موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٢

معجزة الخبز والسمك والقربان الأقدس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني عشر للسنة: معجزة الخبز والسمك والقربان الأقدس (لوقا 9: 11-17)

الأحد الثاني عشر للسنة: معجزة الخبز والسمك والقربان الأقدس (لوقا 9: 11-17)

 

النص الإنجيلي (لوقا 9: 11-17)

 

10 ولمَّا رَجَعَ الرُّسُل أَخبَروا يسوعَ بِكُلِّ ما عَمِلوا، فمَضى بِهِم واعتَزَلَ وإِيَّاهم عندَ مَدينَةٍ يُقالُ لَها بَيتَ صَيدَا، 11 لكِنَّ الجُموعَ عَلِموا بِالأَمْرِ فتَبِعوه، فاستَقبَلَهم وكَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله، وأَبرأَ الَّذينَ يَحتاجون إلى الشِّفاء. 12 وأخَذَ النَّهارُ يَميل، فدَنا إِلَيهِ الِاثنا عَشَر وقالوا لَه: ((اِصرِفِ الجَمعَ لِيَذهَبوا إلى القُرى والمَزارِعِ المُجاوِرَة، فيَبيتوا فيها ويَجِدوا لَهم طَعاماً، لِأَنَّنا هُنا في مَكانٍ قَفْر)). 13 فقالَ لــَهم: ((أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون)). فقالوا: ((لا يَزيدُ ما عِندَنا على خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن، إِلاَّ إِذا مَضَينا نَحنُ فاشتَرَينا لِجَميعِ هذا الشَّْعبِ طَعاماً)). 14 وكانوا نَحوَ خَمسَةِ آلافِ رَجُل. فقالَ لِتَلاميذِه: ((أَقعِدوهُم فِئَةً فِئَةً، في كُلِّ واحِدةٍ مِنها نَحوُ الخَمسين)). 15 ففَعلوا فَأَقعَدوهُم جَميعاً. 16 فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ثُمَّ بارَكَها وكَسَرَها وجَعلَ يُناوِلُها تَلاميذَه لِيُقَدِّموها لِلْجَمع. 17 فأَكَلوا كُلُّهم حتَّى شَبعوا، ورُفِعَ ما فَضَلَ عَنهُمُ: اثنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَر

 

 

مقدمة

 

يصف إنجيل الأحد معجزة الخبز والسمك الأولى (لوقا 9: 11-17)، وهي المعجزة الوحيدة التي وردت في كل من الأناجيل الأربعة لأهميتها (متى 14: 13-21، مرقس 6: 30-46، لوقا 9: 10-17، يوحنا 16: 1-15)؛ وقد لمّح يسوع عن الخبز الذي كسره لإطعام الجموع إلى جسده، والذي سيبذل عما قليل من أجلهم ذبيحة وضحية وقربانًا.  لذلك تعتبر هذه المعجزة ذروة نشاط يسوع ونهايته في الجليل ليُعلن طبيعته السماويَّة في حياتنا، وبالتالي جاء أوان موعد الاختيار الحاسم بين الإيمان والرفض؛ فنشأ عيد جسد الرب لإعادة المجاهرة علانية بإيمان شعب الله أن يسوع المسيح حيٌ وحاضرٌ حقًا في سر الإفخارستيا. والإفخارستيا تعطينا حياة الله، أي الحياة التي لا نهاية لها، فهو سر العطاء والمحبة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 9: 11-17)

 

10 ولمَّا رَجَعَ الرُّسُل أَخبَروا يسوعَ بِكُلِّ ما عَمِلوا، فمَضى بِهِم واعتَزَلَ وإِيَّاهم عندَ مَدينَةٍ يُقالُ لَها بَيتَ صَيدَا،

 

