موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

هناك الحُبّ وذلك يكفي

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
17 أيلول: عيد سمات القديس فرنسيس الأسيزي

17 أيلول: عيد سمات القديس فرنسيس الأسيزي

 

١٦ سبتمبر/أيلول ١٩٤٤، رأت ماريا فالتورتا القديس فرنسيس ينال سماته من الرب يسوع :

 

أرى سماء أيلول من الأنقى، وهضبة وسط مُنحدرات جبال عالية، مكسوة غابات وصخرية جداً.

 

فوق، فوق السماء النقية الشديدة الزرقة، أحدِّق في شخصٍ وهّاج يبدو غير مُكوَّنٍ إلا من نارٍ متوهِّجة.

نار سطوعها أكثر حدّة من سطوع الشمس...

 

كائن النار هذا لابسٌ ريشاً. أُوضِح فكرتي.

كأنه ملاك، لأن جناحين هائلين يحفظانه مُعلّقًا في الهواء، جامدًا...

هذان الجناحان الهائلان المفتوحان يُشكِّلان القطعة المُعترضة لصليبٍ، يقوم له الجسد المُشِعّ مقام سند.

 

يبدو أن الرأس مكسوّ، هو أيضاً، بلباس الريش الغريب هذا. لأنني لا أراه.

أرى فقط في الموضع حيث كان يجب ان يوجد ذلك الوجه الملائكي، إنبعاثاً حادّ السطوع بحيث انني كما منبهرة به.

 

يجب أن أُفكِّر بأحد البهاءات التي رأيتها في الرؤى الفردوسية لأجد شيئاً ما مُشابِهاً.

لكن هذا أكثر سطوعاً بعد.

صليب الريش المُلتهِب ينتصب فوق السماء، جامداً، مُحافِظاً على سرّه.

 

أخٌ صغيرٌ نحيل، أتعرّف فيه إلى أبي الملائكي (القديس فرنسيس الأسيزي المُتأثرة به الكاتبة. وقد انتمت لاحقاً الى الرهبانية الفرنسيسكانية الثالثة)، يصلي راكعاً في العشب تحت، غير بعيدٍ عن مغارةٍ جرداء، خشنة، مُرعبة مثل صخرةٍ وعرة في جهنم.

 

جسده التالف يبدو عائماً في لباسه الرهباني، القاتم والعريض جداً بالنسبةِ الى أطرافه...

يداه الرقيقتا المعصمين،اللتين تنبسطان في وضع صلاة، مُصفرّتان: إنهما يدا شخصٍ مريض، ونحيل.

عيناه الكستنائيتان رائعتان. لكنهما لا تنظران إلى الأعلى. إنه يصلّي. عيناه جاحظتان، إلا أنه لا ينظر الى الخارج، بل إلى الداخل.

 

أجهل كيف، لِمَ ومتى يُلاحظ الصليب المُتوهِّج جامداً في السماء.

لا أعلم إذا جذبه، أو إذا تلقّى نداءً داخليّاً.

أعلم انه يرفع رأسه ويبحث بعينيه اللتين يُحرِّكهما الإهتمام الآن، وهو ما يؤكِّد إقتناعي بغياب نظره الخارجي سابقاً.

 

تقع عينا أبي الملائكي على الصليب العظيم، المُضطّرِم والوهّاج.

لحظةُ ذهولٍ، ثم صيحة:" ربّي!"، ويُعاود فرنسيس السقوط قليلاً على عقبَيه، لابثاً في نشوةٍ، وجهه مرفوع، باسمٌ وباكٍ دمعتَي غبطته الأوُلَيين، ذراعاه مفتوحتان على نحوٍ أوسع.

 

فجأةً، يُحرِّك السيرافيم شكله المُشِعّ، الخفيّ.

إنه ينزل، يقترب.

 لا يأتي على الأرض، لا.

إنه لا يزال عالياً جداً، إنما ليس كما قبلاً.

إنه في الوسط بين الأرض والسماء...

 

فرنسيس يضحك في نشوةٍ تامّة، يبكي يُشِعّ؛ إذّاك يفتح السيرافيم جناحيه، الموجودين نحو وسط الصليب.

