موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع من زمن الـمجيء (أ)
الـمُقدّمة
نناقش في سلسلتنا الكتابيّة في هذا الأسبوع الرابع والأخير من زمن المجيء الـمبارك مسيرة لإعلان لحبّ إلهيّ فائق الطبيعة حيث يخطو الرّبّ نحو الإنسان ليشاركه حلمه ويعرض عليه أنّ يتعاون معه. بعد أنّ إستنرنا بمصابيح ثلاث من خلال الـمقالات الثلاث السابقة وهي: مصباح التأهب، مصباح الـملكوت، ومصباح الحيّاة. سنتوقف اليّوم أمام نص بالعهد القديم حيث تجدد نبؤة أشعيا النبيّ هذا الوعد الّذي قُطع، مِن قبل الله، للملك آحاز بشأن الابن الـمولود وهو ينتمي لبيت داود ويُدعى إسمه عمانوئيل (7: 10- 14). وفي هذا الإسم الّذي تتجسد حكمة الله يبدأ الله بتسليمنا "مصباح الحكمة" الّذي إستعنا به كعنوان لـمقالنا هذا. ثم سنكتشف بعمق معنى هذا الإسم على ضوء قرأتنا لنص العهد الجديد والّذي يعني "الله معنا". نتناول أيضًا النص الـمتوازي حيث نكتشف مبادرة الرّبّ من خلال إعلانه ليوسف البارّ، رجل مريم، ليكشف له عن مخططه وهو ولادة ابنه الإلهيّ من مريم إمرأته. من خلال آيات قليلة في الإنجيل بحسب متّى بالعهد الجديد (1: 18- 24)، يكشف الله عن حكمته في شكل إعلان جديد. وهذا الإعلان قلّب حياة هذين الزوجيّن (بحسب الشريعة اليهوديّة) وهما الـمخطوبيّن بحسب فكرنا الـمُعاصر. حيث أنّ حيّاة مريم ويوسف نالت منها حكمة إلهيّة، غير متوقعة، فغيرتها رأسًا على عقب وهم يحاولون إدراك هذا الـمخطط ليتخذوا قرارهم لقبول الابن الإلهي بحياتهم البشريّة فيصبحا أوّائل مَن قبلوا "مصباح الحكمة" الّذي يفتتح به االله دخوله ابنه لعالمنا من خلالهم فيصبح تجسد الإله مفتاحًا ومصباحًا نستنير به ككنيسة ونقترب من حضور الـ "عمانوئيل" بشكل دائم بيننا.
1. حكمة الكلمة (اش 7: 10- 14)
يفتتح أشعيا هذا النص مُرتكزاً على إستمراريّة الرّبّ في إعلان كلمته والكشف عن مخططه. فها نحن في القرن الثامن قبل الـميلاد تقريبًا. حيث يقول النبي: »وعادَ الرّبّ فكَلَّمَ آحازَ« (اش 7: 10). إستمرار الرّبّ في التواصل مع الإنسان والكشف عن مخططه الحكيم يؤكد حبّ الله القوي للإنسان بالرغم من إختلاف العصور. بعد توجيه النداء للنبيّ دعوته ليحمل رسالته في زمن النبيّ آحاز بمملكة الجنوب وهي اليهوديّة وعاصمتها أورشليم (راج اش 6). مع أشعيا وهو أحد الأنبياء الكبار يبدأ الرّبّ الإعلان الفائق الطبيعة عن إبنه بشكل إستباقي فيقول النبي على لسان الرّبّ للملك: »سَلْ لِنَفسِكَ آيةً مِن عِندِ الرّبّ إِلهِكَ، سَلْها إِمَّا في العُمْقِ وإِمَّا في العَلاءَ مِن فَوقُ« (اش 7: 11). بهذه الـمُبادرة يفتح الرّبّ الـمجال أمام الإنسان للدخول في حوار معه ليطلب آية أي معجزة أو عمل قدير أو نعمة يرغبها قلبه. ولكن التعسف البشري البعيد عن هذه الحكمة الإلهيّة بجهله وعمّاه، وهو يمثلنا جميعًا، يتضح صراحة في إجابة الـملك القائل: »لا أَسأَلُ ولا أُجَرِّبُ الرّبّ« (اش 7: 11). هذا الرفض الغشيم الّذي لا يفهم حقيقة هذه الحكمة الإلهيّة وجوهرها. وهنا يأتي صوت النبيّ الشّاهد على التدخلات الإلهيّة وكاشفًا عن حماقة الإنسان الّذي لا يتجاوب مع الرّبّ قائلاً: »إِسمَعوا يا بَيتَ داوُد. أَقليلٌ عِندَكم أنّ تُسئِموا النَّاسَ حتَّى تُسئِموا إِلهي أَيضاً؟ فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها أنّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ ابناً وتَدْعو اسمَه عمانوئيل« (اش 7: 13- 14). يتعامل الرّبّ أمام هذه الحماقة البشريّة بفيض من حكمته من خلال الكلمة إذ يعطي من فيضه نعمة النِعم قبل إتمامّ سرُّ التجسد بثماني قرون فيفاجئنا الرّبّ بسخاءه الّذي لا ينقطع حين يكشف لنا عن حضوره الحيّ بيننا في إبنه. نعم لقد كشف الرّبّ، في هذا النص بحسب أشعيا، بكلمته الإستباقيّة للـملك آحاز من خلال آية العمانوئيل الّتي صارت مصباح حكمة لم يُفهم في عصره. أما النبيّ هو الشّاهد بتدوينه هذه الكلمة الّتي ستتجسد بالكامل في حياتنا ومن أجلنا، وهذا ما سنراه بحسب منهجيّة ولّاهوت متّى الإنجيليّ في تفسيرنا.
2. الإعلان فائق الطبيعة (مت 1: 18- 20أ)
على ضوء قراءتنا الأوّلى لآية الـعمانوئيل، سنفسر بعض نقاط الجوهريّة بهذا النص الإنجيليّ حيث يضعنا متّى أمام حلميّن. يبدون كليهما للوهلة الأوّلى بأنّهما منفصلان، إلّا إنهما سيلتقيان بسبب إحترام الرّبّ لحريّة الإنسان. هناك حلم بشريّ بدأ مع داود بأنّه سيملك من أصله الـمسيّا، إلّا إنّ هذا الحلم سيتبدد مع الأسف بالسبيّ (عام 598 ق. م. تقريبًا) وبهذا تنتهي فترة الملكيّة، ويبدو أنّ وعد الله لداود (راج 1 صم 7) قد تبدد بفعل واقع التاريخ القاسيّ. إلّا أنّ متّى يفاجئنا بعد مرور عشرة قرون بأنّ هذا الوعد الإلهيّ، لم يُنسى من خلال حلم يوسف، وهو من أصل داود بحياة أُسريّة بسيطة كرجل عبريّ مع إمرأته مريم، كغيره من شباب عصره. ومن جديد يبدو لنا من خلال ما يرويّه متّى بأنّ يوسف لن يُحقق حلمه إذ يتبدد هذا الحلم بسبب إعلان إلهي فائق الطبيعة وغير مُتوقع. ومع ذلك، يُخبرنا الكتاب الـمقدّس بأنّ بعض الأحلام يُناقضها البشر وليس الله.
بعد أنّ يقدم لنا الإنجيليّ التسلسل لأصل يسوع مُبتدأ من البدء، بجده يرتكز من جديد على ربط الأحداث «أَمَّا أَصلُ يسوعَ الـمسيح مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أنّ يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وكان يُوسُفُ زَوجُها بارّاً، فَلَمْ يُرِدْ أنّ يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أنّ يُطلِّقَها سِرّاً. وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرّبّ في الحُلمِ» (مت 1: 18- 20أ). يتضح لنا براعة الإنجيليّ، بهذا الإفتتاح حيث تتحقق مباشرة النبؤة الإشعيائية فها هي الصّبيّة مريم تُحقق الآية الّتي أعلن عنها الرّبّ للـملك آحاز فقد حان الآن بعد مرور عشرة قرون من نهاية فترة داود، وبعد مرور ثماني قرون بعد الإعلان فائق الطبيعة لنبؤة أشعيا بهذه الآية لتتجسد من خلال إندماج حُلم مريم ويوسف وحلم الله معًا.