تشير عبارة "ولمَّا رَجَعَ الرُّسُل" إلى رجوع الرسل من الجليل حيث أرسلهم يسوع للتبشير (مرقس 6: 30). أمَّا عبارة "الرُّسُل" فتشير إلى الأشخاص الذين يُرسلون في مهمة خاصة (يوحنا 13: 16). فالرسول تعني المرسل أو المبعوث، ويطلق الاسم بصفة خاصة على تلاميذ الرب يسوع الاثني عشر الذين اختارهم لمعاينة حوادث حياته على الأرض ويروه بعد قيامته ويشهدوا له أمام العالم بعد حلول الروح القدس عليهم (متى 10: 2-42 وأعمال الرسل 1: 21 و22). وأصبحت الكلمة لقبًا رسميًا لتلاميذ يسوع الاثني عشر بعد موته وقيامته (أعمال الرسل 2: 14). وهؤلاء الرسل هم: سمعان بطرس واندراوس ويعقوب بن زبدى ويوحنا أخوه وفيلبس وبرثولماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفى وتداوس (ويسمى أيضاً يهوذا ابن حلفى) وسمعان القانوني (وهو الغيور) ويهوذا الإسخريوطي. وكان الرسل من الطبقة المتوسطة وبعضهم من الفقراء، ولم يكن بينهم أحد من الكهنة. وكان أغلبهم جهلة وغير متعلمين، لكنهم كانوا بأجمعهم من الأتقياء-غير أن يهوذا الإسخريوطي انحرف وسلك مسلكاً شائناً، أدَّى به إلى تسليم سيده ومعلمه. وكان القليلون لهم إلمام بمبادئ التعليم. لكن يسوع اهتمَّ بتعليمهم تعليماً روحياً عميقاً مدة إقامته معهم. أمَّا عبارة "يسوعُ" فتشير إلى الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ (معناه الله مخلص). وقد سُمِّى يسوع حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ومريم (لوقا 1: 31). ويسوع هو اسمه الشخصي. أمَّا المسيح فهو لقبه. وقد وردت عبارة "الرب يسوع المسيح" نحو 50 مرة في العهد الجديد. ويسوع المسيح أو المسيح يسوع، نحو مئة مرة. ووردت لفظة يسوع وحدها على الأكثر في الأناجيل، ويسوع المسيح، والرب يسوع المسيح في سفر الأعمال والرسائل.  أمَّا عبارة "أَخبَروا يسوعَ بِكُلِّ ما عَمِلوا" فتشير إلى الرسل بصفتهم مرسلي يسوع الذين يقدِّمون له عرضا عن مهمَّتهم في التبشير (لوقا 6: 13). أمَّا عبارة "واعتَزَلَ وإِيَّاهم" فتشير إلى اصطحاب يسوع تلاميذه إلى مكان خالٍ ليستريحوا ويسمعوا صوته. إن القيام بعمل الله أمر هام جداً، لكن يسوع يعلم أنَّ القيام بعمل الله بفاعلية يستلزم فترات من الراحة، بالراحة يتجدد نشاطهم وانتعاشه وقوتهم، مما يساعده في الاستمرار والمثابرة لسماع صوت المسيح الذي لا يمكن سماعه في ضوضاء العالم (1ملوك 12:19-13). أمَّا عبارة " بَيتَ صَيدَا" فتشير إلى اسم آرامي בֵית־צָיְדָה معناه بيت الصَيد (متى 11: 21)، وهي مدينة تقع على الشاطئ الشماليّ الشرقي من بحيرة طبرية (لوقا 9: 10)، وهي موطن الرسل: فيلبس وأندراوس وسمعان بطرس (يوحنا 1 :44). وفي بيت صيدا شفى يسوع أعمى (مرقس 8 :22-26)، لكنه عنّفها كما عنّف كورزين، كفرناحوم، لأنّ أهلها لم يؤمنوا ولم يتوبوا (متى 11 :21). وجعلها هيرودس فيلبس، رئيس الربع، مدينةً لكثرة ما بنى فيها وزَّينها (يوحنا 1 :44) وسمّاها يوليا (جولياس) إكراما لجوليا ابنة الإمبراطور أوغسطس قيصر. وقد ذهب البعض أنَّ تلك المدينة بُنيت على جانبي نهر الأردن عند مصبيه في البحيرة. وعلى هذا المبدأ، تكون المدينة قسمين أحدهما عبر الآخر، فالواحد شرقي قرب مكان المعجزة (تل هادار) في سهل البطيحة، والثاني غربي وهو الذي ذُكر في بشارة مرقس (6: 45) وفي بشارة يوحنا (6: 16). ويُحدد لوقا موقع حدث معجزة الخبز والسمك بالقرب من هذه المدينة، في حين أنَّ التلاميذ يتوجَّهون نحوها بعد معجزة تكثير الأرغفة بحسب ما رواه مرقس البشير (مرقس 6: 45).  فالأرجح أن المعجزة تكثير الخبز والسمك كانت في سهل شرقي بيت صيدا تابع لما يُسمَّى سهل البطيحة واليوم "تل هادار" (معناه تل المجد) نسبة لحجر يدل الحجاج اليوم عل موقع معجزة الخبز والسمك الثانية (متى 15: 32-39، مرقس 8: 1-10). وان التلاميذ دخلوا السفينة بعد المعجزة لكي يعبروا خليجا صغيرا في بحيرة طبرية قاصدين بيت صيدا.

 

 11لكِنَّ الجُموعَ عَلِموا بِالأَمْرِ فتَبِعوه، فاستَقبَلَهم وكَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله، وأَبرأَ الَّذينَ يَحتاجون إلى الشِّفاء.

 

تشير عبارة " لكِنَّ الجُموعَ عَلِموا بِالأَمْرِ فتَبِعوه" إلى جموع كثيرين عرفوا يسوع وقدموا إليه من جميع المدن مشيًا على الأقدام واجتمعوا إليه (مرقس 6: 33). أمَّا عبارة "فاستَقبَلَهم" في الأصل اليوناني ἀποδεξάμενος (معناها قبلهم) فتشير إلى ترحيب يسوع بالجموع واستقبالهم بالرغم من تعبه، ومن حاجته بالانفراد بتلاميذه، ومع ذلك لم يرفض يسوع أحدًا، خصوصاً هؤلاء الجياع إلى الخبز، والمشتاقين إلى سماع كلمة الله. لهذا استقبلهم وعلَّمهم وشفاهم من أمراضهم. راحته وراحة تلاميذه في إراحة المُتعبين وإشباع النفوس الجائعين وشفاء المرضى. أمَّا عبارة " كَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله " فتشير إلى تعليم يسوع حول ملكوت الله الذي جاء كنقطة مركزية في تعليم يسوع.  وقد أوضح يسوع أنَّ ملكوت الله ليس ملكوتا يُقام في المستقبل فقط، لكنه قائم وسط الناس الآن، إذ هو متجسدٌ فيه وفي قلوب المؤمنين به. أمَّا عبارة "وأَبرأَ الَّذينَ يَحتاجون إلى الشِّفاء" فتشير إلى اعتناء يسوع باحتياجات الناس الجسديَّة وخاصة الروحية “وكَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله". فالمدعوِّون للوليمة تمتَّعوا بالشفاء الجسدي أولًا.  وهذا الشفاء الجسدي هو رمز لشفاء النفس من مرضها الروحي كي تتأهل لتقبل الخبز الحي يسوع المسيح. ولم ينعم بالشفاء كل المرضى، إنما الذين شعروا بالحاجة إلى الشفاء وطلبوه من يسوع، حتى لا يستخفُّوا بالعطيَّة ويحتقرونها. ويُعلق القديس أمبروسيوس "من كان أعرج نال القوَّة للمشي ليأتي عند الرب، ومن كان قد حُرم من نور عينيه لم يدخل بيت الرب إلاَّ بعد عودة البصر إليه. هكذا يسير الرب، إذ يعطي أولًا غفران الخطايا ودواء للجراحات ثم يُهيئ الوليمة السماويَّة". وآثر مرقس ذكر التعليم على ذكر الشفاء، إذ قال متى الإنجيلي أن المسيح شفى المرضى في الجمع " فلَمَّا نَزلَ إِلى البَرِّ رأَى جَمْعاً كَثيراً، فأَخَذَته الشَّفَقَةُ علَيهِم، فشَفى مَرضاهُم" (متى 14: 14)، وأمَّا مرقس قال: "فلَمَّا نَزَلَ يسوع إِلى البَرّ رأَى جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم، لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها، وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة" (مرقس 6: 34). ونستنتج من ذلك أنَّ يسوع قام بمهمتين: الشفاء والتعليم.

