موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الاطباء الحق هم فرسان نبلاء يدافعون عن حق الانسان في حياة كريمة خالية من الامراض، يتفانون في انزال الرحمة وبسطها على كل موجوع يتألم وعاجز عن تحمل الألم، فكانت شفقة الطبيب مع مرضاه وتعاطفهم النفسي معهم وتواضعه لهم بقبول سيل استفساراتهم للاطمئنان لقدرة الطبيب على علاجهم أساسا في شفائهم بشكل سريع للغاية، وربما بشكل يفوق تصور الطبيب المعالج نفسه، لسبب بسيط لكنه جوهري، وهو الراحة النفسية الطاقة الايجابية من الرحمة والتعاطف الذي يبثها الطبيب تجاه مرضاه.
حالات مرضية كثيرة ذهبت لكبار الأطباء وذوي الشهرة والصيت في تخصصات مرضية مختلفة، ولكنها لم تكمل كورسات العلاج لانهم لم يشعروا براحة نفسية مع هؤلاء الاطباء، والبعض الاخر أكمل كورس العلاج على مضض وعلى غير قبول نفسي للطبيب فلم تشف.
وكم من حالات مرضية اخرى ذهبت للتداوي عند أطباء أقل شهرة في الكشف وتم شفاؤهم بسرعة من أمراض شديدة الصعوبة، لأنهم استجابوا روحيا ونفسيا ووجدانيا لملاطفة اطبائهم وسياساتهم في اللين واظهار شفقتهم على مرضاهم.
فالطب على ما يتطلبه من مهارة وخبرة وتقنيات علمية، فهو ايضا فن في التعامل مع المرضى و به جزء نفسي يكاد يضاهي العضوي، لكننا في زمننا المعاصر، نجد الاطباء اكثر حرصا على تعلم التقنيات الحديثة وتوظيف الاجهزة السريعة التي تشخص الأمراض بسرعة وتجد الدواء لكل حالة بالضغط على الجهاز الحديث أمامه،دون ان يقيم علاقة انسانية مع مريضه، فلا يظهر تعاطفه معه ولا يمتلك من الصبر الكافي لإجابة مرضاه عن استفساراتهم بشأن حالاتهم المرضية، فالمريض صار في عالمنا المعاصر رقماً في كشف زبائن العيادة ليس الا يتم التعامل معه بشكل آلي وليس إنسانياً.
وقد يجعل الطبيب مريضه نهبا لكل انواع الفحوص والاشعة وانواع عديدة من الادوية والتي قد لا يحتاج منها الا النذر اليسير فيصبح المريض فرصة وزبونا سهلا يتم استنزافه مادياً ونفسياً.
في حين أن مهنة الطب مهنة مقدسة من بعد الأديان السماوية، وفي الحضارات القديمة كان للطبيب قواعد تحكم علاقته كالتي وضعها ملك بابل حمورابي عام 2100 ق. م لتحديد أجور الاطباء وحماية المريض ومراعاة الحالة الاقتصادية لطرفي المعادلة الطبيب والمريض، وان كانت تشريعات حمورابي شددت على مسؤولية الاطباء عن اي ضرر يقع على المريض اثناء علاجه، بجانب مراعاة الطبيب للحالة المالية للمريض فيأخذ من الفقير أجرا اقل من الغني. وبمقارنة هذه القيم، بالقيم التي وضعها حمورابي بما يجري الآن لوجدنا ان الانسانية قد تراجعت رحمتها بالضعفاء كثيرا خاصة في عصر طغت فيه المادة والمال على اية قيمة اخرى، فمن لا يملك مالا فقد لا يجد طبيبا يعالجه من كبار المتخصصين لاسيما اذا كانت حالته خطيرة، وبعض المرضى قد يستدين من الغير او يبيع ممتلكاته لتغطية نفقات العلاج الباهظ ولا يجد من الرعاية النفسية التي يتطلبها شعوره بالأمان عند تلقي العلاج على أيدي طبيب شهير.
تبرز أهمية الجانب الاخلاقي في مهنة الطب ومكانتها عند الفلاسفة والحكماء ومنهم الامام الشافعي في تقديسه لعلم الفقه وعلم الطب في قوله المأثور: فالعلم علمان، علم للدين وهو الفقه، وعلم للدنيا وهو الطب. وقال الشافعي ايضا رحمه الله لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب الا ان أهل الكتاب قد غلبونا عليه.
فمهنة الطب مهنة سامية لا ينبغي ان تدنس بالأطماع الدنيوية، فقد كنت أفكر لماذا لا يتم تدريس الاطباء الخلق الإنساني و كيفية التعامل مع المرضى والشق الذي به رحمة و رأفه و ايضا اعطاء الامل و التفاؤل والطاقة الايجابية وتفأجات عندما وقعت عيناي على خبر أن جمعية الطب العالمية تدعو إلى تدريس الأخلاق الطبية وحقوق الإنسان ضمن المواد الاجبارية في برامج تدريسها ولكن هل نفذ هذا لا أعلم.
والميثاق الاسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية يقرر واجب الطبيب نحو المريض، فيوجب على الطبيب ان يحسن الاستماع لشكوى المريض وتفهم معاناته وحسن معاملته والرفق به عند الفحص الطبي، ولا يجوز له ان ينظر اليه نظرة يسخر فيها منه، مهما كان مستواه العلمي والاجتماعي، وأياً كان انتماؤه الديني أو العرقي، وأن يحترم وجهة نظر المريض، لا سيما في الأمور التي تتعلق به شخصيا.
والميثاق يوجب على الطبيب الحرص على المساواة بين جميع المرضى، وان لا يفرق بينهم في الرعاية الطبية بسبب تباين مراكزهم الأدبية والاجتماعية وغيرها.
ويدعو ميثاق الطبيب إلى اجراء الفحوص الطبية اللازمة للمريض، دون اضافة فحوص اخرى لا تتطلبها حالته المرضية. ويتوجب على الطبيب العمل على تخفيف آلام المريض بكل ما يستطيع وما يتاح له من وسائل وقائية وعلاجية مادية ونفسية واستخدام مهاراته في طمأنة المريض والتخفيف عنه.
المرضى في الالفية الثالثة للميلاد يجدون بونا شاسعا بين اخلاقيات الطب المتعارف عليها، وبين واقع مؤلم يجبرهم للانتظار ساعات طويلة لإجراء فحوصات لانهائية لتشخيص حالتهم، وغالبا ما يجد تعاطف وشفقه من أطباءهم.
ولذلك فإنني ارجو استعادة الاطباء لدورهم الانساني والاخلاقي في حياتنا، وان تقوم الجامعات الطبية بفرض دراسة علم النفس في معالجة المرضى لان ذلك عناصر حسم في شفاء الأمراض وتخفيف الالام، وتدريب الاطباء على التواضع مع المرضى لأن ما يعانونه من آلام حطمت معنوياتهم وكسرت أنفسهم، ولا سبيل لتحمل الآلام بمعزل عن تواضع الطبيب ورحمته مع مرضاه. وكلنا نعلم أن نصف الأمراض حزن وكآبة ونصف الشفاء أمل وسعادة.
(جريدة الرأي الأردنية)