة النَّفسيَّة على الالتزام بالحياة الزَّوجيَّة، التلجئة بالنَّسل أو الدَّيمومة أي أن يظهر الفرد عكس ما يضمر فيما يتعلّق برغبته في الإنجاب، والزَّواج المعقود وفق شرط، الزَّواج الذي يحمل غشًا وخداعًا في الصِّفة، الزَّواج في الإكراه أو الخوف الاحترامي الذي يفرضه الأهل على أولادهم، إضافة إلى الزَّواج الذي يُقرّر ولا يكون مكتملًا أي تقرير الزَّواج من دون إتمام العلاقة الجسديَّة وهو فسخ يقرّره الحبر الأعظم شرط التأكّد من عذريَّة المرأة. مع العلم إلى أن من يأخذ حكمًا ببطلان الزَّواج يُصبح حرًّا ويمكنه أن يتزوّج ثانية، عكس من يحصل على قرار بالهجر الذي يبقى زواجه معقودًا.

 

 

الخلاصة

 

برجوع يسوع إلى ما وراء شريعة موسى أي إلى مقصد الخالق على ما جاء في كتاب التكوين (مرقس 10: 6-7)، يؤكد الطَّابع المُطلق في الزَّواج، وعدم قابليته للانفصام (متى 19: 9). الله نفسه هو الذي يُوحَد الرَّجل والمرأة، مضيفًا على اختيارهما الحُرِّ تكريسًا يفوقهما. إنهما أمامه "جسد واحد"، ولذا فإن الطَّلاق الذي كان يتغاضى عنه "بسبب قسوة القلوب "، ينبغي حظره في ملكوت الله، حيث يعود العَالَم إلى كماله الأصلي.

 

الزواج شريعة طبيعيَّة، إذ منذ بدء الخليقة، خلق الله الإنسان ذكرًا وأنثى. وجمع الله بين الإثنين على الحبِّ مدى الحياة. وما جمعه الله لا يفرقنَّه الإنسان. والزواج أيضا شريعة إلهيَّة، إذ انطلق يسوع إلى أصول الزَّواج وقدسيته حيث هو رباط ديني لا ينفصم، ووحدة جوهريَّة لا تنفك، ورفعه إلى سرِّ من أسرار الكنيسة. ففي سر الزَّواج يعطى الرُّوح القدس للزوجين أن يصيرًا جسدًا واحدًا في المسيح ويجمعهما الرُّوح القدس في محبة روحيَّة، يرمز اتِّحادهما إلى اتِّحاد القائم بين الله وشعبه، وبين المسيح وكنيسته (أفسس 5: 21-33). لذلك الزَّواج المسيحي وثاق أبدي، لا رجوع فيه إذا استوفى شروطه.  يحصل الزوجان على النِّعمة، لكن إن أهملا جهادهما الرُّوحي تنطفئ النِّعمة التي حصلا عليها في سر الزَّواج كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " ومن لا يجاهد يطفئ الرُّوح" (1 تسالونيقي 19:5). هل يستطيع الزَّوجان أن يصونا هذه النِّعمة ويستمرا في جهادهما؟

 

أمَّا استثناء "حالة الزِّنى" (متى 19: 9)، فلا يُبرر الطَّلاق في كلِّ نصوص العهد الجديد (مرقس 10: 11 -12، لوقا 16: 18، َ 1 قورنتس 7: 10-11)، وإنما هذه الحالة الاستثنائية تتعلق دون شكِّ بطرد القرينة غير الشَّرعيَّة، أو بالحري بانفصال لا يمكن أن يتبعه أي زواج آخر. ومن هنا جاء خوف التلاميذ أمام صرامة الشَّريعة الجديدة بقولهم ليسوع: "إِذا كانَت حالَةُ الرَّجُلِ مَعَ المَرأَةِ هكذا، فلا خَيرَ في الزَّواج" (متى 19: 10).

 

يحسن بالمجتمع أن الاهتداء بتعليم الرَّب الإيجابي في الزَّواج لا طلاق فيه، لأنَّ الطَّلاق يُهدد الحياة الشَّخصيَّة وحياة الأسر وبالتالي المجتمع. والمؤيدون على الطَّلاق لا ينتمون إلى المسيح. لأنَّه لا وجود للطلاق في لغة المسيح؛ إنَّما الوجود كله للحبِّ والسَّعادة بين الزَّوجين وللوفاق والاتفاق، وللأمانة والوفاء وللاستمرار في الوحدة ما جمعه الله حتى الموت طلبًا لبركته وعملاً بمشيئته.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، نسأك باسم يسوع ابنك الحبيب، أن تبارك الزَّواج المسيحي كي يُصبح عهدَ حبٍّ بين الرَّجل والمرأة، وشركة حياةٍ، يتصف بالوحدة والدَّيمومة والوفاء والأمانة مدى الحياة. قدّس زواجنا يا رب كي نتمكّن من أن نشهد لحبِّك ووحدتك بالكنيسة المقدسة. آمين