 

 12 وأخَذَ النَّهارُ يَميل، فدَنا إِلَيهِ الِاثنا عَشَر وقالوا لَه: ((اِصرِفِ الجَمعَ لِيَذهَبوا إلى القُرى والمَزارِعِ المُجاوِرَة، فيَبيتوا فيها ويَجِدوا لَهم طَعاماً، لِأَنَّنا هُنا في مَكانٍ قَفْر))

 

تشير عبارة "أخَذَ النَّهارُ يَميل" إلى المساء وليس إلى العصر (متى 14: 15).  والمساء هو رمز لِمَا يواجه العالم من ضيقات وجوع نفسي وروحي قبل مجيء المسيح. لكن المسيح جاء مقدِّمًا للعالم الشبع الروحي والجسدي مقدِّما جسده طعامًا كما قل في العشاء الأخير: "خُذوا فَكُلوا، هذا هُوَ جَسَدي " (متى 26: 26). أمَّا عبارة "اصرِفِ الجَمعَ" فتشير إلى عاطفة التلاميذ البشريَّة وحساباتهم البشريَّة بطلبهم من المسيح أن يصرف الجموع قبل أن يحلَّ الظلام، إذ ظنُّوا أن الأمر يحتاج إلى مالٍ كثيرٍ لشراء طعام ٍ لهذا الجمع. فكان الحل الوحيد لهم هو صرف الجمع وليُدبّر كل واحد أمره. ففضَّلوا صرف الجمع على أن يأخذوا هذه المسؤولية على عاتقهم. والواقع ليست خواطرهم خاطئة، لكنها ليست خواطر يسوع المستوحاة من اتحاده مع الآب ومن رحمته ومن رأفته إزاء الجميع. ويعُلق القديس أمبروسيوس" لم يكن التلاميذ بعد قد فهموا أن غذاء المؤمنين لا يُباع، أمَّا المسيح فيعرف أنه ينبغي أن يتمِّم لنا الفداء، وأن وليمته مجانيَّة". أمَّا عبارة "فيَبيتوا فيها" فتشير إلى الاهتمام بالمبيت الذي هو من العادات اليونانية كون لوقا الإنجيلي يونانيا، أمَّا المبيت فلم يذكر في إنجيل متى ولا عند إنجيل مرقس، لان المبيت لا يوافق العادات الفلسطينية.  أمَّا عبارة "ويَجِدوا لَهم طَعاماً" فتشير إلى شراء الطعام من قبل التلاميذ والناس، لكن ليسوع حان وقت العطاء (لوقا 9: 13). الحياة تُعطى من الخالق وتُستلم من المخلوق، لا تُشترى ولا تُباع.  فغيَّر يسوع فعل "يشتري" إلى "يعطي"، وهذا التغيير أدَّى إلى تغيير ديناميكية التاريخ البشري كما هو الحال مع يوسف بن يعقوب وإخوته في مصر (التكوين 42: 1-45: 4). أمَّا عبارة "مَكانٍ قَفْر " فتشير إلى مكان خالٍ من السكان، لكن "فيه عُشبٌ كَثير" كما روى يوحنا الإنجيلي (يوحنا 6: 10) وبالتالي ليس فيه سوق ولا وسيلة لشراء الطعام.

 

 13 فقالَ لــَهم: ((أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون)). فقالوا: ((لا يَزيدُ ما عِندَنا على خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن، إِلاَّ إِذا مَضَينا نَحنُ فاشتَرَينا لِجَميعِ هذا الشَّعبِ طَعاماً))

 

تشير عبارة "أَعطوهُم أَنتُم ما يَأكُلون" إلى دعوة يسوع للناس للبقاء طالبا من تلاميذه أن يعطوهم ما يأكلون. وهذه دعوة لا يمكن أن يحقِّقها إنسان، إلا أنَّها دعوة لامتحان إيمان الرسل ولتعريفهم قدر صعفهم وعدم قدرتهم. فيُرغمهم يسوع على العطاء، لانَّ في العطاء ينشا علاقة أخوة وشركة بين التلاميذ والجمع. وهكذا يُعدَّهم يسوع للمساهمة في عمله المجَّاني مفضِّلاً العمل من خلال الناس وبالناس. هل يطلب الله منا عملا معه تعالى لا يمكننا أن نعمله لوحدنا؟  فسِر العطاء هو جوهر كلام وأفعال يسوع ومرافقته تلاميذه. وفي العطاء راحة لأن "الخبز الحيّ" الذي يُطعمنا حاضر في وسطنا، بل هو يعطي ذاته، وما علينا إلاّ بمشاركة ما يُعطينا إياه. يسوع يُعطينا الخبز الذي هو رمز إلى الطعام الجوهري في القربان الذي يُشبعنا. هذه هي الحياة التي نبحث عنها.  أمَّا عبارة "لا يَزيدُ ما عِندَنا على خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن" فتشير إلى القدر الزهيد من الطعام بالمقابل الجمهور الجائع، إذ ذلك كله لا يكفي التلاميذ وحدهم بل يكاد لا يكفي غير أثنين لان معدَّل ما يأكله الرجل دفعة ثلاثة أرغفة (لوقا 11: 5-6). وكانت هذه الخمسة الأرغفة من دقيق الشعير أتى ولد بها وبالسمكتين (يوحنا 6: 9). فأي مخرج أو أية حلول بشرية لهذا المأزق؟ فهنالك تفاوت بين حاجة الشعب والإمكانيات الحقيقية للتلاميذ. لذلك يحتج التلاميذ مركِّزين انتباههم على ما ليس لديهم من الطعام والمال. والموقف الذي يبدو مستحيلا بالوسائل البشرية هو فرصة لله.  ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا أن نضع كل إمكانياتنا البشرية بين يدي الله طالبين البركة في الصلاة. إن الله قادر أن يصنع المعجزات، علينا فقط أن نثق به ليُمدُّنا بالموارد. فالمتاح قليل ولكن مع البركة يصير كثيرًا جدًا. وعبارة "خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن" فتشير إلى مجموع سبعة وهو رقم يشير إلى الامتلاء بل الفيض الذي يرمز إلى يسوع القد على كل شيء. وأمَّا عبارة "خَمسَةِ أَرغِفَةٍ" فتشير إلى خَمسَةِ أَرغِفَةِ الشَّعير (يوحنا 6: 13) وان التلاميذ اشتروها من غلام هناك (يوحنا 6: 9). والخمسة رمز الحواس الخمسة وأصابع اليد والقدمين، وهو رقم النعمة، فبخمسة أَرغِفَةٍ أشبع المسيح خمسة ألاف.  أمَّا عبارة "سَمَكَتَيْن" باليونانية ιχθύς (معناها سمكة) فتشير إلى يسوع المسيح حيث أنَّ هذه الكلمة اليونانية هي أول كل حرف لخمس كلمات: يسوع المسيح ابن الله المخلص، Ἰησοῦς Χριστóς Θεοῦ͑ Υἱός Σωτήρ :  "يسوع Ἰησοῦς ، المسيح Χριστóς  ، ابن   Υἱός ، الله  Θεοῦ ، المُخَلِص Σωτήρ " . أمَّا رقم 2 فيشير للتجسُّد فهو الذي جعل الاثنين واحداً كما جاء في تعليم بولس الرسول " فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة"(أفسس 14:2). وهو أشبعنا بجسده الذي جعله لنا طعاماً. أمَّا عبارة " إِلاَّ إِذا مَضَينا نَحنُ فاشتَرَينا لِجَميعِ هذا الشَّعبِ طَعاماً " فتشير إلى بيان عدم إمكان التلاميذ أن يشبعوا ذلك الجمع الغفير. وزاد مرقس الإنجيلي ويوحنا على ذلك بقول فيلبس "لوِ اشتَرَينا خُبزاً بِمَائَتي دينار، لما كفَى أَن يَحصُلَ الواحِدُ مِنهُم على كِسرَةٍ صَغيرة" (يوحنا 6: 7، مرقس 6: 36).   