3. حكمة يوسف (مت 1: 19)
حلم يوسف هو أوّل حلم في العهد الجديد بأكمله. متّى بجدارته يساعدنا بالتركيز في هذا السيّاق على شخصيّة فريدة من نوعها حيث نعيش مع يوسف يبدو ميؤوسًا منه: «وُجِدَت [مريم] قَبلَ أنّ يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وكان يُوسُفُ زَوجُها بارّاً، فَلَمْ يُرِدْ أنّ يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أنّ يُطلِّقَها سِرّاً. وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرّبّ في الحُلمِ» (مت 1: 19). في مثل هذا الموقف، لم تواجه مريم مشكلة طلاق من زوجها يوسف فحسب، بل عليها أنّ تواجه أيضًا خطر الـموت رجمًا. في الواقع الأمر هي بمثابة إمرأة زانية بحسب الشريعة، حيث أن عقابها هو الرجم. يُطلق الإنجيليّ على يوسف لقب الرجل البارّ. والسبب هو طاعته للشريعة، ولكن ببرارته تجاوز الشريعة إذ قرر سرّاً أنّ يترك مريم لمصيرها.الإنسان البارّ في الكتاب المقدس ليس الرجل الـمُتمسك بالشريعة، بل هو القادر على بناء علاقات حقيقية مع الله ومع الآخرين، والّذي يسعى إلى عيش مشيئة الله في كلّ إختيار وهنا تتضح حكمته. علاوة على ذلك، بحسب إنجيل متّى، العدالة هي تجلّي خطة الله في تاريخنا البشريّ. الـمجهود الّذي يبذله يُوسف من الآن وصاعداً هو إدراك مسيرة الكشف والتجلّيّ لخطة الله وتحقيق وعده لداود من خلال التفكير الجديد والصمت وترك الله يعمل بطريقته العجيبة إذ يُتمم ما لا نُدركه من سرّ حبّه.
لهذا السبب لمّ يدرك يوسف ماذا عليه أنّ يفعل، فنضج ما يحمله قلبه نحو إله الشريعة ومريم معًا. فترائى له بأنّ الحلٍّ الـممكن هو أنّ يعيش هذه البرارّة عمليًا وحقّيقيًا. نعتقد وبالتأكيد بأنّه كان يبحث باطنيًا عن عدالةٍ تختلف عن عدالة البشر مُحترمًا الشريعة؛ ونجده أنّ طموحاته وأفعاله تتجه نحو ما هو أعظم، حتى وإنّ كان الـمخرج من هذا الـموقف غامضًا في تلك اللحظة. ومن وجهة نظرنا كإمرأة لّاهوتيّة نجد أنّ حكمة يوسف الرجل الصّامت الّذي لم يقول شيئًا، إلّا أنّ غنى حياته إتسمّ بحكمة خاصة في أعماله. ومن هنا بدأ يوسف رجل الله، في أنّ يدخل في الغموض الإلهيّ بعدم فضح مريم، بل أنّ قبوله بأنّ يعيش هذه الـمغامرة ليدخل في الحُلم الإلهيّ الجديد الّذي سيجعل منه رجل لا يُنسى بل وسيكون الأوّل بحسب إنجيل متّى الّذي سيحمل لبشريتنا وتاريخنا مصباح الحكمة الّذي إستنار به ويسلمنا إياه لنستنير نحن أيضًا بدورنا.
