موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع عشر (الإنجيل مرقس 6: 1-6)
موهبة مولودة فينا، أننا بديهيّاً نكرِّم ونُجلِّل بعض شخصيات هذا العالم، بالنّظر لما قدّموه أو يُقدِّموه، إن كانوا بعدهم أحياء، من خدمات أو أعمال بطوليّة أو علمية. فمن ينسى تكريم الشخصيّات السنوية في أوسلو، حيث علماء وأبطال مَن كلِّ أنحاء العالم، تختارهم لجنة منح الجوائز، لتكافأهم على ما يقدِّمونه للبشرية، من جديد في العلم والأدب والطب، هذا وتاج المكافآت هو اختيار رجل السّلام السّنوي. كما وكل شعب يُكرِّم رجاله، المثاليين وأبطاله، كالرّياضيين والمُمثلين، ليبقوا مثالا يُحتذى بهم من الأجيال النّاشئة. وهذا ما تفعله الكنيسة عندما تٌعلن بعض المُميَّزين قدّيسين، وهذا قمّة الإعتراف بشخصٍ، وإلى الأبد. أليس ذلك شيءٌ جميل.
من لا يشتاق لمشاهدة هذه الشخصيات بل مقابلتَها والتّمعُّنَ بوجهها والسلام عليها، فيشعر الإنسان بنفسه، وكأنّه في السّماء السّابعة، مثلما يقول المثل، أي في قمَّة السّعادة. كم من مرّةٍ نسمع في الإنجيل عن إعجاب النّاس بيسوع، فها لوقا يذكر "جميع الّذين في المجمع كانت عيونُهم شاحصة إليه"(لو 29:4). وفي الأحد الماضي، سمعنا بعدما شعر يسوع أن أحداً قد لمسه، سأل: من لمس ثيابي؟ فأجابه بطرس: أنت ترى الجمع حولك يزحمك، وتسأل من لمسني؟(مر11:5) من هنا نفهم أن يسوع كان شخصية مُذهلة، قلباً وقالباً، لجميع النّاس، أو كما يُحب الشبيبة أبطالها وتسميهم بالسوبرمان. فيبدو أن يسوع أيضاً كان السوبرمان زمانه. إذ وجهه كان يعكس كلَّ جمال الطبيعة، التي خرجت من يد الله الخالق، وكان قد جمّلها بكل الصّفات الجذّابة. فكان النّاس بقربه، يشعرون بالحرارة والحماية والأمان والإطمئنان، التي ما كانت تشعُّ على البشر من أيّ!ِ شخص غيره. فقط أعين الفريسيّين ما كانت ترى فيه، ما كانت عيون الآخرين ترى. كانت لهم عيون ولا ترى. هم ما كانوا يرون فيه إلا منافسا. كانوا دائما يرون فيه شيئا يستحقُّ الإنتقاد والتّذمر منه ومن تعليمه. فها هم، بعد أوّل دخولٍ له في هيكل مدينته النّاصرة، يشكّون في أمره وصدق رسالته. أوّلا يشكّون في موهبته الخطابية. من أين له هذا؟ لكنها لم تجرّهم إلى الإيمان به، فنتساءل: لماذا؟ ونجيب حالا: للسبب الرّئيسي: إنه واحد منهم، ابنُ النّاصرة، فكيف يدّعي بامتلاك روح النّبوءة. من هو؟ أليس هو النّجار ابن مريم ويوسف؟ فكيف يعلو علينا، في أوّل خطابٍ نسمعه منه؟ وبالإختصار، قال كلمته المشهورة: ليس لنبي كرامةٌ في وطنه!