 

 14 وكانوا نَحوَ خَمسَةِ آلافِ رَجُل. فقالَ لِتَلاميذِه: ((أَقعِدوهُم فِئَةً فِئَةً، في كُلِّ واحِدةٍ مِنها نَحوُ الخَمسين))

 

تشير عبارة "خَمسَةِ آلافِ" إلى عدد كبير جداً وفيه مبالغة، ولاسيما حين نعلم انه كان في كل من كفرناحوم وبيت صيدا نحو 2000 أو 3000 نسمة. لهذا، نفهم أننا أمام عدد رمزي نجده أيضا في الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم (أعمال الرسل 4: 4). حيث أنَّ العدد 5000 هو علامة الجماعة الكاملة في نهاية الأزمنة. ويتكوَّن من رقم 5 X 1000. فعدد 5 هو عدد مقدس في العالم اليهودي، وعدد 1000 هو عدد كبير جداً وهو مكعب عشرة. وهو رقم الكمال في العالم اليهودي (مرقس 6: 40، 44)، ويوحي الرقم بتجمّع إسرائيل. لا يحسب لوقا الإنجيلي النساء والأولاد في شعائر العبادة بل الرجال وحدهم كما عمل متى الإنجيلي. وكل هذه التفاصيل تضعنا في بيئة يهودية. ويضيف متى الإنجيلي "وكانَ الآكِلونَ خَمسَةَ آلافِ رَجُل، ما عدا النِّساءَ والأَولاد" (متى 14: 21).  تظهر هنا مفارقة في جوع الشعب ما يقارب خمسة آلاف وفقر التلاميذ شديد جداً، فهم لا يملكون سوى خمسة أرغفة وسمكتين. أمَّا عبارة " لِتَلاميذِه" فتشير إلى الانتقال من مصطلح الاثني عشر إلى لفظ "التلاميذ" مُشيراً إلينا جميعًا. نحن اليوم هؤلاء التلاميذ حينما نجعل الحياة الّتي أعطاها لنا يسوع، "خبز الحياة"، تتواصل من خلالنا لإخوتنا في الحياة اليومية. أمَّا عبارة "أَقعِدوهُم فِئَةً فِئَةً، في كُلِّ واحِدةٍ مِنها نَحوُ الخَمسين" فتشير إلى الترتيب الذي به أجلس الناس على الأرض لتسهيل توزيع الخبز ولضمان إعطاء كل واحد نصيبه "لْيَكُنْ كُلُّ شيَءٍ بِأَدَبٍ ونِظام" (1 قورنتس 14: 40). وفي الواقع، إن تقسيم الجمع إلى جماعات صغيرة تُسهّل التوزيع والمشاركة والأخذ والعطاء فيما بينها، والحذر من أن يُترك أحدٌ.  أمَّا عبارة " أَقعِدوهُم" فتشير إلى المسيح الذي أمر الرسل بان يأمروا الجميع بالقعود على الأرض حيث لا مائدة لهم سوى الأرض؛ أمَّا في إنجيل متى فالمسيح هو الذي" أَمَر الجُموعَ بِالقُعودِ على العُشْب (متى 14: 29) عن طريق رسله.  ومثل هذا شائع في كل لغة.

 

 15ففَعلوا فَأَقعَدوهُم جَميعاً.

 

تشير هذه الآية أنَّ التلاميذ فعلوا كل ما في استطاعتهم: قدًّموا ليسوع الطعام الموجود، ونظَّموا الناس في المجموعات، ثم صنع الله المستحيل استجابة للصلاة. 

 

 16فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ثُمَّ بارَكَها وكَسَرَها وجَعلَ يُناوِلُها تَلاميذَه لِيُقَدِّموها لِلْجَمع.

 

