موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
فصل شريف من بشارة القديس لوقا
(لوقا 15: 11–32)
قال الربُّ هذا المثَل. انسانٌ كان لهُ ابنان * فقال اصغرُهما لأَبيهِ يا أَبتِ أَعطِني النصيبَ الذي يخصنُّي من المال. فقسم بينهما معيشَتَهُ * وبعد ايامٍ غير كثيرةٍ جمع الابن الاصغر كلَّ شيءٍ لهُ وسافر الى بلدٍ بعيدٍ وبذَّرَ مالهُ هناك عائشًا في الخلاعة * فلمَّا أَنفَقَ كلَّ شيءٍ لهُ حدثت في ذلك البلد مجاعةٌ شديدةٌ فأخذ في العَوَز * فذهب وانضوى الى واحدٍ من اهل ذلك البلد فارسلهُ الى حقولهِ يرعى خنازير * وكان يشتهي ان يملأَ بطنهُ من الخرنوب الذي كانتِ الخنازير تأكلهُ فلم يُعطِهِ احدٌ * فرجع الى نفسهِ وقال كم لأَبي من أُجَراء يفضُل عنهمُ الخبز وانا أَهِلك جوعًا * أقوم وامضي الى ابي واقول لهُ يا أَبتِ قد أَخطَاتُ الى السماء وامامك. ولست مستحقًّا بعدُ ان أُدعَى لك ابنًا فاجعَلني كأَحد أُجَرائـِك * فقام وجاء الى أبيهِ. وفيما هو بعدُ غير بعيدٍ رآهُ ابوهُ فتحنَّن عليهِ واسرع وأَلقى بنفسهِ على عنقهِ وقبَّلهُ * فقال لهُ الابن يا أَبتِ قد أَخطات الى السماء وامامك ولست مستحِقًّا بعدُ ان أُدعى لك أبنًا * فقال الأَبُ لعبيدهِ هاتوا الحلَّة الاولى وأَلبِسوهُ واجعلوا خاتمًا في يدهِ وحِذاءً في رجلَيهِ * وأتوا بالعجل المسمَّن واذبحوهُ فناكلَ ونفرَح * لانَّ ابنيَ هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاًّ فوُجد. فطفِقوا يفرَحون * وكان ابنَهُ الاكبرُ في الحقل. فلمَّا اتى وقرُب من البيت سمع اصواتَ الغِناء والرقص * فدعا احد الغِلمانِ وسأَلهُ ما هذا * فقال لهُ قد قدمَ اخوك فذبح ابوك العجلَ المسمَّنَ لانَّهُ لقيَهُ سالمًا * فغضب ولم يُرِدْ ان يدخل. فخرج ابوهُ وطفِق يتوسَّلُ اليه * فاجاب وقال لأَبيهِ كم لي مِنَ السنينِ اخْدمُكَ ولم أَتَعـَدَّ لك وصيَّةً قطُّ وانت لم تُعطِني قطُّ جَديًا لأَفرحَ معَ اصدقائي * ولَّما جاء ابنَك هذا الذي اكل معيشَتَك معَ الزواني ذبحتَ لهُ العجلَ المسمَّن * فقال لهُ يا ابني انت معي في كلّ حينٍ وكلُّ ما هو لي فهو لك * ولكن كان ينبغي أن نفرَحَ ونُسَرَّ لانَّ اخاك هذا كان ميّتًا فعاشَ وكان ضالاًّ فوُجد.
بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين
أيها الأحباء،
في مسيرتنا نحو الصوم الأربعيني المقدس تعلّمُنا كيفيّةَ الوصول إلى يسوع، كما فعل زكّا الذي بذل جهده لكي يراه . فقد قال البشير يوحنا: "لا يقدر أحدٌ أن يأتي إليّ ما لم يجتذبْه الآب". هذا الاِنجذابُ ليس سِحراً إنّما هو محبّةٌ لله الآب تنبُعُ مِن قَلْبِ الإنسان، والتي توصلنا إلى يسوع لكي نراه.
في الأحد الماضي أدركنا أنّ التواضع هو بداية الطريق الذي يقودنا إلى الصلاة الحقيقية، وبها نبقى على صلة دائمة مع إلهنا. وفي هذا الأحد تكتمل هذه الطريق الموصلة إلى يسوع بواسطة الاعتراف.
يقول القدّيس كبريانوس: "خارج الكنيسة لا يوجد خلاص" الخلاص الذي فتّش عنه الأنبياء وبحثوا، الأنبياءُ الذين تنبّأوا بالنعمة التي لأجلنا. الكنيسة هي مستشفًى روحيّ، فلا يستطيع الإنسان أن يخلص من أدران الخطيئة إلّا بيسوع المسيح. يسوع هو المخلّص، هو الذي حرّر البشريّة من عبوديّة الخطيئة القتّالة. الخطيئة تقسم الإنسان على ذاته وتضيّع له هدفه.. المسيح يوحّد الإنسان بذاته ويضعه على طريق البرّ.
من تواضع اعترف حقّاً. ومن اعترف شُفِيَ من أمراضه الروحيّة، وسَيَرى يسوع. يقول الرسول يوحنّا الإنجيليّ في رسالته الأولى الجامعة: "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل فيغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كلّ إثم..." (يوحنا الأولى 1: 9).
إذًا الخطيئة هي حائط يَحُولُ بيننا وبين إلهنا، والاعتراف يزيل هذا الحائط.