هناك أقوال وعبارات تاريخية نادرة، تحتفض بحيويتها، في كل عصر ووقت، كالأغنية النّاجحة، يُحبُّ الناس سماعها في كل مناسبة. من هذه الأقوال، كلمة يسوع. ليس لنبي كرامة في وطنه. ونقول اعتماداً على هذه المَقولة: لذا لا تُرسِل الكنيسة كهنة ومبشِّرين في مسقط رأسهم، لأن نجاحهم سيبقى محدودا، بين الشبيبة التي أُخِذوا من وسطها، وسيكون أهلهم دائما مُعرّضين لانتقاد النّاس لهم. إذ لتغلغل الرّوح العشائرية، علي الواعظ أن يبقى متحفِّظا في نبرة صوته أو أقواله. " ولم يستطع أن يُجري هناك شيئا من المعجزات. إذ كانوا سيتهمونه بمُعاطاة السّحر وأنّه بقوّة رئيس الشّياطين يعمل العجائب، كما سيتّهمونه لاحقاً. علما بأن صُنعَ العجائب مرتبط بإيمان القوي بالله. لو كان لكم إيمان بقدر حبَّةِ الخردل، لكنتم تفعلون هذه الأفعال بل وأكثر. يسوع بالذّات لا يقدر على كسر مناعتهم ضد الإيمان. فلا شكله الجذّاب، كما ذكرتُ في البداية، ولا أعماله وعحائبه، قدرت أن تقضي على نقص الإيمان فيهم، بل ولا قبوله كالمخلِّص المنتظر.
الشعب الإسرائبلي، قالت عنه التوراة، غليض الرقبة عنيد. لذا فقد سمح الله بإذلاله وقصاصه، إذ هو بعد دخوله ارض الميعاد، افتكر، لأنه الشعبُ المختار، فهو لا يحتاج لإجهاد نفسه بالمحافظة على العهد والوصايا، فجاءت جيوش الأشوريين أوّلا ثم جيوش نبوكدنصّر من بابيلون العراق، واحتلّت أرض الميعاد منه، ودمّرت له هيكله، الذي ما كان يشابهه هيكل في ذلك الزّمان. عندها، وعندها فقط، وعى الشّعب على غلطته، وراح يندب حظّه التعيس، من على ظفاف نهر بابيلون: on the river of Babylon! ويتذكّر أورشليم. فحنَّ قلبُ الله عليه من جديد، واختار نبيا من هذا الشعب، هو حزقيال، حيث في رؤيا، قدّم له الله كتاب التوراة قائلا له: كُلْ كلمتي واذهب وبشَّرها للشعب العنيد، بأن خلاصه قريب، إن هم تابوا عن معاصيهم ورجعوا في قلوبهم إلى الله يهواهم. لكن ومن جديد، ولأن حزقيال كان واحداً منهم، فلم يُصدّقوه، لأنهم لم يكونوا يعرفون الحلول السّلمية، بل كلُّ الحلول لهم كانت تأتي عن طريق الحرب والمقاومة. وهذا يدلُّنا، لماذا هم لم يقبلوا بيسوع كمخلِّص مسالم، بل رفض حمل السّلاح لمحاربة المستعمر الرّوماني وطردِه من البلاد ، بل وأيضا قد حلّل له جمع الضرائب والجزية، بدل الخدمات الإجتماعبة، التي كان يُقدِّمها للشعب. أدّوا ما للقيصر للقيصر، وما لله لله! ثاروا عليه ورفضوه.
عَرَضُ حزقيال عليهم قد باء بالفشل، ولو أنّه عرضُ إلههم يهوى، إذ النّبي ما هو إلا بوق الله. فما يضعه الله في قلبه أو على شفتيه، به كان يبشُّر. لكن كما قال الله في مكان آخر: إنَّ أفكاري هي غير أفكاركم، وطرقي هي غير طُرقُكم. فالشعب المذلول في بابيلون، ما كان يُصدّق أن الله سيخلّصهم من الإستعمار بدون حرب ومعارك. ففشل حزقيال بتغيير عقل الشعب، ولذا دامت فترة العبودية أطول ممّا كانوا يفتكرون.
هذا وما كان مصير يسوع أحسن من مصير نبيّه حزقيال. يسوع ابتدأ رسالته بالكلمات: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله. الله أرسل ابنه لشعبه، ليُحرِّره بطريقة سلميّة. فاستاؤا من هذه الطّريقة، لأنهم كانوا مقتنعين أن المستعمر لن يترك البلاد بدون إشهار السّلاح عليه. وأمّا يسوع فشدّد على الطريق السلمي: إذ من بالسلاح يأخذ ، بالسّلاح يُؤخذ. ومن أراد أن يأخذ قميصك فأعطه أيضا معطفك. فكان هذا لهم آخر ما افتكروا فيه، لتحرير البلاد. هذه طريقة مُريحة له هو، كما افتكروا، لكنها لم تُعجبهم، لأنّها ليست طريقتهم. لقد استاءوا منه، بل ورفضوه: جاءَ إلى بني قومه، إلى خاصّتِه، وبنو قومِه، أي خاصّته لم تقبله.