تشير عبارة "فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن" إلى ما تمَّ تقديمه إلى يسوع الذي هو غير كاف، ولكن بين يديه أصبح أكثر من كافٍ. هذه هي المعجزة التي قام بها يسوع. لقد ضاعف يسوع الخمسة الأرغفة والسمكتين حتى أشبعت أكثر من خمسة آلاف نفس. عندما نعطي للمسيح تتضاعف مواردنا. يأخذ الرب مهما قدَّمنا له من موارد ووقت وقدرة ويُضاعفه بوفرة تفوق اقصى توقعاتنا. الخلاص يجعلنا نعيش فقرنا كغنى وإمكانية للمشاركة والاتحاد والثقة والهبة، كما قال القديس بولس الرسول: "يسوع المسيح: قَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8: 9). أمَّا عبارة "ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء" فتشير إلى عمل يأتيه الأنسان في مخاطبة الله وفقا لشعوره أن الله ارفع منه.  أمَّا عبارة "السَّماء" فتشير إلى الجو الذي يظهر انه يفصل بيننا وبين السماء العُليا التي لا ترى. أمَّا عبارة "بارَكَها " بالعبرية “ברך " فتشير إلى صلاة التسبيح والحمد والشكر التي ترافق "كسر الخبز" في رتبة المائدة عند اليهود. فكل شيء يبدأ من البركة.  يبارك يسوع الأرغفة قبل تكثيرها. إن البركة تحوِّل الأرغفة الخمسة إلى طعام وفير لجمع كبير. والبركة هي مناسبة للتذكير بنعم الله على شعبه، بالإضافة إلى إنها تُعبِّر عن معنى الخبز المُوزَّع على الشعب، وهو التبادل الجوهري بين الله والإنسان. البركة يشكر الإنسان بوساطتها خالقه (دانيال 3: 9)، "والشَكَر" يُذكر بنعم الله على الشعب وعظمة عطاياه. فهو صدى بركة الله الذي يهب خليقته الحياة والخلاص (تثنية الاشتراع 30: 19)؛ وما يدعو هنا إلى فعل الشكر هو عمل الله التي يظهر خصوصا في معجزة الخبز والسمكتين. وفعل "الشكر" لا ينفصل عن الاعتراف ἐξομολογέω (متى 11: 25) وعن الحمد والتسبيح (αἰνέω) (لوقا 2: 13) وعن التمجيد (δοξάζω) (متى 5: 16) وخاصة عن البركة (εὐλογέω) (لوقا 1:64). فمعنى البركة هو الاعتراف بأن عطاء الله هو مصدر حياتنا. لذا في كلمات التقديس "هذا هو جسدي" من خلال إعلان البركة في القداس الإلهي ندرك أن القربان المقدس هو هبة من الله، فهو جسده الـمُعطى لتلاميذه. وهناك عبارة جديدة لا يعرفها العهد القديم، وقد وردت 60 مرة وهي كلمة الافخارستيا (ευχαριστία) التي تعبّر عن الشكر المسيحي كجواب للنعمة التي وهبها الله في يسوع المسيح. إن رواية لوقا تكاد أن تكون صورة لرواية العشاء السري (متى 26: 26). وهذا مثال لنا لنشكر الله على كل ما يهبه لنا من الخيرات ونلتمس رضاه علينا في قبولها، كما جاء في تعليم بولس الرسول:" فكُلُّ ما خَلَقَ اللهُ حَسَن، فما مِن طَعامٍ مَرْذولٍ إِذا تَناوَلَه الإِنسانُ بِشُكْر" (1 طيموتاوس 4: 4). ولكن من المُحزن أن نرى اليوم بدل البركة مدى سهولة التفوه بكلمات اللعن، والتحقير، والشتم.  ويُعلق البابا فرنسيس " أمام القربان المقدس، وأمام يسوع الذي صار خبزًا، علينا أن نتعلم أن نبارك ما لدينا، وأن نسبِّح الله، علينا أن نبارك ماضينا لا أن نلعنه، وأن نبارك الآخرين".  أمَّا عبارة " وكَسَرَها " فتشير إلى كسر الخبز من أجل الطعام. ويُعلق البابا فرنسيس "بدأ يسوع في كسرها، واثقًا في الآب. وتلك الأرغفة الخمسة تكاثرت بصورة عجائبية. هذا ليس سحرًا، بل هو ثقة في الله وفي عنايته". هذا ما فعله يسوع هنا في طبرية، وسوف يُعلنه في العشاء الأخير في اورشليم" ثُمَّ أَخَذَ خُبْزاً وشَكَرَ وكَسَرَه وناوَلَهُم إِيَّاهُ وقال: "هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم. إِصنَعوا هذا لِذِكْري " (لوقا 22: 19). أمَّا عبارة "وجَعلَ يُناوِلُها تَلاميذَه لِيُقَدِّموها لِلْجَمع" في الأصل اليوناني ἐδίδου τοῖς μαθηταῖς (معناها أعطى تلاميذه) فتشير إلى يسوع الذي يُطعم الناس من خلال الناس. يسوع يثق في قدرة التلاميذ على العطاء كما يُعطيهم فعلياً إمكانية ممارستها. كان توسط التلاميذ في توزيع الطعام لائقا ومساعدة للمسيح وذلك رمزا لعملهم في المستقبل في توزيع خبز الحياة الذي أخذوه من يد المسيح. ففعل " "يُعطي" (هو فعل في الزمن التامّ باليوناني أيّ غير كامل) وبالتالي يدل أنَّ تلاميذه بدأوا مسيرتهم كقنوات بتوزيع الخبز والسمك للبشرية. يسوع يصنع العجائب. فما كان مستحيلاً أصبح ممكناً. أليس هذا بعمل خارق؟

 

17 فأَكَلوا كُلُّهم حتَّى شَبعوا، ورُفِعَ ما فَضَلَ عَنهُمُ: اثنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَر.

 

