موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٢ مايو / أيار ٢٠٢٣

أمريكا بين الحرية والانفلات الديني

إميل أمين

إميل أمين

إميل أمين :

 

هل من فارق بين الحرية والانفلات؟ مؤكد أن ذلك كذلك، فالحرية تقوم على أسس واضحة من المعايير والأخلاقيات، حيث تنتهي الحرية الشخصية عند بداية حدود الآخرين، فيما الانفلات لا يقيم وزنا لمشاعر الآخرين، ولا مقدراتهم الإيمانية أو الروحية.

 

تبدو الولايات المتحدة الأمريكية في حاضرات أيامنا، وكأنها تعاني ضمن أشكال عديدة من المعاناة، من أزمة الانفلات الروحي أو الإيماني، وهو أمر موصول بحالة النسيج المجتمعي المتفسخ في العقدين الأخيرين.

 

ليس سرا أن هناك أمر ما وراء هذه الكلمات، أمر يدركه الذين تابعوا ما جرى في مدينة بوسطن الأمريكية في ولاية ماساشوستس الأيام من 28 إلى 30 إبريل/نيسان المنصرم، من دعوة لتجمع بالآلاف لـ"عبدة الشيطان"، في واحد من المعابد الشهيرة هناك، راعهم ما حدث في دولة ذات جذور دينية مسيحية، حتى وإن كانت علمانية الهوية بحسب الدستور الأمريكي.

 

مثير جدا أمر ولاية ماساشوستس التي أسسها المحامي الإنجليزي البيوريتاني الشهير، جون وينثروب، الذي هاجر إلى الأراضي الأمريكية الجديدة في أول موجة من المهاجرين عام 1630، وهو الذي تلقى تعليمه في جامعة الثالوث بلندن.

 

على سطح المراكب المسماة "أرابيلا"، التي عبر بها وينثروب ومن معه المحيط الأطلسي، وضع الرجل مسودة تصوره لمجتمع الكتاب المقدس الجديد الذي يمكن أن يوجدوه في أرض كنعان الجديدة، في محاولة لا تخطئها العين، لتكرار تجربة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض فلسطين. على سطح تلك المراكب المتواضعة، قال وينثروب "يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أننا سنكون مثل مدينة مبنية على تلة، لأن عيون الناس جميعا متجهة نحونا".

 

 كان الرجل هو صاحب تعبير "المدينة فوق جبل"، وهو مفهوم إيماني مسيحي واضح.

 

 بعد ثلاثة عقود تقريبا، وفي العام 1992كان حاكم ولاية مسيسبي، كيرك فوردير، يثير زوبعة من الغضب عندما تكلم عن أمريكا بوصفها "أمة مسيحية"، مما جعله يتراجع بسرعة، ويقول "طبعا، إن الولايات المتحدة ليست دولة مسيحية بصورة رسمية وقانونية".

 

هل كان فوردير يتلاعب بالكلمات والمفاهيم؟

 

مؤكد أن ذلك كذلك، فهو يدرك جيدا أن الدستور الأمريكي، ومنذ اليوم الأول لإعلان الجمهورية الأمريكية، لم يحدد دين معين للبلاد، لكن ومع ذلك يمكن القول أن الروح المسيحية قائمة هناك، ومن هنا يطفو على السطح تكافؤ الأضداد في الروح الأمريكية الواحدة، علمانية ودينية، مثالية وواقعية، مدينة فوق جبل، وعوالم عميقة وسرية، إلى أخر تلك المصفوفة من مربعات التقابل غير المنطقي.

 

بعد نحو أربعة قرون من رحلة وينثروب وتأسيسه مستعمرة ماساشوستس، ذات الهوية الدينية الإنجيلية، تسمح المحكمة العليا في البلاد، لطائفة واسعة من عباد الشيطان بأن يقيموا شعائرهم وطقوسهم، وأن يتلو صلواتهم، وفي مقدمها، ما يعرف بالقداس الأسود، وفيه يتم امتهان الرموز الدينية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بجانب الإزدراء بكل أتباع الأديان الإبراهيمية سواء من يهود أمريكا أو مسلميها.

 

بدا التساؤل المثير للقلق في الأيام الثلأثة المشار إليها كالتالي: "هل عبادة الشيطان من قبيل الحريات الدينية، أم أن الأمر يهدم كافة المداميك التي يقوم عليها الإيمان الواعي العقلاني، بالله وملائكته وكتبه ورسله؟

 

لن نقطع جوابا، ونترك للقارئ أن يعمل عقله فيما يجري في الداخل الأمريكي في حاضرات أيامنا، وأن يعقد المقاربات بين أمريكا ذات المفهوم الثقافي المسيحي، والتي تحمل ضمن روافعها الإيمانية مسلمين ويهود، يتشاركون معا في مفهوم الألوهية والربوبية بل والوحدانية ، لكن أن يصل الأمر حد موافقة السلطات القضائية الأمريكية، بل أعلى مرتبة بين تلك السلطات كما الحال مع المحكمة العليا، على منح تلك الجماعة التي تعبد إبليس وقام على تأسيسها الموسيقي الأمريكي أنطون ليفي، المولود عام 1930 لأسرة يهودية، في ولاية كاليفورنيا، حق العبادة رسميا، فهذا أمر يرسم علامات استفهام حول مستقبل الولايات المتحدة وإلى أين تمضي.

 

يعن لنا كذلك التساؤل: "هل ما يحدث هو نتيجة الإغراق في العلمانية؟"

 

 الجواب هو أن العلمانية، تجد أرضها الخصبة في أوروبا، ذات الجذور المرتبطة بتطورات المشهد في قرون التنوير الأوروبية بنوع خاص، بأكثر من ارتباطها بالولايات المتحدة الأمريكية، ذات التعددية الدينية، والممتلئة بطوائف شتى، حتى بين المسيحية نفسها، نجد تنوع غير موجود في أوروبا.

 

أقرب تفسير لما يحدث هو تنامي التيار اليساري، والذي يكاد يعصف بالحزب الديمقراطي مرة واحدة، ولو قدر للرئيس بايدن الفوز بولاية رئاسية ثانية، ربما يتحول المشهد من اليسار إلى درجات واسعة وشاسعة من الإشتراكية، الأمر الذي لن يرتضيه تيار اليمين الأمريكي المحافظ والمسيحي.

 

والشاهد أنه حين تقوم جماعة عبدة الشيطان بترتيب مثل تلك الفعاليات، فإن الاحتراب الداخلي بين الأمريكيين، وعلى أسس من الهوية الدوجمائية، يضحى قريبا جدا، بل ويساهم في إذكاء نيران الصراع المجتمعي المهترئ سياسيا في الأصل.

 

 لا يمكن أن تعني الحرية الدينية هذا الانفلات، والذي يمكنه بدوره أن يسرع من صراع أطياف المجتمع الأمريكي الدينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن صراع المطلقات قاتل ويؤدي إلى تفكيك الدول والمجتمعات مهما كانت بنيتها التكتونية قوية وصلدة، وهذا أول مخاض نهاية الإمبراطورية الأمريكية المنفلتة.

 

(العين الإخبارية)