4. مصباح الحكمة (مت 20ب- 24)
سيّاق حُلم يوسف الأوّل بحسب متّى حتّى: «تراءَى له مَلاكُ الرّبّ في الحُلمِ قائلاً: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أنّ تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فأنّ الّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأنّه هوَ الّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم"» (مت 1: 20- 21). يكشف ملاك الرّبّ في الحُلم هذا الحُلم، وهو لفظ كتابي عن تجلٍّ لله مع الحفاظ على سموّه الإلهي. وإذا تسألنا عن معنى ما يعيشه يُوسف الآن؟ وكذلك الحلّ الّذي يُمكّنه من الإجابة على شكوك قلبه الكثيرة الّتي تزعجته. يوسف، الإنسان البارّ في الحُلم، قادرٌ على فهم الواقع، خطة الله له، ولمريم، وللطفل، ولشعبه، الّذين سيتحررون بفضله من خطاياهم.
يوسف هو الإنسان البار هو مَن يُجري العدل؛ في الحُلم، يستطيع يوسف أنّ يعرف العدل ويُجريه. الحُلم هنا، هو تجلي الحقّيقة، بحسب وجهة نظر الله. الحُلم البشريّ بدأ ميؤوسًا منه، حلمٌ مُحطَّم، عندما يلتقي يوسف حُلمه بحُلم الله، يتمكن من الإنفتاح على مستقبله ومستقبل بشريتنا معًا. في أناجيل الطفولة (مت 1- 2؛ لو 1-2)، الأحلام هي ما يُحرِّك الروايات الإنجيليّة للأمام فهي تكشف عن مخطط الله الفائق الطبيعة بشكل طبيعي. سيّاق بلا أحلام، بلا كلمة الله، ما هي إلّا طُّرق مسدودة. يتمكن يوسف من تسلّيم مستقبله للرّبّ، ولذا يقبل مصباح الحكمة الّتي تجسدت قبلاً بأحشاء إمراته مريم، ومن خلال فعله: «فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرّبّ فأَتى بِامرَأَتِه إِلى بَيتِه» (مت 1: 24). نرى يُوسف الـمُنفتح على حُلم الرّبّ مُنفتح على حكمة الـمستقبل الّتي ستتجسد في حضوره من خلال إمرأته مريم. مدعويّن على مثال يوسف لنفوم من نّومنا ونقبل هذه الـمغامرة الإلهيّة الغامضة ونقبل حكمة الله الّتي يعرضها علينا يوميًا فنصير مستنيرين بمصباح الحكمة في القلب والحياة بالقول والفعل معًا. لندعو يُوسف ليعلمنا كيف نكون نساء ورجال حاملين هذا الـمصباح الحكيم، وهو الطفل الّذي ننتظره، لُينيرنا وينير عالـمنا وبالأخص باطننا.
الخُلّاصة
«ها أنّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عمانوئيل أَيِ “اللهُ معَنا"» (مت 1: 23). ها نحن على أعتاب عيد الـميلاد، حيث تحمل لنا الكلمة الإلهيّة من خلال أشعيا النبي (7: 10- 14) والإنجيل بحسب متّى (1: 18- 24 ) بأنّ نستلم مصباح الحكمة كمصباح أخير لنستقبل به العمانوئيل الآتي إلى عالمنا. وكما شهد أشعيا عن آية الآيات "ولادة العمانوئيل من صّبيّة" حيث كشف عن إعلان فائق الطبيعة يحمل حبّ إلهي لا يوصف. على هذا الـمنوال منحنا متّى بسرده كيف تجسدت هذه النبؤة من خلال منح الله حكمته ليوسف من خلال الحُلم. مدعويّن لنصير مؤمنيّن حالميّن مثل يوسف؛ حيث أنّ البرارّة تساعدنا لتفسِّير أحلامنا، الّتي تبدو أحيانا مُحطَّمة، في ضوء حكمة وحُلم الله، الّذي يُسلمنا مع يُوسف اليّوم مصباح الحكمة وهو أنّ نقبل مريم ويوسف بحياتنا وقلوبنا وبيوتنا. دُمتم في قبول لـمصباح الحكمة من يد الرّبّ.