موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
هناك سؤال طالما يراودني ويثير فيّ الكثير من الأسى والقلق: هل فقدَ كهنوت المسيح قيمته لدى العديد من كهنة اليوم..!؟
للأسف، نسمع بين الفينة والأخرى بأن كاهناً قد ترك خدمته الكهنوتية وتخلى عن رسالته الرائعة أو إنتمائه لكنيسته الأم، في حين أضحى عالمنا اليوم بأمس الحاجة إلى رعاة وكهنة يشعّون نور المسيح على العالم والعناية بشعب الله في مسيرته على هذه الأرض...! فهل كان أساس دعوتهم الكهنوتية للبعض واهياً، أو إن تأهيلهم الكنسي كان ناقصاً ولم يكن على مستوى التحيات المعاصرة..!؟ هل إنخدعوا في خياراتهم وأختياراتهم، أم أحبطت خبراتهم القصيرة والطويلة طموحاتهم وأهدافهم..!؟ أسئلة نطرحها على كاهن الأمس واليوم وعلى المؤسسة الكنسية.
مهما يكم من أمر، فأن الواقع مؤلم جداً ويدعو إلى التفكير الجدي في شأن حياة الكنيسة ومستقبلها، وفي شأن الكهنوت ونقص الدعوات، وأيضاً في إستقطاب الشباب وأحتضانهم. إنني أتطرق إلى موضوع في غاية الأهمية والحساسية، ليس بدافع تدخل فضولي في شأن قد لا يعنيني لكوني "علماني / مؤمن"، كما إنه ليس لي أية صفة رسمية في هرم الكنيسة سوى كوني عضو في الجسد المسيح السري (كهنوت المسيح)، ضمن إطار الكهنوت العام، لكن مع خدمتي وخبرتي المتواضعة في الكنسية طيلة أربعة عقود، فقد تعلمت دروساً كثيرة ونفيسة بحكم أختباراتي وقربي مع العديد من المؤمنين والشمامسة والرهبان والراهبات والكهنة والأساقفة.
مَن أنتَ أيها الكاهن، وما المطلوب منك..!؟
أنتَ إنسان مثل سائر البشر، لكن الرب يسوع دعاك وأختارك: "ما أخترتموني أنتم، بل أنا أخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتثمروا ويدوم ثمركم" (يوحنا 15 : 16). ولابد ذات يوم إنك سمعت نداء يدعوك إلى حياة جديدة .. حياة مليئة بالخير والمحبة، بالعطاء والتضحية، بالسخاء ونكران الذات، بالغفران والسلام والفرح، بالتفرغ التام لخدمة القطيع الذي يُسلم إليك لرعايته، أيّاً كان، وأينما كان. فالمحبة والخدمة الحقيقية لا تكون بالأقوال فقط، بل تتجسد في الأعمال والمواقف والمبادرات لجميع أبناء الرعية دون تمييز، مُكرساً حياتك كلها في خدمة الآخر مهما كان، الآخر الذي ينتظر منك أن تنقل إليه إنجيلاً حياً، وقلباً مليئاً بالفضيلة والطهارة والرحمة والحنان، لا أن تقابله باللامبالاة أو الإهمال أو التعنت، ولا أن تزعجه بكلمات نابية ومهينة، أو بتصرفات إستعلائية وتسلطية، ولا إلى توجيه إنتقادات لاذعة ومشينة، والتي لا تشمل المؤمنين فقط بل إخوتك الكهنة أو رؤسائك كما يحصل في هذه الفترة.
