موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٠ فبراير / شباط ٢٠٢٥

يونان النبي رجاء في رحمة الله

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
يونان النبي رجاء في رحمة الله

يونان النبي رجاء في رحمة الله

 

إن قصة يونان النبي هي قصة صراع بين الذات الإنسانية والله‏ .

 

(عزيزي القارىء ادعوك لقراءة سفر يونان و تأمله)

 

من هو يونان النبي؟

 

يونان اسم عبري معناه “حمامة” وهو ابن أمِتَّايَ، وأحد أنبياء إسرائيل (يونان ١: ١)، وكان من مدينة جت حافر في سبط زبولون (2مل 14: 25). كان نبي في مملكة إسرائيل (المملكة الشمالية) وتنبأ في الفترة بين ٧٣٥-٧٩٣ ق.م. حيث عاصر يربعام الثاني. ويذكر سفر الملوك الثاني أنه قد تنبأ بأن يريعام بن يهوآش ملك إسرائيل سيرد تخم إسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة (خليج العقبة).

 

 

يونان المتمرّد

 

كلف الله يونان بالذهاب إلى نينوى، ‏والمناداة بهلاكها‏، ‏وكانت نينوى عاصمة كبيرة فيها أكثر من ١٢٠‏ ألف نسمة، ولكنها كانت جاهلة وخاطئة جدًا. ولكن بدلاً من الذهاب إلى نينوى التي تقع إلى الشمال الشرقي من السامرة ذهب إلى يافا – مدينة على البحر – وأخذ سفينة ذاهبة إلى ترشيش والتي تقع إلى غرب مدينة السامرة فى البحر المتوسط.

 

 

لماذا هرب يونان من وجه الرب؟

 

هرب يونان من وجه الرب لعدة أسباب ، وهي :

 

١ -كان يونان يعلم أن الله ”إله رحيم ورؤوف، طويل الأناة كثير الرحمة والوفاء“ (خروج ٣٤: ٦) ولذلك إذا تاب أهل نينوى سيصفح الله عنهم وهكذا يتراجع عن كلمته وغضبه، على مذبح رحمته ومغفرته.

 

٢ -كان اليهود يعتبرون أن الله "يهوه" هو إلههم الخاص، كما كانت لكل أمة آلهتها، ولذلك كانت فكرة أن يهوه يطلب خلاص وتوبة الأمم غير مقبولة بالنسبة لهم.

 

٣ -البعض يرى أن هروب يونان كان إعلان لرفضه القيام بهذه المهمة وليس الهروب من الله ذاته وهكذا يرسل الله شخصاً آخر غيره، فهو أعلن أنه يؤمن بأن الله هو ”إله السماء الذي صنع البحر واليَبَس“ (يونان ١: ٩).

 

٤ -وهناك رأي آخر يقول أن يونان كان يعلم أن أشور هي الآلة التي سيستخدمها الرب لعقاب أمَّـته إسرائيل فأراد أن تفنى بسبب خطاياها بدلا من أن تبقى وتقضي على هذه المملكة .

 

 لم يشأ الله أن يصل يونان إلى ترشيش‏، ‏وإنما أمسكه في البحر‏، ‏وهيج امواج البحر عليه وعلى السفينة كلها. والعجيب أن يونان كان قد نام في السفينة نوما عميقا، لم ‏يقظه صوت ضميره، ولا صوت الامواج‏، ‏ولا صوت الأمتعة وهي تلقى في الماء‏.

 

نام يونان، و‏لم يفكر بإرادة الله ومشيئته، ‏ولم يهتم بنينوى وهلاكها أو خلاصها‏، ‏والذين في السفينة وما تجره عليهم خطيئته. ‏لكنه تمركز حول ذاته، ‏وشعر أنه حافظ على نفسه وكرامته فنام نومًا عميقًا .هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلى اخذ قرار حاسم من الله‏ ينقذ به ركاب السفينة جسديًا وروحيًا، ‏وينفذ مشيئته تجاه مدينة نينوى وخلاصها، ‏وينقذ نفس هذا النبي المتمرّد الهارب منه، ‏ويعلمه الطاعة والحكمة‏. ‏مستبقيًا إياه في خدمته بطول أناة عجيبة، ‏على الرغم من كل أخطائه.

