موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

الوضع اللاهوتي لعقيدة الثالوث – 1

بقلم :
الأب. د يوحنا بولس الفرنسيسكاني
الوضع اللاهوتي لعقيدة الثالوث

الوضع اللاهوتي لعقيدة الثالوث

 

أيّة أطروحة حول عقيدة الثالوث يجب أن تُظهر بجلاء كيف ولماذا أن الاعتراف الإيماني بالله الثالوث إنّما هو بمفهوم  «التوحيد المُطلَق» وأنّه كدليل على صحة ذلك يتضمن «إجابة مسيحية على تساؤل الإنسان عن الله»، إجابة محددة ودقيقة. (ڤ. كاسپر، الله [Gott]، النسخة الإيطالية، ص 417). التوحيد الفعلي، أي الثالوثي، لا يمكن إلا أن يعني هذا: الاعتراف الإيماني بالله الثالوث يشرح الكيفية التي يُظهر الله بها ذاته للبشر باعتباره نبع خلاصهم؛ باعتباره إله لا يمكن الحديث عنه بشكل ملموس إلا إذا تحدثنا عنه كإله لأجل البشر.

 

عقيدة الثالوث تتضمن موضوع تدبير الخلاص باعتباره إظهار الله لذاته وتواصله بذاته، وموضوع كيفية ألوهيته، عندما يظهر شخصيًا ويتواصل بالابن – بحياته من أجل البشر وبعلاقته مع الآب – وبواسطة الروح – في المؤمن الفرد وفي الجماعة. لذلك فإنّ عقيدة الثالوث تفترض «الأطروحات التدبيرية- الخلاصية» وتضع صياغة للنتيجة اللاهوتية - المنطقية الإلهية ( من حيث أن لفظة اللاهوت مكونة من مقطعين - teo - logia- بمعني ”إله - منطق“) المشتقة من فعل الله الخلاصي: النتيجة المطلوبة من أجل منطقية الخطاب المسيحي تحديداً عن الله؛ خطاب عن الله يحمل إلى تفهم تجلّي الله بالابن وبواسطة الروح القدس لا كواقع متميز منفصل عن الله وإنّما بأقصى إتّساق وتماسك وحسم كحقيقة إلهية.

 

إن عقيدة الله الثالوث تعكس الافتراضات التي على أساسها يمكننا أن نتحدث عن الابن والروح القدس باعتبارهما الله ذاته، فهي تربط العِلم المسيحاني وعِلم الكائنات الروحية بالتعليم العقائدي عن الله وتتصورهما على أنهما تجسيد لها. تلك المهمة تطلبت منذ البداية ضرورة التوضيح المُلِحّة؛ ففي مواجهة السهولة الكبيرة لحدوث الاختزالات، كان من الضروري التوضيح باستمرار، مع اختلافات جديدة، أنّ الخطاب المسيحي حول الله لا يمثل عودة إلى التصورات الوثنية متعددة الآلهة، ولكنه من ناحية أخرى لم يكن ينوي الحفاظ على وحدانية الله وتفرده بإخضاع الابن والروح القدس –  بشكل« كائنات وسيطة» ومجرد أدوات إظهار – للآب.

 

مع توالي طرح هذه المشكلات سُرعان ما تحوّل الخطاب الدائر حول الله الثالوث في ضوء الإيمان إلى نظرية لاهوتية جريئة إلى حد ما، راحت تتباعد بوضوح وباستمرار أكثر فأكثر عن الحياة الدينية.

 

إذ حدث ذلك، صارت هناك المخاطرة بالنسيان -على الأقل في سياق التقليد الإيماني الغربي- نسيان أنّ الإيمان بالله الثالوثي، قبل أي تمايز وتمييز معقد، يتطلب تحديد ”وضع“ المؤمن: فالمؤمن يعرف أنه مُختارٌ من قِبَلِ أبيه الإلهي بواسطة ابن الإنسان يسوع المسيح، بالروح القدس ليحيا في شركة مع الله الثالوث، وهو متداخل في شركة الحياة هذه بطريقة تجعله يختبر أن الآب أصل الوجود، يدعم كيانه، وأنّ أخاه يسوع المسيح يرافقه على طريقيّ حياته وموته، وهو مُنفتح بالروح القدس على الحقيقة الإلهية التي تفوق كل مِلَكَةٍ فكرية وتصوُّرية.

 

لذلك فإنّ الخطاب حول الله الثالوث أولاً وآخراً هو إختزال للسرّ، مَدْخلٌ إلى سرّ تللك الحقيقة، التي لا يمكن للإنسان أن يفكر بعدها في أي شيء أعظم وأكثر كمالاً؛ مدخلٌ إلى سرّ الحرية والمحبة الإلهية، المستهدف به الإنسان -الذي هو على وجه التحديد صورة الله- منذ البداية ودائمًا والذي يجب أن يجد فيه تحقيق ذاته. إنّها نظرية لاهوتية متميزة ومختلفة للغاية في خدمة إختزال السرّ: فعقيدة الثالوث يجب أن تبقى بهذا الوضوح الجذاب انطلاقًا منه.

 

إذا توصلت إلى هذا وبمقدار توصُلِها، تتوصل أيضًا للحديث عن سرّ الثالوث الإلهي كحقيقة أولى وأخيرة، كتحقّق ذاتي لله الذي يُحفِّز باستمرار الفهم البشري، ولكنه في النهاية بعيد المنال دائمًا، وبالرغم من ذلك، يفيد الإنسان بما يتجاوز أي فهم بشري.