وسألوه أيَّ علامة تُرينا؟ وإذ قال لهم: الأعمال التي ترونها مني هي تشهد لي، أصمّوا آذانهم كي لا يسمعوه، بل قِسْماً منهم تناولوا حجارة ليرجموه، لأنه قال لهم: إنَّ روح الله حلَّ عليّ. فاستهزؤا منه فقال كلمته المشهورة: ليس لنبي كرامة في وطنه
من سؤ الحظ، مثل ما يقول المثل: الأقارب عقارب. وهؤلاء لا نقدر أن نختارهم كالأصدقاء الغُرباء. فكثرا ما تكون العلاقة مع الناس الغُرباء، أصدق منها مع الأقرباء والمعارف. هذا أيضا كان موقف أهل النّاصرة عن قريبهم وابنِ بلدِهم يسوع، ممّا أجبره على قول كلمته المشهورة: ليس لنبي كرامة في وطنه، فهي تُعبِّر عن تأكيد لهذا الكلام. إنّها غريزة في الإنسان، أن يرى في القريب فقط عيوبا، ولا يُظهر له إلاّ عدم التقدير وسؤ المعاملة بدل الإحترام، وأما الصّفات الحسنة فيراها في نفسه.
إنّ أهل الناصرة كانوا منبهرين من ظهوره بينهم يوم السبت في الهيكل. لكن ما أن انتهت الصلاة واجتمعوا حوله يُجادلونه، حتّى تغيّرت أفكارهم. إذ كبف يتعالى عليهم واحد منهم، مُدَّعيا روح النُّبوَّة، وهم يعرفونه جيّداً: أليس هو النّجار ابنُ مريم ويوسف. هو ابن النّاصرة، وهل يخرج من الناصرة شيءٌ صالح؟. هذه كانت فكرة الّذين يعرفونه.
والآن السُّؤال: ما هي فكرتنا نحن، أو بالأحرى ما هي فكرة العالم الحاضر عنه؟ هل تغيّر التفكير لحلِّ المشاكل بالطريقة السّلميّة، التي اعتمدها يسوع، لزمانه ولكل الأزمنة؟ أما يبرهنُ الواقِعُ العكس بالعكس؟ الحروب والمناوشات السّياسيّةُ المُفتعلةُ، زادت وكثرت وتوسّعت، مّما أدّى إلى إنتاج الأسلحة، الفتّاكةِ هذه المرّة، ووقوعها بين أيدي مَنْ يُسمُّون أنفسهم الدّواعش. فما عاد من ملامحُ سلام في الأفق القريب، بل زاد اعتقادنا كالشعب في عبوديَّته، أن الوصول إلى السلام، لا يتمُّ إلا بالحرب، كما قال الرّومان: إن أردتَ السّلام فتهيّأ للحرب. إننا نَكْذِبُ على أنفسنا، إذ كم من سنة، ونحن نحاول الوصول إلى السّلام في شرقنا بالسّلاح والتّهديد، كأننا لا نعرف لا كلمة السّلام ولا الطُّرقَ السّلميّة، لكن ماذا قطفنا؟. فبإمكان الله أن يُرسل نبيّا بعد نبي، وقد يكونون من أبرز شخصيات العصر، كبابوات نصف القرن الماضي، إذ كلُّهم كانوا من عُقلاء وحكماء العصر، وإلا لما كانت الكنيسة أعلَنَتْهم كلَّهم قدّيسين. كما وهناك بعض المختارين، كالأم تريزا، أو السياسيين المعروفين، كالمهاتما غاندي في الهند، والمطران هيلدا كامارا في الأرجنتين، والسادات بخطوته الجريئة للوصول إلى السّلام، لم يهتم بهم العالم، لأن صوت عائلة بوش وجنرالات حروبهم، مثلا شفارتسكوبف فب حروبهم ضدَّ العراق في أواخر القرن الماضي) كانت أعلى. هؤلاء كلُّهم، سواء بأقوالهم أو بحياتهم، أشعلوا بيننا فقط حروباُ طاحنة بأسلحتهم المُحرّمة، التي سبّبت دمارا لا لا سلاماً. للأسف، نقول، من يفتِّش اليوم عن السّلام بوسائل سلمية؟ ومن لا يقبل بفكر العصر، لا يُسمَع صوتُه، حتّى لا نقول هو مرفوض كأنبياء الله.
