موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٦ يوليو / تموز ٢٠٢٤

لنسمع ... لنتأمل ... لنحيا

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

المونسنيور بيوس قاشا، راعي كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد

 

نعيش في زمن كثرت فيه أسباب العثرات كاللذات الدنيوية والسيطرة الشخصية عبر القرابة والكراهية والأنانية، وهذا ما جعلنا نصاب بمرض التوحد والإنفرادية وكأنّ الدنيا هي لنا وليس لغيرنا أو لكلينا. ومما يزيد في هذا الفكر استملاكنا على العلم الحديث من تكنولوجيا الحاسوب والموبايل وأخرى كثيرة في أبوابها وذلك بسبب انتشارها السريع واستملاكنا لها إنْ كنّأ فقراء الحال أو أغنياء الدنيا. وهذه التكنولوجيا نلاحظ أن انتشارَها سريعٌ جداً واستملكت علينا في جميع جوانب الحياة، والحقيقة هي لخدمتنا جميعاً إذا عرفنا أن نستفيد منها ونستغلّها لصالحنا ومشاريعنا، ولكن الكثير منا لا يجعلها إلا في المسيرة السيئة، وربما أصبحنا أكثر شعوب العالم استعمالها حتى وصل بنا الأمر إلى أن تستملك قلوب مكرّسينا ومكرّساتنا وأديرتنا، وأصبحنا نسترشد عبرها ولا نعمل إلا ما يُكتَب لنا عبر صفحاتها وذلك بسبب إدماننا لها، وهكذا ازدادت روح الانفرادية والانعزالية وأدّت بنا إلى فقدان الكثير من واجباتنا الدينية ومن قيمنا الروحية وربما واجباتنا العائلية والتبشيرية والكنسية شئنا أم أبينا، عبر إرادتنا وحسب طلبنا لأننا لا نصغي إلا إليها، فالويل لنا من ذلك.

 

وأمام كل ذلك فالبابا فرنسيس يحذّرنا وينبّهنا من خطر سيطرة روح الوحدانية وروح العالم علينا وخاصة - كما يقول – على الذين يهتمون ويتحمّلون مسؤوليات جسيمة ومهمة كالأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والذين هم في هذا السلك المماثل. فالكنيسة تدعونا اليوم إلى السير عكس تيار العالم كي لا ننجرف إلى ما هو أسوأ مما نحن فيه، وهكذا يقول أيضاً البابا القديس يوحنا بولس الثاني، ويوحنا الرسول يقول "فإنّ كل ما في العالم شهوة الجسد والعيون والمعيشة ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته" (ا يو15:2-17).

 

من هنا ننطلق لنقول أن رسالتنا الوحيدة في هذه الدنيا هي أن نُريَ الناس طريق السماء عبر ممارسة الإيمان وليس أن نتشبّه بأبناء هذا الزمان، أي أن لا نكون دنيويين وإنما سماويين ولكن في هذا العالم وعبر ذلك "سيضيء نورنا أمام الناس" (متى16:5). وبذلك سنجعل من دنيانا سماءً ثانية فنشهد للذي أحبنا ونعكس هذا الحب تجاه إخوتنا البشر برسالتنا وحبنا لها وعبر حياتنا اليومية وإلا ما الفائدة في أن نجعل رسالتنا وظيفة دنيوية نأكل خبزنا منها ونحن لسنا مخلصين لها. فنحن لسنا أسماء متكوبة في الدنيا بل "ما يُطلَب من الوكيل أن يكون أميناً" (1كو 2:4) وأن نشهد لإيماننا ومسيحيتنا ومن أجل جميع البشر أشرار كانوا أم أخيار، فلا نهمل الأشرار وإنما نرافقهم عبر طريق السماء ليسيروا مع الأخيار.

