موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تقدمة يسوع للهيكل (ج)
مُقدّمة
في هذا المقال الّذي يتوافق بحسب النصوص الكتابيّة مع عيد تقدمة يسوع إلى الهيكل بحسب الطقس اللّاتينيّ. يدعونا كاتب العهد الأوّل بنظرة نبويّة إستباقيّة، إذ يشيير النبي ملاخي (3: 1-4) إلى مخطط الله الّذي يحمل الرجاء من خلال النّور والـمجد الّذي يأتي مُرسل من لديّه ليدخل الهيكل حاملاً تقدمة مرضية للرّبّ من خلال الفداء الّذي يقدمه للشعب. بالعهد الثاني يقدم لنا لوقا الإنجيلي (لو 2: 22-40) النص الّذي ينفرد به دون عن باقي الإنجيلييّن ليعرض لنا إتمام هذا المخطط الإلهي من خلال يسوع الطفل المحمول على أيديّ مريم ويوسف داخلاً الهيكل، والـمُقدم كنهما كابن بكر للرّبّ. يهدف مقالنا هذا لقبول هذا الطفل الـمرسل من الله الآب لنا حتى يُدخلنا في عالم الآب الـممجد والنورانيّ متى تقدمنا مع سمعان الشيخ لنباركه وحنة العجوز لنحمده.
1. الــمُنتظر (ملا 3: 1-4)
تأتينا كلمات النبي ملاخي (3: 1- 4)، وهو أحد الأنبياء الصغار، للوهلّة الأوّلى تأتي كلمات النبي بنبرة عزاء ورجاء إذ يكشف عن مخطط اللّه الـمُعلن له قائلاً:
هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريقَ أَمامي، ويَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّات. فمَنِ الَّذي يَحتَمِلُ يَومَ مَجيئه ومَنِ الَّذي يَقِفُ عِندَ ظهورِه؟ فإِنَّه مِثلُ نارِ السَّبَّاك كمَسْحوقٍ مُنَظِّفٍ لِلثِّياب. فيَجلِسُ سابِكاً ومُنَقِّياً الفِضَّة، فيُنَقِّي بَني لاوي ويُمَحِّصُهم كالذَّهَبِ والفِضَّة، فيَكونونَ لِلرَّبِّ مُقربينَ تَقدِمَةً بِالبِرّ، وتَكونُ تَقدِمَةُ يَهوذا وأُورَشَليمَ مَرضِيَّةً لِلرَّبّ، كما في الأَيَّام الماضِيَةِ والسِّنينَ القَديمة.
هناك حامل الرسالة الإلهيّة والآتي من قِبل الله، سيأتي بهيكل الرّبّ ويكون له دور قوي في التوبة ومحو الخطايا والألم والمرض والشّر. لذا يستخدم النبي إستعارة "كمسحوق منظف الثياب" الّذي يعيد اللون والنظافة كملبس جديد. بل يأتي برّوح النقاورة لينقي ويقرب لله تقدمة مرضيّة. هذا الابن يحمل وجه الله بل يحمل سماته وهي النّور والبهاء والّذي بمجده يشرق في هيكل الرّبّ ولكن رسالته أنّ يعلن فداء الله ويكشف عن وجه الله الحيّ. لذلك تأتي كلمات النبي ملاخي والّتي توجهنا وتدعونا بالإنتظار لقبول عن النّور والمجد الإلهيّين. مدعويّن بأللّا نخشى هذه نبرة النبي الّذي يعلن تقدمة البرّ كما أنّ تقدمات يهوذا وأورشليم ستكون مرضية للرّبّ وسيصران بمثابة النّور والمجد الإلهيّين. لذا على هذا المنوال يعلن لوقا (2: 21-40) بالعهد الجديد الطفل الّذي سيُتمم هذه النبؤة وسيقدم بالبرّ حاملاً هذيّن النعمتيّين ليحررنا من الظلام والإنحطاط البشريّين ليرفعنا الابن الإلهيّ إلى عالم النّور والمجد الأبديّين من خلال شهادتي رجل وإمرأة وهوا سمعان الشيخ وحنة. هذا هو الـمُختار من قِبل الرّبّ والسَّيّد الـمنتظر، الّذي سيقدم ذاته بالهيكل والّذي يأتي محمولاً على الأيّدي البشريين، يوسف ومريم، إلّا إنّه سيصير علامة تفوق الزمان والمكان.
2. يسوع علامة الــنّور (لو 2: 32)
يعلن لوقا الإنجيليّ مُصطلحين على شفتيّ سمعان الشيخ مما يشير بهما إلى هويّة الطفل الّذي يحمله بين ذراعيه. إنّ هذا الطفل الإلهيّ هو بمثابة: «نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل» (لو 2: 32). هذيّن المصطلحيّن هما النور والمجد. من خلالهما، يمكننا أنّ نتعلم من سمعان، أنّ نحتضن الرّبّ الصغير ونقبل حضوره في حياتنا. إنّ يسوع الـمُتجسد هو أولاً، وقبل كلّ شيء، علامة مرئية للـنّور الإلهيّ إذ يتجلى فيه مجد شعبه إسرائيل الّذي يتمثل فينا نحن الشعب المعاصر الّذي ننتمي للرّبّ.