وإذا بقدميّ ربّي الكُلّيتي القداسة، تظهران مُسمّرتين على الخشبة...

ثم انفتح جناحان آخران، عند رأس الصليب.

إذاك تعاني رؤيتي بفرحٍ هذا الإنبهار العنيف...

 

ها هو جذع المُخلّص يخفق ويتنفس... ثم، آه! ها هي النار التي تسمح بالنظر إليها وحدها نعمةٌ خاصة، نار وجهه الذي يظهر متى كفن الريش المُتلألئ مفتوحٌ تماماً.

إشتعال كلّ البراكين، النجوم وألسنة اللهب، مُحاطاً بستةِ أجنحةٍ سامية من لؤلؤ، فضة وماس...

 

ثم إن وجهه كما الثقوب الخمسة للجروح هي ما وراء كلّ مقارنة يمكن ان نصفها.

أفكر بالأشياء الأكثر تألُّقاً...إنه تراكم نور الشمس مضروباً عدداً لا يُحصى من المرات.

 

فرنسيس مال الى الوراء، وذراعاه مفتوحتان كُليّاً، تحت شمسه، الله المصلوب...

لا أسمع أي كلمة، لا من فرنسيس ولا من يسوع.

 

صمتٌ مُطلق، عميق...

لا شيء...

 

هناك الحبّ، وذلك يكفي.

 

يسوع ينظر ويبتسم لعزيزه فرنسيس.

فرنسيس ينظر ويبتسم ليسوعه...هوذا كلّ شيء.

 

لا بد ان أمراً من الكلمة مضى إلى جسده، والجسد يُطيع، لأن قسمات يسوع تغدو حاسمة، ونظرة عينيه مُهيبة كما عندما يُجري معجزة...

 

من الجروح الخمسة يُطلق خمسةَ سهام، عليّ أن أقول خمسةَ بروق صغيرة، تنزل في الهواء من دون تعرّج، بل عموديّاً وسريعاً جداً، ستّ إبر نور لا يُحتمل تخترق فرنسيس.

 

ليس لفرنسيس سوى تنهدةٍ، عميقة إلى حد أنها تُذكِّرني بالتنهدة الأخيرة للمنازعين. لكنه لا يقع.

يلبث برهة بعد في الوضع نفسه، حتى السيرافيم الذي لم المح وجهه أبداً-رأيت فقط اجنحته الستة- يطويها مثل حجاب فوق الجسد الكلي القداسة ويخفيه، بجناحيه الأساسيين يعاود الصعود دوماً أعلى في السماء...

 

إذاك يشعر فرنسيس بألم جروحه، وعلى نواحٍ، من دون أن يقف، يغيّر وضعه ويجلس أرضاً.

 

ينظر إلى يديه...يكشف قدميه، ثم يشق ثوبه على صدره. ثمة أقنية خمس وشقوق خمسة تركها الله ذكرى.

يُقبِّل فرنسيس يديه، يداعب الجنب والقدمين. يُتمتم باكياً:" آه! يا ربّي! يا يسوعي! يا له من حب يا يسوع! يا يسوع...يا يسوع..."

 

... يتوجّه نحو كهفه مُترنِّحاً مثل شخص جريح لا يمكنه الإتكاء على الأرض، ويتمايل تحت الألم والضعف العائد إلى خسارته دماً.

 

يقع على ركبتيه فوق حجر، جبينه إلى صليب خشبي من غصنين مجتمعين، وهناك، يتأمّل يديه اللتين يبدو أن رأس مسمار يتكوّن عليهما، يدخلهما ويخرقهما.

 

إنه يبكي.

 

يبكي حبّاً وهو يقرع صدره، ويقول:

"يا يسوع! يا ملكي الوديع! ماذا فعلت بي؟ هذه الهِبة مُفرِطة، لا بسبب الألم، بل نظراً إلى ثناءات الآخرين! لِم لي، يا رب، أنا غير الجدير والمسكين؟ جروحك! آه! يا يسوع..."

 

 

(دفاتر ماريا فالتورتا)