تشيرعبارة "أكل" و"شبع" إلى المعجزة التي لم يبقَ في طاقة الآكلين أن يزيدوا على ما أكلوا.  فإشباع المسيح أولئك الألوف الذين تركوا بيوتهم وأعمالهم وأتوا بلا طعام رغبة في سماع أقواله مصداق لقوله "فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33). وهذه العبارة "أكل" و"شبع" رمز إلى المَن الذي أُعطي للشعب العبراني في البرية (خروج 16: 4). إنَّ يسوع لا يتجاهل احتياجات الإنسان، حيث انه يهتم بكل مرافق حياتنا، الجانب المادي والجانب الروحي أيضا. ويُعلق القديس أمبروسيوس " القلوب الجائعة للإيمان الراسخ لا تُشبَع إلاَّ بجسد المسيح ودمه". أمَّا عبارة " كُلُّهم " فتشير إلى رغبة يسوع في أن يقتات كل بشر من هذا الخبز الذي هو رمز الإفخارستيا، لأن الإفخارستيا هي للجميع، إذ قدَّم نفسه ذبيحة للإنسانية بأسرها.  أمَّا عبارة " ورُفِعَ ما فَضَلَ عَنهُمُ" فتشير إلى إبراز وفرة المواهب السماوية القادرة على إشباع المؤمنين (2ملوك 4: 43)، كما تشير أيضا إلى المائدة التي لا تزال مفتوحة للجميع؛ وتشير هذه الفضلات إلى طعام المّنِّ الذي أعطاه الله في البرية (خروج 17) وأخيرا تشير إلى القربان الأقدس، ومراد ذلك إبراز وفرة المواهب السماوية القادرة على إشباع المؤمنين (يوحنا 6: 35). نجد مثل ذلك في معجزة اليشاع في تكثير الخبز (2 ملوك 4: 4: 42-44)، حيث يقوم خادم النبي بدور يماثل دور التلاميذ. عندما نغني بعضنا البعض بالقليل الذي لدينا سنختبر عندئذ الغنى الحقيقي وسنحصل على أكثر مما نأمله. أن العطاء يُزيد بركة الرب في حياتنا كما جاء في القرآن "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"(سورة إبراهيم، 7). أمَّا عبارة "اثنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَر" فتشير إلى برهان قاطع على صحة المعجزة. هكذا أمر الله أن يحفظ قسط المَنَّ في التابوت مُذكرا بالمعجزة التي جرت نحو أربعين سنة في البرية (خروج 16: 35).  أمَّا عبارة " اثنَتا عَشْرَةَ " فتشير إلى عدد التلاميذ الذين اختارهم يسوع والذين يُعلمهم أنَّ يقدِّموا الخبز للجموع الجائعة، وهو رمزٌ إلى الاثني عشر من أسباط إسرائيل وبالتالي إلى مجمل الكنائس. ورقم 12 هو عدد الرسل، ولكل رسول 10 أفراد. فكان عدد الجماعة المسيحية الأولى في اورشليم 120 (أعمال الرسل 1: 15). ويشير الرقم 12 أيضا إلى الكمال. أمَّا عبارة "القفة" باللغة اليونانية (κόφινος) فتشير إلى سلة صغيرة من الخيزران الصلب تُحمل على الذراع للتسوق، وكان اليهود يحملون فيها مؤنهم زادهم فيها وقت السفر حتى يتجنَّوا شراء الطعام من الأمم الوثنية (مرقس 8: 8). والأرجح أنَّ كل رسول كان يجمع الكسر في قفة معه، ولذلك كانت قففهم أثني عشرة. وأمَّا السلال فهي خاصة لليونانيين. وكل هذه الدلالة تلمح إلى إطار يهودي لتكثير الأرغفة. وفي حين معجزة الخبز والسمك الثانية (متى 15: 37) تتكلم عن رقم 7 أي في إطار وثني. 70 هو عدد الأمم الوثنية، لكل خادم عشر أمم ٍ. أمَّا عبارة "الكِسَر" فلا تشير إلى الفتات التي سقطت على الأرض، بل إلى خبز الذي كسره يسوع وكل ما بقي بعد التوزيع عل الجمع. وهذه الكِسر من الخبز تُعطى طعاما للكنيسة حتى مجيء المسيح في سر القربان الأقدس (مرقس 6: 43). هذه المعجزة تشبه ما ذكر في العهد القديم عن معجزة المن في البرية على يد موسى (خروج 16: 35)، وما ذكر في تاريخ أيليا مع أرملة صرفه صيدا في معجزة الدقيق والزيت (1 ملوك 17: 14-16)   وأليشاع الذي أطعم مئة رجلٍ بعشرين رغيف شعير (2 ملوك 4: 24 -44).  وقصد المسيح أن يعلمهم من خلال هذه المعجزة انه هو الخبز الحقيقي لنفس الإنسان الجائعة وانه خبزٌ كافٍ لتغذية كل نفوس الناس إلى الأبد.  خلصنا يسوع بوسائل فقيرة كما يقول بولس الرسول "فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8: 9). يُخلصنا الرب بالفقر لأن من خلاله يشع الغنى الحقيقي الذي نحصل عليه من خلال هبة الذات المتبادلة.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 9: 11-17)

 

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 9: 11-17)، يمكن أن نستنتج انه يتمحور حول معجزة الخبز والسمك الأولى ومن هنا نبحت في وقائعها وعبرتها.

 

1) معجزة الخبز والسمك الأولى

 

جرت وقائع المعجزة في منطقة الطابغة على الشاطئ الشمالي الغربي من بحيرة طبرية حيث يسوع قد مضى إلى مكان قفرٍ بعد سماعه بمقتل يوحنا المعمدان طلبا للسكينة والهدوء، وذلك بعد رجوع تلاميذه من أعمالهم التبشيرية. وما أن نَزلَ إلى المكان رأَى جَمْعاً كَثيراً، فأَخَذَته الشَّفَقَةُ علَيهِم، أي تحركت أحشاؤه دلالة على حبه. وهذه الشفقة تعكس قلب يسوع ذاته في صورة فائقة من الرقة والحنان، فشَفى مَرضاهُم.

 

وعند حلول وقت طعام المساء اقترح تلاميذُه أن يصرف يسوع الجموع ليجدوا الطعام في القرى المجاورة. لكنه بدلا من ذلك كلّف التلاميذ أن يطعموهم بما لديهم، بخمسة أرغفة وسمكتين. جاء جواب يسوغ لهم كتحدٍ مستحيل كما يظهر من رد فعل الرسل " لا يَزيدُ ما عِندَنا على خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن، إِلاَّ إِذا مَضَينا نَحنُ فاشتَرَينا لِجَميعِ هذا الشَّعبِ طَعاماً" (لوقا 9: 13). قد بدا ما قُدم ليسوع من خَمسَةِ أَرغِفةٍ وسَمَكَتَيْن غير كاف، ولكن بين يديه أصبح أكثر من كافٍ، إذ يستطيع السيد المسيح أن يستخدم ويضاعف ما نقدمه له، سواء كان رغيفا سمكة أو وزنة أو وقتا أو كنزا، فعندما نعطي للمسيح تتضاعف مواردنا.

 

"ثُمَّ أَمَر يسوع الجُموعَ بِالقُعودِ على العُشْب، وأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيه نَحوَ السَّماء، وباركَ وكسَرَ الأَرغِفة، وناوَلَها تَلاميذَه، والتَّلاميذُ ناوَلوها الجُموع" (19). يركّز متى الإنجيلي الانتباه على الأرغِفة، فهي وحدها تُكسر وتُوزع وتُجمع. وفعل "كسر" يشير إلى عملية واحدة، والفعل ناول يدل على استمرار، ذلك أنَّ الطعام يتكاثر عند توزيعه. ونلاحظ أن متى الإنجيلي نسى السمكات في النهاية وركّز انتباهنا على الخبز الذي كُسر ووُزع وجُمع. إن هذه الرواية تكاد أن تكون صورة لرواية العشاء السري (متى 26: 26).