 

وهكذا استخدم الله خليقته غير العاقلة من جماد وحيوانات: الموج، الرياح‏، البحر‏ والحوت، ليبكت خليقته الإنسان العاقل. أمر الله الرياح‏، ‏فهاج البحر و‏أمواجه، ‏وصدمت السفينة حتى كادت تنقلب‏. ‏وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين. ‏وبذلوا كل جهدهم لينقذوا أنفسهم، فبدأوا يصلون، كل واحد منهم إلى إلهه. وأخذوا يطرحون  الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم الأحمال الثقيلة. ولكن، الوحيد الذي لم يذكر الكتاب المقدس أنه صلى كباقي البحارة، ‏كان يونان‏. ‏وحتى بعد أن نبهوه، وبخه قائد السفينة، ‏لم يلجأ إلى الصلاة‏. كأن عناده أكبر من الخطر المحيط به. وعندما ألقوا قرعًا ليعرفوا من هو سبب المصيبة، أصابت القرعة يونان.

 

 

خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر واليبس“ (يونان ١ :٩)

 

اعترف يونان أنه خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر واليبس. إذًا، فهو يؤمن بسلطان الله على الخليقة كلها ولكن كبريائه كان ما يزال يسيطر عليه. ‏كان يونان يدرك الحق‏، ‏ومع ذلك تمسك بالرفض، ‏من أجل الكرامة التي دفعته إليها الكبرياء، ‏فتحولت إلى عناد. قالوا له: "‏ماذا نصنع بك ليسكن البحر ويهدأ فنطمئن على مصيرنا؟ ‏أجابهم‏: ‏خذوني واطرحوني في البحر".

 

على الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية، ‏لم يتراجع يونان‏ عن كبريائه وعنادئه. ‏لم يتواضع ويقول أخطأت يا رب في هروبي، ‏سأطيع وأذهب إلى نينوى. ‏فضّل أن يُلقى في البحر، ‏ولا يقول أخطأت‏ إليك يا رب. لم يستعطف الله‏، و‏لم يعتذر عن هروبه، و‏لم يعد بالذهاب‏. ‏أمام كل هذه الإنذارات، لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله‏. ‏لقد فضّل أن يموت بكرامته دون أن يتراجع عن كبريائه وتسقط كلمته‏. ولهذا القوه في البحر‏.

 

 

الله ينفذ مشيئته

 

مشيئة الله كانت لابد أن تنفّذ‏. ‏فهل ظنّ يونان أنه سيعاند الله و بعناده سينتصر؟

 

هيهات، ‏لا بدّ أن يذهب إلى نينوى مهما هرب، ‏ومهما غضب‏.

 

إنّ الله سينفذ مشيئته سواء أطاع يونان أو عصى‏، ‏ذهب أو هرب‏…‏

 

أُلقي يونان في البحر‏، ‏وأعدَّ الرب الإله حوتًا عظيمًا فابتلع يونان‏.‏ وكأن الله يقول له: "يا يونان‏، ‏صعب عليك أن ترفض أوامري‏. ‏إن شئت فبقدميك تصل إلى نينوى‏. ‏وإن لم تشأ فستبقى في البحر بين عصيف الرياح والأمواج وضربات الحوت‏. ‏

 

 

صلاة يونان

 

في جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة‏، ‏ففكر في حاله‏. ‏إنه في وضع محرج، لا هو في حياة‏، ‏ولا هو ي موت‏. ‏وعليه أن يستسلم إلى مشيئة الله وإرادته ويتحاور معه، ‏فبدأ يصلي. ‏إنه لا يريد أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها‏، ‏وفي نفس الوقت لا يريد أن يبقى في هذا الوضع . ‏فأخذ موقف العتاب، ‏وقال: ‏"إلى الرب صرخت في ضيقي ‏فأجابني، من جوف مثوى الأموات استغثتُ فسمعتَ صوتي. ‏لقد طرحتني في العمق‏، ‏طردت من أمام عينيك، لكني سأعود أنظرُ هيكل قدسكَ" (يونان ٢: ٢-٥).‏

 

إن الله لم يضع يونان في الضيق‏، ‏ولم يطرحه في العمق‏, ‏ولم يطرده ولكن خطيئة كانت هي السبب الفظيع‏.‏

 

هو الذي أوقع نفسه في الشدّة، ‏ثم اشتكى منها، ‏ونسب تعبه إلى الله‏. ‏ولكن بالعودة إلى ذاته، وفحص ضميره رجع إلى إيمانه وهو في بطن الحوت‏. ‏فآمن أن صلاته ستستجاب، ‏وقال للرب‏: "سأعود أنظر هيكل قدسك"‏. لقد ‏آمن أنه حتى لو كان في جوف الحوت، ‏فلا بدّ أن يخرج منه ويرى هيكل الرب‏.