 

أمام هذا كله علينا أن نعمل كي ندرك أن إيماننا ما هو إلا بذرة تمدّ جذورها في عمق مسيرة دعوتنا وحياتنا كي تعطي ثمراً جيداً. فالثبات في المسيح لا يكون عبر الزركشة في الملابس وعبر القامات وعبر الأصوات واللهو والنوم والسفر واقتناء التكنولوجيا فقط وإنما دعوتنا في الثبات عبر إيماننا والعمل كرسل مدعوّين وُهبوا نعمة خاصة فحملوا رسالة المعلّم "المسيح الحي" للمساهمة في نشر ملكوت الرب رغم سيطرة العولمة المزيفة على مسار حياتنا. لذا علينا العمل على أن نجعل هذه التكنولوجيا لخدمة المؤمنين ليروا عبرها طريق السماء كي لا نبتعد عن حقيقة إيماننا، فالإيمان الذي لا يتجسد في نفوسنا وقلوبنا هو إيمان شكلي وباطل، وهو صبغة ظاهرية وفن عولمي ورسالة الدنيا الزائلة، ولهذا من المؤكد أننا لا ندرك حقيقة رمزيته. فنعمة الإيمان تُدخلنا في علاقة شخصية وإيمانية وحيّة مع الذي انتخبنا وفرزنا من بطون أمّهاتنا وجعلنا رسلاً ومكرَّسين له، وقوة الكنيسة والجماعة تكمن في نوعية عيش الدعوة عبر حياتنا المسيحية وعيشنا للإنجيل الذي في أحيان كثيرة نتّهم المؤمنين الأبرياء والبسطاء بعدم فتحه، ولكن الدعوة تقول لنا: علينا أن نقرأ الإنجيل يومياً لأنه غذاء لمسيرة حياتنا. ودعوتنا لا فقط أن نراه نظرياً ولكن أن نعيشه عملياً وأكيداً عبر الإيمان الذي به ندرك قدرة الله يوم زُرعت في قلوبنا بقوة الروح الذي ينير طريقنا والذي حلّ علينا يوم دعوتنا. وجمال دعوتنا لهو في أهمية رسالتنا والتي تدعونا إلى أن نعيشها نحن أولاً ثم مؤمنينا، وأن نكون أمناء لها وليس تُحجب عنّا عبر أمور دنيوية. وعلينا أن نكون شاهدين حقيقيين لبذرة الإيمان الذي نحياه عبر فرح السماء والذي نلناه في عماذنا وعبر تكريسنا له.

 

ولننتبه إلى أن الدنيا مهما تقول ومهما تكون لنا فهي غير باقية ولا تُشبع رغباتنا الحقيقية وإن كانت تلبي بعض رغباتنا الدنيوية ولكن ذلك خسارة. فلا الدراسات العلمية ولا الخطابات ولا أنواع التواصل الاجتماعي – وإن كان كله جميلاً – ولكن لا يكفي لأن نبقى أمناء وأوفياء لدعوتنا ولكن مشاركتنا الشخصية بحقيقة إيماننا وعيشه والذي حملناه في قلوبنا. وما نحمله للبشر هو شهادة حياتنا ووفاء مسيرتنا التكريسية وليس أمور الدنيا. وإنني في ذلك أدرك ما أقول فلعلّ هناك مَن يفتح آذانه ليسمع ويفكر في عقله ويحيا دعوته وإلا لماذا كان وكنّا ولماذا أصبح وأصبحنا.

 

فالسماء لا تُباع ولا تُشترى بل نعمل من أجل ربحها كجوهرة وجدناها في دنيانا. فلنذهب ونبيع كل شيء من أجل الحصول على الجوهرة، وهذا ما يتطلب منا شهادة حياة وليس شعاراً أو أزياء نرتديها، أو نوماً هنيئاً لساعات النهار المتأخرة. فالدعوة أثمن وأسمى من هذه الأمور الفانية، إنها دعوة محبة من أجل شهادة الحياة. فلنسمع نداء دعوتنا الحقيقية، ولنتأمل عظمتها وعظمة الذي دعانا، ثم لنحياها في صميم الفؤاد من أجل مؤمنينا... نعم من أجلهم، ليس إلا!.