موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٨ أغسطس / آب ٢٠٢١

يا رب! إلى من نذهب؟ إنّ كلام الحياة الأبدية عندك

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
يا رب! إلى من نذهب؟ إنَّ كلام الحياة الأبدية عندك

يا رب! إلى من نذهب؟ إنَّ كلام الحياة الأبدية عندك

 

الأحد الحادي العشرون (الإنجيل يو 6: 60-69)

 

ممّا لا شكّ فيه، أنَّ الكنيسة هي من أقدم وأثبت المؤسّسات الإجتماعيّة، على غرارِها تأسّست لاحقا كلُّ المؤسسات الأخرى. فمبدئيّا، بما أنها أقدم مُؤسسة، فمن المفروض إذن، أن يكون المنتسبون إليها كلُّهم مؤمنين، وأن يكون الإيمان منتشرا بلا حدود، حيثما انتشرت هي. لكن الواقع لا يتطابق مع هذا المبدأ. فمن هنا السّؤال:

 

-ما السبب، أن الدّيانة المسيحية، والتي تقول عنها الأكثريّة، إنّها جيّدة ومُمتعة، لا تنتشر وتتوسّع إلاّ ببطء\؟ فهل السبب هو مؤسِّسُها المُرْسِل؟ أم هم مستقبِلوها، المُرسَلَةُ لهم(أي البشر)، أم بالتّالي تبعثر تعليمِها في عدة أناجيل، لا متكاملة، بل يفتكرها البعض معاكسة لبعضها البعض؟

 

جواباً على هذه السّؤالات؟ يجب أن نُعطي. لكن لا يجوز أن يكون تكهُّنات. أو من مصدرٍ بعيد، بل الجواب الصحيح، هو من التوراة نفسِها، من عهديها، القديم والجديد. فهما متطابقان في نقطة، ولو كان بينهما آلاف السنين. فيهما نجد، أنْ ليس كلُّ البذار، يقع على أرض صالحة، ويُعطي ثمراً مئة بالمئة. كما أنّه ليس كلُّ عملٍ جيّدٍ يأتي فوراً بنتيجة جيّدة. من لا يتذكّر بهذا الخصوص حزن يسوع على أورشليم، التي بذل نفسه لأجلها، وأرسل لها عدّة أنبياء لإنذارها، لكن منهم مَن رُفِضوا، ومنهم مَن قُتلوا بين الرّواق والهيكل (لو34:13). وكم حاول هو أن يُغيِّر أفكار كهنتها ورؤساء شعبها، ويردَّهم إلى الصّواب، كم أراد أن يجمعهم كما تجمع الدّجاجة فراخَها تحت جناحيها، ولم يُفلِح: يُخرجون قوانين لغيرهم أما هم فلا يلمسوها برأس إصبعهم، وبالتالي تنبّاَ بخراب الهيكل وتدمير أورشليم، ولن يبقى فيها حجرٌ على حجر.

 

من هنا نستلخص أن السّبب في تباطؤ انتشار الديانة ونجاحها، لا هو الله، ولا هو تعليم الدّيانة نفسها، إذ من يقول هذا، يريد أن يتهرّب عن مسؤوليتِه. بل هم البشر أنفسهم، الّذين يرفضون دعوة حضور العرس لأسباب تافهة. وهم ليسوا فقط البشر عموما، بل المسيحيون الفاترون، والذين لا تفكير لهم، لا يعرفون ما هو الخير وما هو الشر، ليفعلوه أو يتحاشوه، كالجنود الأُمّيّين، الّذين لا يفرّقون يمينهم عن يسارهم. إنَّ المُرسِل، أي الله، ورسالتَه، أي إنجيل البشرى المُفرحة، هي أسمى الحقائق بين أيدينا. أما قال يسوع: الشجرة الجيّدة تأتي بثمار جيّدة. فالسُّؤال الآن: إن لم تُعطِ الدّيانة المسيحيّة ثمراً جيّدا، فهل الخطأ من الشجرة الجيِّدة؟

 

الإنسان كان منذ البداية، ميّالا للتحرّر من الخضوع لله والقبول بوصاياه. هو يؤمن بالله وتعاليمه، لكنّه لا يأخذُها مأخذ الجِدّية، ولا يعتبرها مُلزِمَة للخلاص، لذا فالإيمان غير فعّال في الحياة اليومية، بل هو للمناسبات كمحطّة البنزين، يمكن لأربع مرات في الحياة فقط: العماد، المناولة والتثبيت، الزواج والموت، وهي خدمات مجّانيّةٌ من الكنيسة. يَتْرُك نفسه يُخدَم منها ولا يَخدُمها. هذا وإن حاولت هي مرّةً، أن تُعلِّم عكس مشاعره ومطالبه الشخصيّة، فلا تُلاقي منه ومن غيره إلا الإنتقادات، بأنّها رجعيّة ولا تُماشي روح العصر، كأنّها حِزبٌ سياسي، يجب أن يُماشي أذواق المنتسبين إليه. فهم يطلبون أن يتماشى الإيمان مع رغباتهم، لا العكس. كما كانت ردة فعل المستمعين لخطابات يسوع: هذا كلام قاسٍ، من يقدر أن يسمعه! ناسين أو مُتناسين ما قاله يسوع في مكان آخر: "من أيّام يوحنّا المعمدان إلى الآن، ملكوت الله يُغصب، والغاصبون ينالونه" (متى 12:11). هذا العصر أسموه عصرَ الأزمات، وأكبرها، أزمة الإيمان، وكتبوا عنها الكثير، منه كتاب ناجح بعنوان: هل للديانة المسيحية من مُستقبل بعد؟. وكتاب ثاني بعنوان: لماذا أنا أبقى في الكنيسة. ومع ذلك فكل واحد منّا، مُلزّمٌ أن يأخذ قراراً حاسماً، أيَّ إله يريد أن يتبع ويعبد، ولا يبقى متردِّداً. أما جاء في كتاب الرؤيا: "انا عارف أعمالَكَ، أنك لست بارداً أو حارّاً. ليتك كنت بارداً أو حارّاً. هكذا لأنّك فاترٌ، ولست بارداً ولا حارّاً، فأنا مزمع أن أتقيّأك من فمي" (رؤبا 3: 15-16). وهذا ما أكّده يسوع بقوله: من ليس معنا فهو علينا! ويسوع لا يعرف التّردد: فإمّا الخلاص الأبدي أو الحكم الأبدي. إمّا عبادة الإله الحقيقي، إله الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، الذي طلبه يوشوا، خليفة موسى 1400 سنة قبل مجيء المسيح المخلص، من أهل سيشم، شمال أورشليم، الّذين كانوا مترددين بين قبول آلهة الكنعانيين الأوثان. أو السؤال: هل أنتم أيضا تريدون أن تتركوني: فأجاب بطرس باسمنا جميعا: يا رب إلى من نذهب؟ إن عندك كلامُ الحياة الأبدية.

