موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في عالم يشهد تطورًا رقميًا متسارعًا أصبح مفهوم المدن الذكية أحد أبرز التوجهات العالمية التي تسعى الدول لتحقيقها بهدف تحسين جودة الحياة وتعزيز التنمية المستدامة وتحقيق كفاءة عالية في إدارة الموارد والبنى التحتية وتقديم الخدمات الحكومية بشكل أكثر ذكاءً وفعالية وفي هذا السياق تبرز أهمية طرح سؤال جوهري في الحالة الأردنية وهو: هل يمكن للأردن أن يلحق بركب المدن الذكية وهل هذا الحلم هو طموح واقعي يمكن تحقيقه أم أنه لا يزال خيالًا تقنيًا بعيد المنال؟
للإجابة على هذا التساؤل لا بد من التوقف عند مجموعة من المحاور الأساسية التي تشكل معًا صورة متكاملة عن واقع وجاهزية الأردن للتحول الرقمي أول هذه المحاور هو البنية التحتية الرقمية حيث شهد قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في الأردن تطورًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين إذ تشير التقارير الرسمية إلى أن نسبة انتشار الإنترنت في الأردن تجاوزت 90% مع وجود أكثر من 10 ملايين اشتراك في خدمات الهواتف المحمولة وفقًا لهيئة تنظيم قطاع الاتصالات إضافة إلى التوسع في خدمات الإنترنت عريض النطاق وتطور شبكات الألياف الضوئية والجهود المتواصلة نحو إدخال خدمات الجيل الخامس 5G
هذا التحسن في البنية التحتية الرقمية يعكس التوجه الرسمي نحو بناء اقتصاد رقمي متطور يتماشى مع رؤية التحديث الاقتصادي التي أطلقتها الحكومة الأردنية والتي وضعت التحول الرقمي في قلب أولوياتها لكن وعلى الرغم من هذه التطورات فإن البنية التحتية وحدها لا تكفي لتحقيق التحول نحو المدن الذكية فالمدينة الذكية ليست مجرد شبكة إنترنت فائقة السرعة أو خدمات رقمية متفرقة بل هي نموذج متكامل يعتمد على تكامل الأنظمة وتوظيف أحدث التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة في إدارة كل تفاصيل الحياة اليومية من النقل العام وإدارة المرور إلى إدارة الطاقة والمياه والنفايات وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية بشكل مبتكر وذكي.
على هذا الأساس فإن المحور الثاني الذي يجب تسليط الضوء عليه هو الإطار التشريعي والتنظيمي الذي يُعد حجر الأساس في أي تحول رقمي شامل فالمدن الذكية تحتاج إلى قوانين وسياسات رقمية حديثة تضمن انسيابية البيانات بين المؤسسات وتعزز الشفافية وتضع ضوابط واضحة لحماية خصوصية المواطنين وأمن بياناتهم خاصة أن التحول نحو المدن الذكية يعني التعامل مع كمّ هائل من البيانات التي يتم جمعها وتحليلها بشكل مستمر وفي هذا المجال تحديدًا لا يزال الأردن بحاجة إلى تحديث بعض التشريعات ذات العلاقة بحوكمة البيانات وأمن المعلومات
أما المحور الثالث فهو الأمن السيبراني الذي يشكل التحدي الأبرز في ظل تزايد التهديدات الإلكترونية على مستوى العالم فكلما ازدادت المدن ذكاءً أصبحت أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية التي قد تؤثر على أنظمتها الحيوية وتشكل خطرًا على الأمن الوطني وفي هذا السياق بذل الأردن جهودًا واضحة في تعزيز منظومة الأمن السيبراني من خلال إنشاء المركز الوطني للأمن السيبراني الذي يعمل على تطوير استراتيجيات وطنية لحماية الفضاء السيبراني الأردني لكن مواكبة التطورات المتسارعة في تقنيات الاختراق والقرصنة يحتاج إلى استثمار مستمر في بناء القدرات البشرية الوطنية وتعزيز التعاون مع المراكز العالمية المتخصصة في الأمن السيبراني.
وتضيف عماري أنه لا يمكن الحديث عن مستقبل المدن الذكية في الأردن دون التطرق إلى الوعي المجتمعي والثقافة الرقمية فالمدينة الذكية لا يمكن أن تنجح دون مواطن رقمي قادر على التعامل مع التطبيقات والخدمات الذكية بشكل فعّال وآمن وهنا يبرز دور المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام في نشر الثقافة الرقمية وتعزيز مفهوم المواطنة الرقمية لدى مختلف فئات المجتمع خاصة أن أحد أبرز التحديات التي تواجه الدول في التحول الرقمي هو مقاومة بعض الفئات المجتمعية للتغيير نتيجة ضعف الوعي أو الخوف من فقدان الوظائف التقليدية.
وبالنظر إلى التجارب الأردنية على أرض الواقع نجد أن أمانة عمان الكبرى أطلقت عدة مبادرات للتحول الإلكتروني بهدف جعل عمان مدينة ذكية. في عام 2019، أعلنت الامانة عن إطلاق 18 خدمة إلكترونية جديدة، مما رفع نسبة الإنجاز في مشروع التحول الإلكتروني إلى 70%. كما أطلقت الأمانة تطبيقاً رسمياً للأجهزة الذكية يتيح للمواطنين الوصول إلى الخدمات الإلكترونية، مثل الاستعلام عن مخالفات السير والمسقفات ورخص المهن، بالإضافة إلى تقديم الشكاوي ومتابعة آخر الأخبار. هذه الجهود تأتي في إطار رؤية الأمانة لجعل عمان مدينة عصرية، ذكية، وآمنة، مع التركيز على تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين وتبسيط الإجراءات.
ختاماً يمكن القول إن الأردن يمتلك المقومات الأساسية التي تؤهله للدخول إلى عالم المدن الذكية لكن تحقيق هذا الطموح يتطلب خطة استراتيجية متكاملة تشمل الاستثمار في البنية التحتية الرقمية المتطورة وتطوير التشريعات الداعمة وتعزيز الأمن السيبراني وبناء القدرات البشرية الوطنية ورفع الوعي المجتمعي وتوسيع الشراكة مع القطاع الخاص وجذب الاستثمارات الأجنبية في مجال التكنولوجيا المتقدمة فالمسألة لم تعد ترفًا فكريًا أو طرحًا مستقبليًا بعيدًا عن الواقع بل أصبحت استحقاقًا وطنيًا ملحًا تفرضه التحولات الرقمية العالمية ومتطلبات التنمية المستدامة وتزايد الحاجة إلى مدن قادرة على مواجهة التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية بطرق مبتكرة وذكية والأردن الذي يمتلك إرثًا حضاريًا عريقًا وشبابًا مؤهلًا وقطاعًا تكنولوجيًا واعدًا قادر اليوم على تحويل حلم المدن الذكية إلى قصة نجاح أردنية جديدة شرط أن تتكاتف الجهود الرسمية والخاصة والمجتمعية في إطار رؤية وطنية واضحة وطموحة تستثمر في الإنسان والتكنولوجيا معًا عندها فقط يمكن أن يتحول حلم المدن الذكية في الأردن من خيال تقني إلى واقع ملموس يسهم في تحسين جودة الحياة وتعزيز الاستدامة ودفع عجلة الاقتصاد الوطني نحو المستقبل الرقمي المنشود.
(خبرني)