كلّ سنة في أيار تحتفل الكنيسة في أوروبا بأحد حماية الحياة البشرية في جميع مراحلها. حضرت بهذا الخصوص عام 1990 جلسة نقاش، عن الإجهاض أو قتل الجنين. هذا وقد كان أكثر المشتركين في الجلسة نساء. وطبعا كان أكبر عدد منهنَّ من دعاة الإجهاض بدون رادع ولا حدود، تحت شعار "أحشائي لي". حيث المرجع الآخير، قلن، هو المرأة نفسها، التي يجب أن تكون لها كلمتها الآخبرة: إما الإجهاض أو الحياة، إذ هي المسؤولة عن أحشائها، لا حق للكنيسة بالتّدخل في شأنهن الخاص، إذ هنَّ اعتبرن تدخُّلَ الكنيسة، هضماً لجق المرأة، بل وعليها أن تعتذر منهنّ عن الماضي. ألا يدلُّ هذا عن موت الضمير في هذه الفئة من النّاس، بل وفي كلِّ مَن يسانِد في هذا المجال؟ أذكر أن مطرانا قال بهذا الصدد: أوروبا أصبحت أثناء الحرب العالمية الثانية مقبرة جنود، امّا اليوم فقد أصبحت مقبرة لموتى الجنين!
إن زماننا هو زمن أزمة في الإيمان. وإن الكتب عن هذه الأزمة هي كثيرة، مثل: هل من مستقبل للديانة المسيحية؟ أو: لماذا أنا أيضا أبقى مؤمناً... وغيرها. بفقدان الإيمان، قد ضيّعنا إتّجاه حياتنا، وأصبح التفكير بالمستقبل يُخيفنا، لأننا ما عدنا نوجّه حياتنا بحسب وصاياه، وعدنا نعيش في سرداب مُعتم. الوُعّاظ في القرون الوُسطى كانوا بمثابة الإعلام والإذاعات اليوم. من بينهم واعظ من رهبنة الدومينيكان، اسمه لاكوردير، قال: إمّا أنْ يكون الله هو مستقبلنا، أو لا مستقبل لنا. فإن أردنا أن نكون سُعداء، وإن أردنا أن نعيش بأمان، فلا طريق لنا سوى طريق الإيمان والعمل بوصاياه. أما كان هذا همُّ يسوع، حيث تساءل: تُرى متى عاد ابنُ اليشر، هل سيجد إيمانا على وجه الأرض؟ (لو 8:18). هذا الإيمان قبلناه في صغرنا. أهدانا إيّاه الله كنورٍ لحياتنا. علينا أن نعيشه في السرّاء والضرّاء، في السّرِّ والعلنيّة. من يستحي بي قدام الناس، أستحي أنا به قدام أبي الّذي في السّموات. كلمتك نور لخطاي يا الله! هذا الإيمان يجب علينا أن نشهد له في حياتنا اليومية، لنضيء الطريق لغيرنا. وبالتالي لننال النصر النّهائي عند خالقنا، إذ كما يقول يوحنا: إنَّ كلَّ مَن وُلِد من الله يغلب العالم، وهذي هي الغلبة، التي بها نغلبُ العالم: إيمانُنا(1 يو 4:5). فليكن جواب لطرس على سؤال يسوع: وهل تريدون أنتم أيضا أن تتركوني؟ فأجاب لطرس: إلى مَن نذهب يا رب؟ إن عندك كلمةُ الحياة! آمين!