 

ما عاد تعليم الكنيسة مسموعا مقبولاً بسهولة أو بلا انتقاد. هذا ينتقد وصية حضور الصلاة آخر الأسبوع، وذاك قانون الصوم. هذا يعترض على عدم الطلاق أو الإصرار على بركة الزّواج، حتى يكون مُعترفاٌ به كسرٍّ مقدّس، وذاك يعترض على الإلتزام بمعمودية الأطفال، بحُجّة، الكنيسة تتدخّل بحياتي الشخصيّة، وتُحدِّد من حرّيّتي. يا تُرى من قال، إنَّ تدخُّل الكنيسة هو تَعسُّفي وتدخّلٌ في الحباة الشخصيّة؟ فهل على الكنيسة، أن تقف مكتوفة الأيدي، أمام الّذين يطرحون الدُّرر أمام أقدام الخنازير (متى 6:7)، ويتعدّون على وصايا الله وتعليم الإيمان. فهي الأم المسؤولة عن تصرّف أبنائها، ما داموا في حمايتها. فهل عليها أن تخون وظيفتها وتصمت؟ لا، قال بطرس لقياقا ورئيس المحفل، لا، لا نقدر أن نصمت، لأنَّ الله أحقُّ من النّاس بأن يُطاع ( أعمال 19.4).

 

كما وإني شخصيّاً أجد من مُعوِّقٍ آخر، لعدم انتشار الدّيانة بالسرعة، التي نتمنّاها، وهو قائم على ما جاء في كتاب الرؤيا، أي الفتور والمثل الرديء عند حامليها، وهم كثيرون، ابتداءً من الأهل، الّذين إمّا إنهم  لا يهتمّون بتربية أبنائهم الدينية، بل هم أنفسهم لا يهتمون بممارسة الدّين، فيُعطون بذلك لأولادهم المثل الرديء، إذ هؤلاء يأتيهم الإنطباع بأن الدّين ليس مُهمّاً للحياة اليومية، علماً بأنَّ الحياةّ اليوميّة لا تستغني عن الدّين. هذا وماذا نقول عن دور المربّين الآخرين، في المدرسة وفي الرّعية. أما قال المثل. أحسن كتاب التربية الدينية هو المعلِّم. فما هو موقفه من الدّين، الّذي يريد أن يوصله للأجيال، التي هو مسؤولٌ عن تربيتها ومستقبلها؟. وهل ننسى دور الكاهن في رعيّته، فإنَّ حياته ومثل معيشة إيمانه أمام أبناء رعيًته، لها وزنها في تنمية إلإيمان فيهم. من مدّةٍ ليست بعيدة، حُرم كاهن بروتستانتي في مدينة هامبورج من منصبه، لأنه في وعظته ليلة عيد الميلاد، شدّد على أنه لا يستطيع أن يُؤمن بألوهيّة يسوع، فكم بالحري ببتولية أمِّه مريم، الّتي ما هي إلا امرأة من الشعب، حبلت وولدت بيسوع كأي امرأة أُخرى. فما هو انطباع الرّعية يا تُرى، أمام إيمان كهذا مشكوكٍ بأصله ووجوده؟. وهل المنبر هو المكان المُلائم لإعلان الإلحاد وإنكار العقائد الدّينية الموحاة؟. إنّ الكاهن، بحكم مسؤوليته ووظيفته الرّوحية، يُمثِّل، بأقواله وأمثاله، إيمان الكنيسة ورسالتَها الإنجيليّة. فما يقوله ويُقدِّمه في حياته عن الكنيسة، هو الشهادة الصحيحة أو الخاطئة عنها. إن الشهادة التي يؤديها سواء الكاهن أو المؤمن عن الكنيسة ورسالتها في حياته، بوسعه أن يُقدّم أو يُؤخِّر انتشار الديانة في العالم. أيها العبد الأمين! أدخل إلى فرح ربّك. لقد كنت أمينا في القليل، فسأقيمك على الكثير. يا رب لمن نذهب إن عندك كلام الحياة الأبدية. يا آمين