 

"فأَكلوا كُلُّهم حتَّى شَبِعوا، ورَفعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَر: اِثنَتَي عَشْرَةَ قُفَّةً مُمتَلِئةً" (لوقا 9: 20). نحن هنا في إطار يهودي لتكثير الأرغفة. أولا في أفعال "أكل" و"شبع" تلميح إلى المّنِّ الذي أُعطي للشعب العبراني في البرية (خروج 16/4). ثم رقم 12 هو رقم الرسل ولكل رسول 10 أفراد. فكان عدد جماعة المسيحية الأولى في اورشليم 120 (أعمال الرسل 1: 15). ويشير الرقم 12 أيضا إلى الكمال. وما بقي من كسر هو لجميع الشعب اليهودي الذي مثّله هؤلاء الخمسة آلاف. وفي حين معجزة الخبز والسمك الثانية (متى 15: 37) تتكلم عن الرقم 7 أي في إطار وثني. 70 هو عدد الأمم الوثنية، لكل خادم عشر أمم. ونجد أيضا القفة. "ورَفعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَر: اِثنَتَي عَشْرَةَ قُفَّةً مُمتَلِئةً" (لوقا 9: 17). "القفة" تستعمل لدى اليهود المتجولون لحمل الطعام فيها حتى يتجنبوا أكل طعام الأمم. وأمَّا السلال فهي خاصة اليونانيين الوثنيين.

 

" وكانوا نَحوَ خَمسَةِ آلافِ رَجُل" (لوقا 9: 14). العدد 5000 هو علامة الجماعة الكاملة في نهاية الأزمنة. هو 5 ضرب 1000. فعدد 5 هو عدد مقدس في العالم اليهودي، وعدد 1000 هو عدد كبير جداً وهو مكعب عشرة. ومتى الإنجيلي لا يحسب النساء والأولاد في شعائر العبادة بل الرجال وحدهم، فجاء في نصه " وكانَ الآكِلونَ خَمسَةَ آلافِ رَجُل، ما عدا النِّساءَ والأَولاد " (متى 14: 21).  وكل هذه التفاصيل تضعنا في إطار أو بيئة يهودية.

 

2) عبرة المعجزة: القربان الأقدس

 

معجزة إشباع الجموع بالخبز هي رمز للقربان الأقدس، سر الإفخارستيا الذي يعطينا السيد فيه جسده على شكل خبز، ويُشبعنا كلنا به إن المعجزة هي إيضاح للقربان المقدس، والتغذي بالمسيح في قُلوبنا بالإيمان بكلمته؛ وحيث أنَّ يسوع ليس فقط واهب الحياة، بل هو الذي يسند الحياة ويعولها، وهو ضروري للحياة المسيحية كالخبز اليومي للجسد، وهو الغذاء الكامل للنفس المؤمنة التي تتغذى به في القلب كل يوم وكل ساعة بواسطة الإيمان.

 

معجزة الخبز هي صورة لتلك المعجزة التي أجراها يسوع ليلة عشاءه الأخير، أشبع بها الناس من كل أمة وجيل من خبزه النازل من السماء ومن جسده الكريم المبذول من أجلهم على الجلجلة.  فان تحوُّل جوهر الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح هو ثمرة هبة المسيح لذاته، هبة حب أقوى من الموت، لهذا السبب الإفخارستيا هي طعام للحياة الأبدية، وفي هذا الصدد نسمع اعتراف القديس أوغسطينوس "أنا خبز الأقوياء. يقول الرب، أنتَ لن تحوِّلني إلى ذاتك، كما يحوِّل الجسد الطعام، بل أنتَ ستتحوَّل إليّ" (اعترافات 7، 10، 18). في الإفخارستيا لسنا نحن من نحوِّله، بل هو يحوِّلنا، فنضحي بهذا الشكل، أعضاء في جسده، أمرًا واحدًا معه".

 

في كل مرة نشارك في الذبيحة الإلهية، يحدث تجسد الرب وموته وقيامته مرة أخرى، بشكل سرّي وأمام أعيننا. لكننا لسنا مجرد متفرجين لشيء يحدث في الخارج.  يحضر يسوع في الخبز الإفخارستي، إنه حقًا بيننا، يضع نفسه بين أيدينا، ومن خلال اقترابنا من التناول، نندمج مع المسيح، وتبدأ حياته بالتدفق داخل حياتنا، ويجعلنا أكثر شبهًاً بحياته، ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر "في سر الإفخارستيا يستمر في محبته لنا حتى النهاية‘، وصولاً إلى هبة جسده ودمه" (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، سر المحبة، 1).

 

بالتناول نحن نحمل في ذواتنا جسد الرب، نحفظ ضمانة حب الله، المُتجسد في المسيح، والذي هو أقوى من الشر، من العنف ومن الموت. معنا يسوع الإفخارستي، القائم من الموت، الذي قال: "أنا معكم طول الأيام، حتى انقضاء الدهر" (متى 28، 20). لقد ذكّر البابا بندكتس السادس عشر، "بأن سر الإفخارستيا هو العطية التي فيها يهبنا يسوع المسيح ذاته، معلنًا حب الله اللامتناهي لكل إنسان" (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، سر المحبة، 1) لكي ما يتمكن كل امرئ، لدى قبوله ليسوع أن ينال الشفاء والتجدد بفضل قوة حبه.

 

عندما نتناول جسد الرب، ندخل في شركة مع حياة المسيح بالذات، في دينامية هذه الحياة التي توهب لنا ولأجلنا كما جاء في تعليم بولس الرسول: "أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟  فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد" (1 قورنتس 10: 16 – 17). فالإفخارستيا، بينما توحِّدنا بالمسيح، تفتحنا أيضًا على الآخرين، وتجعلنا أعضاء بعضنا لبعض: لسنا منفصلين، بل نحن واحد فيه. فالشركة الإفخارستيا تُوحِّدني بالشخص الذي هو قريب مني، حتى ولو لم يكن هناك علاقة جيدة معه، وأيضًا مع الإخوة البعيدين، في كل أنحاء العالم. لا يمكننا أن نعيش هبة الشركة والوحدة فيما بيننا سوى من خلال اكتشاف متجدّد لسر الإفخارستيا.

