موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثاني عشر (الإنجيل مر 4: 35-41)
الأطفال، على بساطتهم، لا علم لهم بالعالم القديم. ففي درس الدّين عن قصّة هيجان بحيرة طبريا، التي سمعناها، كان مُدرِّس الدّين الكاهن الشاب، قد أحضر معه صورة للسفينة المهدّدة بالغرق من الأمواج العالية حواليها، أراها للطلاّب وسـألهم: ما هي أوّل فكرة، تخطر على بالكم، عند مشاهدتكم هذه الصّورة؟ فرفع واحد إصبعه وقال: إنشاءالله مؤمَّنة مثل باقي السفن، عند شركة تأمين والدي!
اليونان القُدامى، كانوا يعتقدون أنَّ ركوب السّفن، كان يعني دائماً، تعريض الحياة للخطر. وأن العواصف والأمواج تسببها الآله الكثيرة التي كانوا يؤمنون بها. فهي إلآله، التي كانت تسبّب حدوث تلك العواصف، لتُهلك أتباع الألهة الأُخرى، فتتصارع هذه الآله ضد بعضها البعض. من هنا خرافات أبطالهم الشعبية المعروفة، التي كانت تحدث على البحار، يتبارز فيها آلهتهم على بعضهم البعض (Odysseus Zeuz) وغيرها.
السفر في عرض البحار خطير، ويجب أن بعيشه الإنسان مر ّة في حياته، حتى يفهم موقف الرّسل من الخوف والهلع الّذي أصابهم، كما يصفها إنجيل اليوم. يُقال إنَّ صيادي السمك البريطانيين، يحسبون حسابا لأمواج البحر حواليهم، ومخاطِرِها، فهم، حينما يصعدون في القوارب، يقفون لحظة أمام برواز مُعلَّقٍ في كل قارب، ليتلوا هذه الصلاة القصيرة: إعتني بنا يا رب، إذ البحر كبير وأمّا قاربنا فصغير!. إن أوّل خبرة يعيشها الإنسان، هي عادة الخوف. لا حاجة لنا لتعداد أسباب وأنواع الخوف، لكن أكبر عدوٍّ يحسب له الإنسان حساباً، هو فعلا الخوف على حياته وحياة عائلته من عوامل الطبيعة. زلزال، حرائق، فيضانات وطوفانات، كالّتي حدثت مع نوح، أو مع النبي يونان!
مَن صَدَفَ وعاشَ مرّة، هيجان البحر مثل هذه الواقعة، وقد عشتها بنفسي عام 1975، حتى في سفينة ضحمة في طريق عبورنا من حدود بلجيكا إلى إنجلترا، فكانت الأمواج التي تلتطم بالسفينة أعلى منها بأمتار،فتهتزّ كلعبة في مهب الرّيح. فلم نقدر أن نبقى واقفين أو جالسين، بل قد أصابنا دوخان البحر المعروف، وارتمينا كلّنا على الأرض. وبعد كل لطمة موج بالسفينة كان صراخ الخوف يعلو. أقول، مَنْ عاش مثل هذه الأمواج، يقدر أن يفهم هلع وانزعاج الرّسل، في قاربهم الصغير، حيث ما كانت جمعيات الإنقاذ ولا سفن الـS.O.S معروفة. ماذا يفعل الإنسان في تلك المواقف؟ طبعا الإستنجاد إلى الله، إذ الحاجة تُجبٍر على الصلاة. وهكذا فعل الرسل: ألا يهمُّك أنّنا نهلك؟ فهم كان لهم أكثر من سنتين برفقته. فهم يعتقدون أنّ مَن يقدر أن يقيم الأموات، ومن يقدر أن يشفي المرضى، ومن يقدر على تكثير الخبز، بل من يقدر ان يُحوِّل الماء إلى خمر، لا بدَّ أنّه يمتلك في جعبته، مخرجاً لحالة اليأس هذه، وبالتّحديد، يقدر أن يُسكِّن الأمواج. إذ هم بالرّغم من كلِّ هذا، كانوا يشعرون بنفوسهم في حمايته الأكيدة الأمينة. هو معهم وهم في حمايته.