 

أتت هذه الصعوبات التي مرّ بها يونان بمفعولها‏. ‏ونجح الحوت في مهمته‏. ‏وقد تبيّن أن يونان نذر نذرًا  إن خرج من جوف الحوت، ‏سيذهب إلى نينوى لأنه قال للرب وهو في جوف الحوت "أما أنا فبصوت شكر أذبح لك‏، وما نذرته أُوفي به. من الرب الخلاص! فأمر الربُ الحوتَ، فقذف يونان إلى اليابسة" (يونان ٢ : ٩).

 

 

"قم انطلق إلى نينوى"

 

‏لما قذف الحوت يونان إلى البر اليابس‏، كانت كلمة الرب الى يونان ثانية قائلاً: "قم انطلق إلى نينوى المدينة العظمى وناد عليها المناداة التي أُكلمك بها" (يونان ٣: ١-٢). فنفذ نذره، ‏وذهب إلي نينوى‏. ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطرًا، وليس بقلبه راضيًا‏. ‏ذهب من أجل الطاعة، ‏وليس عن اقتناع‏، والدليل على ذلك أنه لما تاب أهل نينوى وندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه، فساء الأمر يونان مساءةً شديدة فغضب (يونان ٣: ١ حتى ٤: ١).

 

 

الله يبكت يونان

 

عاتب يونان الله، ‏وبرر ذاته، ‏وظنَّ أن الحق معه‏. ‏فصلي إلى الله وقال‏: "أيها الرب، ألم يكن هذا كلامي وأنا في  أرضي؟ لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، فإني علمت أنك إله رؤوف رحيم بطيء طويل الأناة وكثير الرحمة ونادم على الشر" (يونان ٤: ٢).

 

غضب يونان من أجل محبة الله ورحمته وقبوله توبة أهل نينوى ونسي أنها نفس المحبة التي قبلت توبته عندما كان فى بطن الحوت. ولذلك قال أحد الآباء "إذا وجدت أن الله يطيل أناته على من أساء إليك لا تحزن بل تذكر أن الله أطال أناته عليك من قبل عندما أسأت أنت إلى آخرين".

 

خرج يونان وجلس شرقي المدينة ليرى ماذا يحدث فيها. ‏كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة؟‏!

 

ولكن الله للمرة الثانية يستخدم خليقته غير العاقلة من جماد وحيوانات: الخروعة، الدودة، الرياح، والشمس ليبكت الإنسان. فجعل الخروعة ترتفع فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه، وفي الصباح أرسل دودة فضربت الخروعة فيبست، ثم أرسل ريحًا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان فأُغمي عليه. وعندما يتذمر يونان يبكته الله قائلاً: "لقد شفقت أنت على الخروعة التي لم تتعب فيها، أفلا أشفق أنا على المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من أُناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم، ما عدا بهائم كثيرة؟" (يونان ٤ : ١٠ – ١١).

 

 

يونان النبي رمز للسيد المسيح

 

يونان يرمز لموت السيد المسيح وقيامته، فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا أيضًا كان السيد المسيح في القبر ثلاث أيام وثلاث ليال.

 

صوم يونان الثلاثة أيام، ترمز رمزاً مباشراً لموت وقيامة السيد المسيح، كما قال السيد المسيح نفسه: "فكما بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ فكذلك يبقى ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. رجال نينوى يقومون يوم الدينونة مع هذا الجيل ويحكمون عليه، لأنهم تابوا بإنذار يونان، وههنا أعظم من يونان" (متى ١٢: ٤٠–٤١).

 

يونان كان رمزًا ثانيًا للسيد المسيح "فكما كان يونان آية لأهل نينوى، فكذلك يكون ابن الإنسان آيةً لهذا الجيل" (لوقا ١١: ٣٠).

 

نصوم صوم يونان تمهيديًا للصوم الكبير المقدس، ويرجع ذلك إلى أن الصلة بين الصومين هي أن السيد المسيح صام أربعين يومًا على الجبل كإستعداد لرسالته التبشيرية بالملكوت السماوي وخدمته التي كللها بموته على الصليب فداءً لخلاص البشرية. وهكذا صام يونان استعدادًا لدعوة مدينة نينوى للتوبة .

 

 

"وَأَمَرَ الرَّبُّ الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى الْبَرّ"

 

في هذه الآية، أخذ يونان درسًا في الرحمة. فها هو الحوت يلقيه دون أن يؤذيه.

 

فكيف يرفض هو خلاص أهل نينوى؟

 

البحارة أعطوه درسًا والحوت أعطاه درساً آخر. هذه الآية نبوة عن قيامة المسيح بعد ثلاثة أيام من دفنه. فما كان ممكنًا للقبر أن يظل مغلقاً عليه؟ "لأنك لا تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادًا (مزمور ١٦: ١٠)، فيونان رمز للمسيح يسوع.