موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٣ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

الفعل أصدق قولا من الشعارات

أ. د. وفاء عوني الخضراء

أ. د. وفاء عوني الخضراء

أ. د. وفاء عوني الخضراء :

 

بمناسبة بدء عودة اللاجئين السوريين إلى أوطانهم وطموحهم لإعادة بناء وطنهم على أسس جديدة، أستحضرُ قصة جدي ورحلته من التشريد إلى كرامة العيش.

 

تُجسد قصة جدي حكاية فقد وصمود وامتنان. فقد فيها وطنه بعد الاحتلال الغاشم لصفد أثناء النكبة عام 1948، ليصبح واحدًا من آلاف الفلسطينيين الذين أُجبروا على ترك ديارهم وذكرياتهم خلفهم. بدأت رحلته كلاجئ عبر بلدين عربيين عانى فيهما من صعوبات اللجوء وعدم الاستقرار. لكنه عندما وصل إلى الأردن، وجد فيه ملاذًا آمنًا أعاد إليه كرامة العيش ومعنى الحياة، واستطاع أن يعيد بناء نفسه فيه وحياة جديدة له ولعائلته.

 

فقدان الوطن لا يعني فقط خسارة الأرض، بل هو فقدان الهوية، والجذور، والشعور بالانتماء. اللاجئون الذين يُجبرون على ترك أوطانهم يواجهون رحلة مليئة بالصعاب، ولولا قلوب رحبة مضيافة كقلوب الأردنيين، لكانت تلك الرحلة أكثر قسوة. الأردن لم يكن فقط مضيفاً؛ بل كان الملاذ الذي حمل الأمل لكل من طرق أبوابه، كعادته.

 

لقد احتضن الأردن جدي والعديد من اللاجئين بروح إنسانية فريدة، وبسياسة الحدود التي تستقبل اللاجئين ولا تزال فاعلة حتى اليوم.

 

ورغم محدودية موارده، أثبت الأردن أنه نموذج في التضامن العربي، فاتحًا ذراعيه لكل من أجبرتهم الظروف على الهجرة بسبب الحروب أو الأوضاع السياسية غير المستقرة. لم يكن الأردن مجرد مكان يلجأ إليه جدي، بل كان وطنًا ثانيًا منحه احترامه وإنسانيته. بل إنه شرّفه بتعيينه في كتيبة الفرسان، ليصبح جزءًا من منظومة وطنية، منظومة النشامى النشامى، أعادت له إحساسه بالكرامة والقيمة الذاتية.

 

وفي إربد الغالية، تعلمت أول حروفي، وحفظت أسماء الأماكن التي نقشها الزمن في ذاكرتي. عرفت أن الجغرافيا تكتسي ألوانًا وأصواتًا مختلفة، وأن الرمال تختلف في نسيجها كما تختلف الأشجار في ظلها. تعلمت تنوع الطيور وزقزقاتها، وصمت الحجارة وقصصها، وكل شيء بينهما. كل هذا تعلمته في الأردن، الوطن الذي علّمني كيف أرى العالم بجمال تنوعه.

 

ومع ذلك، فإن هذا الكرم يأتي مع مسؤولية مشتركة. بالنسبة لأولئك الذين حصلوا على ملاذ آمن، من الضروري أن يتذكروا تضحيات وكرم دولتهم المضياف. ففي الوقت الذي أُغلقت فيه العديد من الأبواب أمام اللاجئين، كان الأردن يفتح أبوابه ويحتضن الجميع. لم يكن احتضان الأردن مجرد لفتة ضيافة، بل شهادة على التزامه الثابت بالقيم القومية و الإنسانية.

 

ولا بد هنا من تذكير بعض القلّة بأن لا يفسدوا هذا الإرث الإنساني العظيم. لا تتركوا موقفكم النبيل المتمثّل بالتضامن مع إخوتكم العرب يتزعزع أو يُساء استخدامه. لقد صنعتم تاريخًا من الإنسانية والكرم، وهو إرث يجب أن يُحترم ويُحافظ عليه.

 

إنّ أحلامنا وتطلعاتنا اليوم تتجسد في رؤية العالم العربي يتحرر من كافة أشكال العبث السياسي والأنظمة الاستبدادية، بما في ذلك دولة الاحتلال التي تجاوزت كل حدود الاستبداد بإبادتها الممنهجة للأبرياء وممارسات التعذيب القسري في سجونها، فضلاً عن الأطماع الخارجية التي تعيق التنمية والاستقرار. نطمح لأن تُبنى دول المنطقة على أسس العدل والكرامة والحرية، بما يضمن مستقبلًا مشرقًا للأجيال القادمة.

 

الأردن الصغير بحجمه والكبير بإنسانيته وقَدْرِه وقَدَرِه، أصبح رمزًا للإنسانية، وموئلًا لمن ضاقت بهم الأرض بما رحبت.

 

(عمون)