إنَّ هيجان البحر هو رمز لكل المخاطر والعِلل والويلات والعواصف، التي تحيط بنا وبحياتنا. وأكبرها اليوم العاصفة ضد الإيمان واضطهاد المؤمنين، بطريقة أشنع منها في زمان نيرون او الشيوعية في القرن الماضي. أضف إليها العواصف الحديثة في زماننا نحن، كالكورونا المُتعدِّدة الوجوه، من إيدز وسرطان وحمّى الخنزير، والمناوشات والحروب، والفقر والجوع، والإنفلاتية في الأخلاق ..ألخ، التي أصبح عالمُنا الجميلُ مسرحَها الواطي في السنين الآخيرة؟ هذا ومن زمان الرّسل، أصبح هذا الحادث رمزا لما يحدث للكنيسة من اضطهادات وتهجمات وإشاعاتٍ لتشويه سمعتها. فلا يجوز أن يغيب عن بالنا، من هو الّذي يقدر أن يساعدنا، حينما تحلُّ هذه النكبات؟ لكن أما قال الله في أشعيا: لا تخف! لأني معك. لا تقلق فإني إلهك" (أش 10:41) وأما قال يسوع: لا تخف أيُّها القطيع الصّغير، فأنا معكم كل الأيّام وإلى منتهى الدّهر. وفي مكان آخر قال: إني قد غلبت العالم؟ إذن هو المخلًّص والمُنجّي من كلِّ النّكبات. لكن لا يحقُّ فلا يجوز لنا أن ننسى: أن الله قريبٌ منّا، وهو لا يتركنا، حتى في أتعس الساعات. حينما اسستنجد التلاميذ: يا رب! ألا يهمّك أننا نهلك؟ أجابهم يسوع:- ما بالكم خائفين؟ إلى الآن لا إيمان لكم؟ وهذا ما يقصده الله منّا، حينما نفتكر أنه ينسانا. بل بالعكس، هو يرسل لنا بعض المواقف المُحرجة، لنُعلن فوراً إيماننا به. إنَّ الله قادرٌ أن يُسكِّن كلَّ عاصفة، إن أعلنّا له إيماننا وثقتنا به، في كلِّ مأزق نقع فيه.
بمحاذات آثار كفرناحوم وعلى شط بحيرة طبريا، دشّن الآباء الفرنسيسكان يوم 29 حزيران عام 1990 كنيسة جديدة من أجمل كنائس الأرض المقدّسة، أعطوها اسم كنيسة سفينة بطرس، وهي شكلا وهندسةً كالسفينة. من داخلها، يسمع الإنسان خرير الماء بل ويرى على مدٍّ العين، تموجات هذه البحيرة، التي إن ثارت تلتطم بجدران الكنيسة، يستغلّها الكهنة المرافقين للسواح بالإحتفال بالقداس فيها. إنها لمناسبة مؤثرة تفوق الوصف.
قصة هيجان بحيرة طبرية بهذه الطريقة هي ليست نادرة، فعلماء البحار أثبتوا أنها فريدة من نوعها في العالم، ومعرّضة أكثر من غيرها، بحكم تواجدها من جهتين بين جبال، ومن الجهتين المقابلتين مفتوحة، لتقلبات الهواء وقوّته. ويقولون أن هذه الأمواج تحدث عليها فجأة، فيكفي مثلا أن تنزل درجة الحرارة فجأة أو أن يحل ريح شديد، فتحدث عليها الأمواج الخطيرة. وقد فسّروا ذلك عن أسمها، فبحيرة جينازاريت هي بشكلها كآلة الموسيقى الكُمان. فحيثما أصابها إصبع عازف، تُطلع صوتا. وهكذا مع الريح، فحيثما هبّ، تقوم الأمواج العالية، كما هو مذكور في قصة اليوم.
أما في هذا اليوم، فكان هيجان البحيرة، ليس فقط غيرَ اعتيادي، بل غريبا ومخيفاً، لم يسبق له مثيل. فالتلاميذ وعلى رأسهم بطرس، كصيّادين كانوا خبيرين بمثل هذا الموقف. لكنّه اليوم بدا مُفتعَلا، وهو كذلك، وإلاّ كيف نُفسِّرُ موقف يسوع، يختار آخرَ مقعدٍ في القارب، ويتظاهربالهدؤ، وبأخذ غفوة عميقة، وهي المرّة الوحيدة، التي يذكر فيها الإنجيل أن يسوع خَلَدَ إلى النوم، كأنّ ما لديه علماً بالحدث، بل أيضاً يلوم تلاميذه، على هلعهم، لأنّهم أزعجوه بالضجيج والصراخ، ليسرع لنجدتهم. لقد خلّد الفنّانون هذه الواقعة على مدى التاريخ برسوماتٍ لا تُحصى ولا تُعدّ.
لقد استغلَّ يسوع المناسبة، أقلّه للمرّة الثانية، وعلى نفس القارب، أن تحدث أمواج شديدة. المرّة الأولى مع بطرس، الذي طلب منه يسوع أن يقفز ويلاقيه في عرض البحيرة، مشيا على الأقدام، فحدث مع بطرس ما حدث، هو الخبير في السباحة والتّعرّض للأمواج، أثناء صيد السمك. والمرّة الثانية اليوم, وذلك ليمتحن مدى ثقتهم وإيمانهم به، من بعد ما أمضوا ما يُقارب السنتين برفقته وبقربه. أما قال المثل: الحاجة تُعلِّم الصّلاة؟ وهذا هو درس هذا الحدث.
