موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥

اقتصاد النوايا: نحو نظام اقتصادي أكثر إنسانية وذكاءً

د. عدلي قندح

د. عدلي قندح

د. عدلي قندح :

 

في عصر التحول الرقمي والتطور التكنولوجي المتسارع، يبرز مفهوم «اقتصاد النوايا» كأحد التوجهات الحديثة التي تسعى إلى إعادة صياغة فهمنا لسلوك المستهلك. يقوم هذا المفهوم على فكرة أساسية وهي أن قرارات الأفراد الاستهلاكية لا تأتي عشوائية، بل تنبع من نوايا ورغبات دفينة يمكن استشرافها وتحليلها من خلال البيانات الضخمة التي تُجمع يوميًا عبر تفاعلنا مع التكنولوجيا. في هذا السياق، أصبح التركيز على النوايا خطوة متقدمة تتجاوز الاقتصار على مراقبة السلوك الظاهر.

 

اقتصاد النوايا، بمعناه العميق، يعكس تحولاً جوهريًا من الاقتصاد التقليدي الذي يعتمد على ردود الأفعال الفورية إلى نهج أكثر استباقية. فبدلاً من الانتظار حتى يتخذ المستهلك قراره، تسعى الشركات والمؤسسات إلى فهم دوافعه واستباق احتياجاته من خلال دراسة أنماط البحث، وسجل المشتريات، وحتى تفاعلاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، عندما يقوم أحد الأشخاص بالبحث عن «أفضل الأجهزة الذكية»، فإن هذا لا يعبر فقط عن اهتمامه الحالي، بل يشير إلى نية محتملة للشراء في المستقبل القريب. من هنا، تبرز أهمية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة لتحليل هذه الإشارات وتحويلها إلى قرارات اقتصادية ذكية.

 

التكنولوجيا الحديثة لعبت دورًا حاسمًا في تعزيز هذا التحول. فالذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أصبح أداة قوية لتحليل كميات هائلة من البيانات واستخلاص رؤى دقيقة حول دوافع المستهلكين. كما أن تعلم الآلة يتيح تقديم توصيات مخصصة لكل فرد بناءً على تاريخه الشخصي ونواياه المعلنة أو غير المعلنة. ومع ظهور إنترنت الأشياء، أصبحت الأجهزة اليومية قادرة على جمع بيانات مفيدة تعكس سلوكياتنا وعاداتنا، مما يُعمّق فهم الشركات لاحتياجاتنا بشكل غير مسبوق.

 

النتائج التي يمكن تحقيقها من خلال تبني اقتصاد النوايا تتجاوز مجرد زيادة المبيعات. فهو يسهم في تخصيص المنتجات والخدمات بما يتماشى مع التوقعات الفردية، مما يعزز رضا المستهلك ويرفع من مستوى ولائه. كما أن هذا النهج يقلل من الهدر الاقتصادي، إذ يُمكن الشركات من توجيه مواردها بشكل أكثر كفاءة نحو الجمهور المستهدف. ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يخلو من تحديات كبيرة، أبرزها حماية الخصوصية، حيث يتطلب جمع وتحليل النوايا الوصول إلى بيانات حساسة قد تثير مخاوف قانونية وأخلاقية. إضافة إلى ذلك، فإن التنبؤ بالنوايا ليس عملية دقيقة تمامًا، إذ لا تترجم جميع النوايا إلى أفعال، مما قد يؤدي إلى أخطاء في التقديرات.

 

أما بالنسبة للأردن، فإن تطبيق اقتصاد النوايا يمكن أن يكون له تأثير كبير على تحسين الأداء الاقتصادي، خصوصًا في ظل التحديات الراهنة. يمكن أن تستفيد الشركات الأردنية من هذا النهج من خلال استخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة لتحليل بيانات السوق المحلي وتوقع احتياجات المستهلكين. على سبيل المثال، يمكن لقطاعي السياحة والتجارة الإلكترونية، وهما من القطاعات الواعدة في الأردن، استخدام هذه البيانات لتطوير خدمات مخصصة للسياح المحليين والأجانب، وتعزيز الترويج لمنتجات ذات طابع محلي وفقًا لتفضيلات العملاء.

 

علاوة على ذلك، يمكن للحكومة الأردنية توظيف هذا المفهوم في تحسين الخدمات العامة وتخصيص الموارد بفعالية أكبر. على سبيل المثال، تحليل النوايا يمكن أن يساعد في تصميم برامج دعم اقتصادي تستهدف الفئات الأكثر احتياجًا بشكل أكثر دقة، أو تحسين إدارة المدن من خلال فهم احتياجات المواطنين من المرافق والخدمات.

 

رغم هذه التحديات، يبدو أن اقتصاد النوايا يحمل في طياته مستقبلاً واعدًا. فهو يمهد الطريق أمام الشركات لتكون أكثر تفاعلًا مع احتياجات العملاء وأكثر قدرة على التكيف مع التغيرات المتسارعة في الأسواق. كما يعزز الابتكار ويشجع على التفكير المستدام، مما يضع أسسًا جديدة لعلاقة أكثر توازنًا بين الشركات والمستهلكين.

 

في نهاية المطاف، يمكن القول إن اقتصاد النوايا ليس مجرد مصطلح اقتصادي حديث، بل هو رؤية شاملة تهدف إلى بناء نظام اقتصادي أكثر إنسانية وذكاءً. في هذا النظام، يصبح فهم الدوافع الحقيقية وراء قرارات المستهلكين مفتاحًا لخلق قيمة حقيقية ومتبادلة بين الأطراف المختلفة في السوق. ومن هنا، تتضح أهمية الاستثمار في الأدوات والتقنيات التي تمكننا من استشراف المستقبل وتحقيق تفاعل أفضل مع تطلعات الأفراد، سواء على مستوى القطاع الخاص أو القطاع العام، لتعزيز تنافسية الاقتصاد الأردني في عصر الاقتصاد الرقمي.

 

(الدستور الأردنية)