ماذا نجدُ اليومَ على أرضِ الواقعِ؟
نجدُ في رعيتنا أنَّ نسبةَ المؤمنينَ الّذين يمارسونَ سرَّ الاعتراف هي نسبةٌ ضئيلةٌ جدًّا. قلّةٌ هم الّذين يتقدّمون من الكاهن ويعترفونَ بخطاياهم لكي ينالوا النُّصحَ والإرشادَ والحلَّ مِن خطاياهم. لا بل كثيرًا ما نَسمعُ مِن أبناءِ كنيستِنا تساؤلًا عن سرِّ الاعتراف إنْ كانَ حقًّا موجودًا في كنيستنا. إنّنا بسبب كَسَلِنا وتَوانِينا لا نكلّفُ أنفسَنا عناءَ التّفتيشِ في كُنوزِ كنيستنا. ولو بذلنا جهدًا بسيطًا وفتّشنا، لوجدنا علاجًا روحيًّا لِكُلِّ مرضٍ من أمراضنا الروحيّة.
وسرُّ الاعتراف المقدَّس، أي التقدّم إلى الكاهن في الكنيسة، والاعترافُ أمامَه، هذا السرٌّ أسّسَهُ ربُّنا يسوعُ المسيحُ بنفسِه. وقد روى لنا مَثَلَ الابنِ الشّاطرِ، الّذي سمعناه اليوم، ليَرسُمَ لنا صُورةً واضحةً، فيعلِّمَنا ماهيّةَ الاعترافِ وكيفيّةَ ممارستِه.
في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد المبارك: إنسان ترك البيت الأبويّ وسافر. هذا الإنسان يرمز إلى الإنسانية المتمرّغة بأفعال الشرّ، والبيت الأبويّ يرمز إلى السفينة الروحيّة التي ربّانها المسيح. كثيراً ما يُحارَب الإنسان من شهواته، "الشهوة، إذا حبلت، تلد خطيئة، والخطيئة، إذا كملت، تنتج موتاً".
هو لا يريد أن يتّحد بالمسيح، بالرغم من أنّ مخلصنا يحبّ الخاطئ التائب. الإنسان في هذا الإنجيل هو الإبن الضالّ الذي يفتّش عنه المسيح، ويفرح بعودته "لأنّ السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارّاً لا يحتاجون إلى توبة.
من هنا توتضح الصورة الكاملة أمامنا: مَن رجع إلى نفسه حقّاً، تواضع أمام عرش الله (قد أخطأت إلى السماء وإليك، ولست مستحقّاً بعد أن أُدعى لك ابنًا...). الخطيئة تفصلك عن الله وعن ذاتك وعن الآخر، فتغدو عبداً يزدري بك الكلّ. أمّا التوبة فتجعلك ملكاً بكامل وشاحك.
ماذا نستنتج من هذا المثل:
1- الإبن الضالّ أخذ ماله من الميراث الأبويّ، وسافر. الخطيئة تجرّك إلى رحابها لتدخلك في ظلمة الأهواء المقيتة.
2- الفضيلة ترفع مُقامك بين الجماعة الأفخارستيّة المتّحدة بجسد المسيح ودمه لتضعك على المنارة! لأنّ البارّ يضيء سراجه ويضعه "على المنارة ليُضيءَ لجميع الذين في البيت".
ولكن في تعبير آخر نرى وضوح الرؤية أمامنا إن الإبن الضالّ ترك العظة الأبويّة وأحبّ العالم وشهوته؛ لم يدرك أنّ "محبّته العالم عداوة لله". ولم يختبر أنّ كلّ ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون، وتعظّم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم.
الخطيئة تشعرك أنّك إنسان ضعيف. هذا ما كان عليه الاِبن الأصغر عندما وقع في المعصية. أحسّ بفقره وحقارته. ينفخ فيك الشيطان روح الكبرياء لكي تتشامخ نفسك وتكسر الوصيّة. لكنّ الاِبن الشاطر قال في نفسه: "أعود إلى أبي وأقول له يا أبي إنّي أخطأت إلى السماء وقدّامك، ولست مستحقّاً بعدُ أن أُدعى لك ابناً، إجعلني كأحد أجرائك". الأجير هو العبد، أمّا المؤمن فقد أصبح ابناً للآب: "لم أعد بعدُ أدعوكم عبيدًا، بل أبناء". يطلب الاِبن الشاطر العودة إلى حضن أبيه، إلى الكنيسة، إلى الحالة الأولى... لكنّ العودة إلى الكنيسة تتطلّب عِفّةَ المؤمن عن الخطيئة التي تفسد الكيان كلّه. العودة تعني التوبة أي تغيير المسلك، تغيير الذهن بحسب الفدر الآبائي.
وخلاصة القول: أنت في توبة مستمرّة لتعاين وجه الله، لأنّه لا يراه إلّا التائبون. "فالتوبة ضروريّة لكلّ من يرغب في الخلاص" القدّيس إسحق السريانيّ. يعود إلى أبيه ويعترف أمامه بأنّه خطئ ويطلب الغفران. يركض الآب إليه لأنّه كلّه محبّة. "الله محبّة" ويعيد إليه اعتباراته: "الحلّة الأولى، الخاتم، الحذاء والعجل المسمّن" ويضمّه، من جديد، إلى الكنيسة.