أنا أعتقد أنّه لو عاش يسوع في زماننا المضطرب، بأمراضه وحروبه، داخليا وخارجيّا، لما تركناه يهدأ ساعة، ولكُنّا ليل نهار نلومه: ألا يهمُّك أنّنا نهلك؟
ألا يهمُّك موت أو تيتّم آلاف الأطفال من الحروب الدائرة؟ ألا يهمُّك ملايين الجوعانين، في أسيا وأفريقيا؟ ألا يهمُّك أنَّ الكنائس منشقّةٌ على بعضها؟ ألا يهمك أن آلاف النساء يذقن العذاب والموت بسبب اغتصابهن واستعبادهن، في بلاد لا تعرف قيمة للمرأة؟ ألا يهمّك ملايين العاطلين عن العمل وما بيدهم حيلة لعيشة كريمة وإمكانية إطعام أفراد عائلاتهم؟ ألا يهمّك مصير الملايين من اللاجئين والمشرّدين من بيوتهم وأوطانهم؟ ألا تهمُّك اضطهادات داعش للكنيسة؟ ألا تهمك الحروب الدائرة وآلام الملايين منها؟ ألا يهمّك انتاج وتهديد وجود الأسلحة النووية جوّاً وبرّاً وبحراً حوالينا؟ ألا يهمُّك قتل آلاف الأطفال الغير مرغوبٍ فيهم، حتّى قبل مولدهم؟ ألا يهمّك التّخلُّص من المُعوقّين والمسنين، إذ هم يُعتبرون عالة على المجتمع؟ وبالتّالي، ألا يهمّك تلوث الطبيعة وعدم المسؤوليّة بشأنها؟ وماذا نقول له عن بلوة الكورونا وتوابعها في جميع أنحاء العالم ومن سنتين تقريبا؟ ألا يهمُّك كلُّ هذا وغيره؟....ألخ...
بالطّبع نحن لم نغرق بعد، لكن الوضع العالمي لا يبعث على الإطمئنان، إذ كل الأحاديث تدور حول الهموم والمخاوف الواقعيّة: هموم الأهل بالنسبة لمستقبل أولادهم. هموم الخوف من المرض، أو من الوحدة أو الموت الفجائي. هوم الفقر
ما يجب أن نعرفه، أنّ الله، لا هو طاغية، ولا هو أطرش، لا يهتم لا بمشاكلنا ولا بمصائبنا، بل هو غير ما أعطونا الفكرة عنه، أي كشرطي يقاصص أو يُكافئ حالا، بل هو أب البشر أجمعين. له أذنٌ صاغية لكلِّ المطاليب. فهو هو الذي كان يتجوّل في مناطق يهوذا والجليل والسّامرية، ويشفي كلَّ مريض طُلِبَ منه الشفاء منه، بشرط إعلان الإيمان به: إذ هو كان يسأل المتوسّل إلية: هل تؤمن؟ فمن كان يُعلِن إيمانه، كان يسوع يشفيه.
تصرّف الله معنا، لا يختلف عن تصرُّفه مع محتاجي زمانه. وإن احتياجاتِنا كلَّها هي من فئة الإحتياجات، التي لا تنحل أو تزول، إلاّ بمساعدته تعالى، كالعاصفة التي حلّت بالسفينة، التي سمعنا عنها اليوم. فهو لم يُهدِّئ العاصفة من تلقاء ذاته، ولو كان قادرا أن يفعل ذلك، بل انتظر من الجالسين فيها أن يطلبوا منه النّجدة، حتّى يُشرِكهم شخصيّاً، أوّلا بالطلب: يا سيد! نجِّنا فقد هلكنا! وثانيا بالإستفادة ممّا سيفعل لهم. الإطمئنان والإتكال عليه في كلِّ شيء.
إنني لمتأكِّد أنَّ الله، عندما يُقرِّر أن يساعدنا، يرسل لنا أيضا مأزقا (عاصفة) من عنده، يُرغمنا فيها، على أن نرفع صوتَنا ونرجوه مساعدتنا، لنخرجَ منه سالمين، إذ نحن نعلم أنَّ العواصف، التي تأتي من عنده، لا تهدأ إلاّ بتدخُّلِه. فنحن كالتّلاميذ، يجب أن نعلم ذلك، وأن نضع ثقتَنا به، وأن نُعلِن إيماننا علناً به، فساعتها تأتينا النجدة، كما يقول صاحب المزامير: معونتنا باسم الرب!
إن الله ما أرسل ابنه إلى العالم، كي يُهلِك به العالم، بل ليخلِّص به العالم. إن يسوع هو مخلِّص العالم من كلِّ أمراضه ومخاوفه "إذ ليس يأحدٍ غيره الخلاص. لأنْ ليس إسم آخر تحت السّماء قد أُعطيَ بين النّاس، به ينبغي أن نخلص" (أعمال 12:4).
مرقس، الذي كتب قصّة اليوم، هو يكتب عن خبرة: أن الشّرَّ الذي نقع فيه، هو على الأرض، لكن النّجاة تأتي من فوق، من عند يسوع، الذي قال: "إني قد غلبتُ العالم، وأنتم أيضا ستغلِبون". لكنه لا يمدّ يده لينتشلنا، إلا عندما يسمع من فمنا، نداءَ النّجدة. أما سأل تلاميذه: أإلا الآن لا إيمان لكم؟ صوتُه فقط يُسَكِّن الرّيح والعواصف. بل وجودُه قربنا يصدُّ كلَّ أذىً عنا. معونتنا باسم الرّب. آمين.