كل ما سبق وأن ذكرته عبارة عن مجموعة حقائق معروفة للجميع حق المعرفة، لا أريد الإستزادة أو الإطالة فيها. ولكن ما يهمني هنا هو تسليط الضوء للتسيب الموجود وعدم الطاعة لبعض الكهنة، بعد أن خرجوا من "تجربة الإبليس" ضعيفي الإرادة ومهزوزي الدعوة، لينقادوا بعد "الأربعين يوماً" إلى طريقين آخرين...! ومن خلال خدمتي لطالما تكلمتُ بمحبة مع بعضهم لتشجيعهم على الأنتصار على تجربتين أساسيتين أمام الكاهن هما: المال و الجنس .. وسأضيف لهما هنا "تجربة ثالثة" ألا وهي "المجد الباطل":
1- تجربة المال
حُسب المال في العهد القديم بركة عظيمة من الله، ويظل حسناً طالما يبقى عبداً مطيعاً في خدمة الإنسان للخير والإحسان. أما إذا أنقلب سيداً أو رباً، فإذ ذاك يصبح خطراً جداً: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين .. فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (متى 6 : 24). وهذا ما لاحظته في عدد من الكهنة الساعين وراء المال سعياً مفرطاً، مستخدمين جميع الوسائل في سبيل جمع المزيد من المال، حتى أصبح جشعهم وتهافتهم على جمع المال مضرب الأمثال عند غالبية المؤمنين، بدلاً من أن يعطوا إنطباعاً صادقاً للمؤمنين بأنهم يعيشون روح التجرد والفقر الإنجيلي، وأن يجعلوا المال وسيلة للخير والمقاسمة، قبل أن يصبح دافعاً لإستغلال الناس كما حدث في السنين الأخيرة من موجات التهجير والهجرة وتنظيم الكفالات. وما آلت إليه من دعاوي ومحاكم بعد فضائح، غير آبهين بمقولة بولس الرسول لتلميذه طيموثاوس: "فحب المال أصل كل شر" (1 طيموثاوس 6 : 10).
2- تجربة الجنس
غالبية من أستجاب لنداء الدعوة الكهنوتية وكرس حياته لخدمة مذبح الرب، هو مدعو أن يعيش العفة والعزوبية بملئ إرادته وحريته، دون إجبار أو إكراه. وقلتُ "غالبية" لأن هناك دعوة الكاهن المتزوج أيضاً في كنائسنا المشرقية التي تضيف وتغني. إن على الكاهن المتبتل أن لا يلتفت إلى الوراء، كما يحذرنا الرب يسوع: "ما من أحد يضع يده على المحراث ويلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله" (لوقا 9 : 62). الأمر الذي كنا نخشى عاقبته وما تمخض عن ذلك من حقائق مؤلمة..! أثارت فينا الإندهاش والتساؤل: بأن هناك أمراً لا نفهمه في عدد من كهنة اليوم..! بل لابد أن يكون ثمة خلل في القضية..! وكيف يتحمل هؤلاء الرجال "الإزدواجية" بعدما نذروا العفة وقلوبهم مفعمة بـ . . . !؟ ومع ذلك أقول، دون أن أبغي إستثارة أحد: بأنهم للأسف لم يعودوا يحتملون "المواجهة" لبتولية قانونية مفروضة..!؟ فهنا نسمع، تارة من يتخلى عن "عبء" عزوبيته، وطوراً من يتظاهر في صومعته بـ "عفة" وهمية..!؟ وهذا أحدهم يروي لي، مآساته وتناقضات عزوبية لا يفهم معناها ويتحملها على مضض ولا يعيشها كما ينبغي، مؤكداً: "إننا نعاني والظروف الراهنة من حصار جسدي"..! وآخر يعترف بعدم إرتياحه لهذه "الإشكالية"، مكتفياً بترديد المقولة الشهيرة لبولس الرسول: "فالزواج أفضل من التحرق بالشهوة"..! (1كورنتس 7 : 9 ). مع ذلك، ولكي لا أكون عمومياً فإن هناك كهنة رائعون يعيشون دعوتهم ورسالتهم ليكونوا علامات مضيئة وسط عالم اليوم المظلم.
3- تجربة المجد الباطل
في هذا الوقت العصيب، تعتبر السوشل ميديا (مواقع التواصل الأجتماعي) العدو الألد لكَ ولرسالتكَ أيها الكاهن.. أتدري لماذا..!؟ لإنه كالفايروس أصابكَ (بعد جائحة كورونا) فتسرب إلى حياتك وبات محور تفكيرك وأهتمامك، باحثاً عن مجد باطل...!
فكما نعلم بأن القوة التي تدير العالم اليوم هي "القوة الناعمة" أو "الحرب الناعمة" ويقصد بها "الإعلام" وما له دور فاعل ومؤثر في عالم السياسة والأقتصاد والقانون والإدارة، وغيرها. حاله حال العديد من العطايا والأختراعات المتوفرة أمام الإنسان فهي سلاح ذو حدين. فبالرغم من فائدة الإعلام في "كنيسة إفتراضية" في زمن الوباء، ألا إنه للأسف الشديد شلَّ عندك عمل المحبة، بل حددت فاعليتها وفعاليتها. ولهذا جعلتكَ "إلهاً" ليدور جميع الناس حولك .. حول مجدٍ أرضي: "فللأجسام السماوية بهاءٌ، وللأجسام الأرضية بهاءٌ آخر" (1 كورنتس 15 : 40).