 

وتتضمن معجزة الخبز والسمك دعوة علنية لكل شخص لكي يُقدِّم إسهامه. بعد أن بارك يسوع الخبز أعطاه لتلاميذه ليوزَّعوه على الجمع. فالخبز ليس مجرد منتجًا استهلاكيًّا، بل هو وسيلة للمقاسمة والمشاركة. في الواقع، لا يتكلم لوقا في هذه معجزة عن تكثير الأرغفة بقدر ما يتكلم عن العطاء، والتوزيع ومشاركة يُنعشها الإيمان والصلاة وبالتحديد لا يتم التركيز في هذه المعجزة على فعل التكثير، إنما على فعل المقاسمة والمشاركة. فالمشاركة هي التي تؤمن الحياة. ويُعلق البابا فرنسيس "إن "اقتصاد" الإنجيل يتزايد من خلال المقاسمة، ويغذّي من خلال التوزيع".  فالأرغفة الخمسة والسمكتين ترمز إلى مساهمتنا القليلة ولكن ضرورية، والتي يحوِّلها يسوع إلى عطية حب للجميع. ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر "يتابع المسيح، اليوم أيضًا، حضَّ تلاميذه على الالتزام شخصيًا (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، سر المحبة، 88). تدعونا هذه المعجزة للإيمان بالعناية الإلهية وتقاسم القليل الذي نملكه وعدم الانغلاق على ذاتنا مما يؤدي إلى تحقيق العدالة بين البشر. لنقاسم الجائعين من خبزنا فنحن أيضا قد أخذنا من يد الرب.

 

حيث أنَّ المعجزة ترمز إلى الإفخارستيا فهي إذاً دعوة إلى القداسة وإلى هبة الذات للإخوة، لأن "دعوة كل منا هي أن يكون، مع يسوع، خبزًا يُكسر لأجل حياة العالم" (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس، سر المحبة، 88).  ويقول البابا فرنسيس "إنّ الإفخارستيا تسمح للمسيحيين "بعدم العيش من أجل أنفسهم إنما كلّ واحد من أجل الآخر". إذ " يسوع جعل من نفسه قربانًا من أجلنا، ويطلب منا أن نبذل أنفسنا من أجل الآخرين، وألاّ نعيش من أجل أنفسنا، إنما من أجل الآخر"(البابا فرنسيس عيد القربان الأقدس، الفاتيكان 2019).

 

وأخيرا يظهر يسوع بقوته ومجده في هذه المعجزة. يسوع ما زال حيّا حتى يومنا هذا من خلال القربان الأقدس، يعمل العجائب خاصة عندما تداهمنا المشكلات، ويشجعنا أن نؤمن بكلمته. وهو يريدنا أن نختبر مثل هذه العجائب بمساعدته في وقتنا هذا، ولكن بشرطين. أولا، أن نثق بمحبته ونؤمن بقدرته الفائقة. ثانيا، أن نشارك الآخرين بما نملك، "أعطوا تعطوا".

 

 

الخلاصة

 

يسوع كثّر الخبز وأطعم الجموع الجائعة. وجاءت هذه المعجزة بعد اِختيار التلاميذ وإرساليَّتهم للكرازة بملكوت الله (لوقا 9: 1-6). غاية الإرساليَّة هي إشباع البشريَّة الجائعة. جاءته الجموع في خلوته مع تلاميذه تطلب سماع كلام الحياة منه، وتطلب شفاء لأمراضها، فلم يتأخر الرب عنهم. أعطاهم ما يريدون، لم يصرفهم بجوع أجسادهم بل أشبعهم بالخمسة أرغِفة والسمكتين، دون أن يطلبوا هم ذلك. أنه يهتم بتدبير أجسادنا مثل اهتمامه بأرواحنا (لوقا 9: 10-17). ونؤمن نحن المسيحيين أن يسوع قد أصبح جسدا، وأصبح إنسانا مثلنا ولا يزال جسده بمثابة هبة تُقدم لنا كل يوم في القربان الأقدس.

 

يمكن من خلال الإفخارستيا أن نكون على استعداد دائم لإعطاء نفوسنا للرب، الذي يتم تجديده باستمرار عندما يرفع القربان الأقدس خلال القداس. ومن هذا المنطلق، إن للإفخارستيا مكانة أساسيّة كما جاء في توصيات البابا فرنسيس: "بينما نحتفل بعيد جسد الربّ ودمه، أنا أدعوكم أن تعطوا لسرّ الإفخارستيا مكانة رئيسية في حياتكم. إنه هو من يجعلنا نعيش من حياة المسيح. هو من يصنع الكنيسة ". 

 

ونختتم مع رسالة البابا فرنسيس "في القربان الأقدس يجد الخلق أكبر سمو له ويصل إلى علاقة حميمة معنا. القربان الأقدس هو المركز الحيوي للكون، والمركز الذي يفيض بالمحبة والحياة التي لا تنضب" (كن مسبحا).

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع المسيح، الخبزُ الحَيّ؛ أنت تقوتنا بهذا الخبز على الأرض فنشعر بثمرة فدائنا، " نعلِنَ مَوتَ الرَّبِّ إلى أن يَأتي" (1 قورنتس 11: 26) ونشارك إخوتنا في خبزنا المادي الروحي فنسير معا إلى الوليمة السماوي في الأفراح الأبدية. آمين.

 

 

الاحتفال بعيد القربان المقدس

 

تعود الاحتفال بعيد القربان المقدس إلى الراهبة البلجيكية القديسة جوليان دو مون كورنيليون (1192–1258)، التي أصبح معرّفها بابا: أوربانوس الرابع الذي أسّس عيد القربان المقدّس وأوكل للقديس توما الأكويني مهمّة كتابة النصوص الطقسية لهذا العيد الذي حدّده يوم الخميس بعد مرور عشرة أيام على عيد العنصرة. ثمّ ثبّت هذا العيد البابا إقليمنضس الخامس في العام 1314.

 

تكريما للقربان الأقدس ألَّف العلاَّمة اللاهوتي القديس توما الأكويني بتكليف من البابا أوربانوس هذا النشيد:

فلنوقِّر باحترامٍ        سرَّ فادينا الصَّمدْ

وليَزُل شرعٌ قديمٌ     عندما السِّرُّ استَجَدْ

أقنَع َالإيمانُ حِسًا     كانَ بالنَّقص جَحَدْ

وِلْيكُ الآبُ مجيدًا     والذي منهُ اتَّلدْ

ثُمَّ روحٌ بانبثاقٍ     منهُما قبلَ الأبدْ

فلنوقِّر باحترامٍ        سرَّ ثالوثٍ أحد. آمين