وكنتيجة للفراغ الموجود في بعض من الجوانب التعليمية من قبل الكنيسة، فقد مثلت هذه الأمور لبعض من كهنتنا - للأسف - يدخلون دائرة من الأضواء ويبدأون قليلاً قليلاً بكرازة أنفسهم بدل أن يكرزوا المسيح، وبشكل صار همهم الوحيد هو مجد العالم وكيف يظهرون أفضل من غيرهم..! إن هذه التجربة لقاسية الى درجة إستفاضة بعض الكهنة في مواضيع ليست دينية صرفة، أكثر من المواضيع الإيمانية وهم ليسوا أصحاب أختصاص، أو الإفراط في الظهور الإعلامي، مستغلين طيبة شعبنا وعطشه إلى التعليم، وأيضاً اقولها بكل إحترام، أنه بسبب بساطة البعض من الذين لا يستطيعون إدراك صحة ودقة تعليم معين من شخص ما، فإنهم سيصدقون كل ما يرونه ويسمعونه. وهنا أريد أن أضيف إن المشكلة في ما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي هي ليست فقط مسألة حب الظهور والمجد الشخصي، لكنها أيضاً مرتبطة بالتجربة الأولى التي أشرتُ إليها وهي "حب المال" بشكل مباشر، لكون هذه التطبيقات تحمل أبعاداً ربحية وتدر على أصحابها إن عرفوا كيف يديرونها أموالاً ليست بالقليلة وهذا ما لايعرفة الكثير من البسطاء الذين بحسن نيّة يشتركون في قناة أو صفحة معتقدين أنهم يشجعون نشر كلمة الله.
وهكذا أيها الكاهن سوف لا تتسنى لمحبة المسيح أن تملأ ذاتك لأنك ممتلئ من مجد ذاتك، الذي يقضي فيك على روح الإنفتاح والحوار والإصغاء إلى الآخرين وتفهم آرائهم والسعي في خلق أرضية للتعاون المثمر والبنّاء مع الخورنة، وإعطاء المجال للمبادرات الفردية - خاصة من الشبيبة - التي ترمي إلى تقدم وأزدهار وبنيان الرعية لا إلى بناء الحجر وزخرفة الهيكل..!
الرعية بحاجة إلى "الراعي الصالح / الطبيب الإلهي"
إن الفصل العاشر من إنجيل البشير يوحنا، وخاصة التأمل بالآية التي تقول: "أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني، مثلما يعرفني الآب وأعرف أنا الآب، وأضحي بحياتي في سبيل خرافي" (يوحنا 10 : 14 – 15)، يجعلنا جميعاً أمام حقيقة أنه مهما قامت المؤسسة الكنسية بإجراءات من حيث التنشئة في مراحلها الأولى أو المستدامة منها، فإنه يبقى ضمير الكاهن أو الأسقف هو الصوت الذي سيقوده. إننا نعلم بأن طريق الكهنوت هو وعر ومحفوف بالتضحيات، لذا يقتضي أن تكون حياة الكاهن موجهة توجيهاً صادقاً وسامياً نحو العلى، لأن الكاهن هو كاهن الكون كله، وهو يرفع الخليقة إلى الله، لأن رسالته لن تتوقف عند مؤمني خورنته فحسب، بل تشمل العالم كله بشكل ضمني.
إن عالمنا اليوم "مريض" وهو بحاجة إلى الشفاء، بحاجة إلى مَن يحرك لنا ماء بركة "بيت حسدا / زاتا"، إلى من يسعى إلينا ويلتقينا ويمسّنا بالشفاء دون أن نطلب، ليقول لنا: "أتريد أن تُشفى" (يوحنا 5 : 8). نعم أيها الكاهن / الطبيب، أطلب منك أنا المريض: "ما لي احدٌ، يا سيدي، ينزلني في البركة عندما يتحرك الماء. وكلما حاولت الوصول إليها سبقني غيري" (يوحنا 5 : 7). أنا ملقى عند البركة، معزول ومحروم عن لقاء أي قريب، وعن أي ذراع بشر، وها أنا أنتظرك لتقول لي: "قُم وأحمل فراشك وأمشِ" (يوحنا 5 : 8)، لسبب واحد أرجو أن تتذكره دائماً إنك مدعو أن تكون أنت حقيقة صوت ويد ورجل الكاهن الأعظم ربنا يسوع المسيح في عالم اليوم...!