تأتي العلامة الأوّلى والّتي تُدخلنا بعمق في جوهر عيدنا الكنسيّ، الّذي نحتفل فيه بتقدمة يسوع للهيكل، وهي علامة النّور الّذي هو شخص يسوع حيث يكشف الإنجيلي من خلال قول سمعان الشيخ حينما حمل الطفل الإلهيّ مُعلنًا سرّه في قوله: «نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل» (لو 2: 32). يسوع، بحسب نشيد سمعان، هو "نور مُعلن" للأمم أي للوثنيّين. هذا الطفل الإلهي لا يخص فقط شعب ما أو جاء لأرص ما بإسرائيل بل هو مصدر حياة كلّ مَن يؤمن به، في ولك. يسوع هو النّور الّذي إذا ما تركنا لنا مساحة بحياتنا إنتشر ليُنير كلّ إنسان. وهذه العلامة تؤكد ما ذكره الإنجيلي يوحنّا على لسان يسوع والقائل: "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يو 8: 12). يسوع، الطفل الصغير، الصامت يحمل كنز النّور لحياتنا وها هو اليّوم يأتي لينيرنا بنور سماويّ ويرفع عنا الظلمات بل ظلال الموت. نعم حضور يسوع بعالمنا يكشف عن النّور الإلهي الّذي يشع ليصل إلى أقاصي الأرض. وهذا النّور مصدره سماويّ لا يمكن كبحه. عندما يكون هناك نور، يضطع نور للجميع ولا يمكننا الإحتفاظ به بشكل شخصي. ولا نتمكن بالتمسك بهذا النّور، لأنّه إذا تمسكنا به سينطفئ. فما علينا إلّا أنّ نردد آيات الحمد والشكر لله مع حنة القائلة الّتي: »أخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم« (لو 2: 38). ها نحن الـمُنتطرين إتمام الفداء إذ يمكننا أنّ نقبله بقبول يسوع الطفل الّذي يُقدم ذاته عن كل إنسان تقدمة حيّة تصير للرّبّ بهيكله.
3. يسوع علامة الــ Kavod (لو 2: 21- 40)
يأتينا الإنجيلي من جديد، على لسان سمعان الشيخ، بعلامة ثانية والّتي تكشف لنا هويّة ابن الله الظاهر في الجسد بشكل يفوق الطبيعة من خلال علامة الـمجد الّذي يعبر عن حقيقة وهويّة يسوع حيث يقول سمعان الشيخ ناظرأً ومتأملاً في الطفل الإلهيّ، وهو بمثابة مجد الله الّذي يحمله على ذراعيّه بقوله: «نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل» (لو 2: 32). نعم يسوع هو علامة مجد لنا، أي تجليّ حضور الله وأمانته في حياة شعبه الّذي هو إسرائيل. يعني لفظ الـمجد من اللغة العبريّة Kavod أي الشيء الّذي له ثقلّ بالعلاقة معه. ويشير لوقا بهذا اللفظ بإنّ يسوع، الّذي لا نسمع صوته، فهو بعد طفل رضيع بعد ثماني أيّام من ولادته، هو علامة حضور ثقل الله في حياتنا اليّوم كشعب ننتمي له. علامة المجد هي علامة وضوح حضوره؛ وقد نخطأ حينما لا ندرك قوة حُبه الصادق. من المؤكد أنّ لوقا يشير في النص إلى إسرائيل، باعتبارهم شعب الله، وهذا الـمجيء الـمتجسد للمسيح يؤكد أمانة الله لشعبه. ولكن يمكننا أيضًا أنّ نقرأ هذا النص بشكل جديد فنحن ككنيسة على مستوانا الشخصيّ والكنسيّ نعيش بعلامة حيّة وهو يسوع في الكلمة الـمقدّسة وفي الإفخارستيا. إنّ يسوع هو مجد الّذين يؤمنون به، ومجدنا ككنيسة ننتمي له كجسد وينتمي لنا كرأس للكنيسة، بحسب اللّاهوت البولسيّ. وليس هذا فقط بل يسوع يصير مجد لكل قلب مًؤمن به. بناء على هذا يمكننا القول بأنّ يسوع أيضًا هو حقيقة ثقلّ الله في حياتنا وفي تمسكنا به يتجلى حضور الله والإخلاص لوعوده في وجودنا. إنّ ما يُعطي حياتنا وزناً هو تمسكنا به، وإتباعنا له، والتمسك بأنّ نكون على صورته. المسيحي الّذي لا ينظر إلى يسوع، إلى حياته، إلى تجسده، إلى قيامته ليس له ثقل روحي، ولا يتمكن من أنّ يكشف شيئاً عن حياة الله فيه. مدعوين أنّ نترك هذا التقل الإلهي يغمر حياتنا ويملأها بمجد يأتي فقط من يسوع علامة ورمز مجده.
4. يسوع فداء الرّبّ (لو 2: 25-28، 36-40)
في وصف الإنجيليّ كعادته لرجل ثم يليه إمرأة، يقدم لنا سمعان الشيخ الّذي بتقواه ينتظر الفرج لإسرائيل، فهو بوحي من الرّوح علم بأنه سيرى "مسيح الرّبّ". وها نحن مع سمعان نقبل الوعد الإلهي الّذي يجعلنا ليس فقط نعاين المسيّا الـمنتظر بل نحمله على أيدينا ونأكله كجسد مقدس كما «حَمَله عَلى ذِراعَيهِ وَبارَكَ اللهَ» (لو 2: 28). حقًا مَن ينتظر الرّبّ له أن يحمله ليس بقلبه فقط بل على يديه أيضًا. ثمّ يستمر في مباركة الله وتسبيحه.
وأيضًأ نرى حنة النبيّة، الّتي تأتي هي أيضًا بالرغم من تقدمها بالسن ولكن قررت بألّا تفارق الهيكل ومن خلال تعبدها بالصّوم وبالصّلاة عرفت كيف تستعد للقاء الـمنتظر مع الطفل، الذي يصير هو بذاته تقدمة البرّ ومُتمم نبؤة ملاخي (3: 1-4). وها هي تحمد الرّبّ بقلب الهيكل على عمله في يسوع ابنه.
الخلّاصة
نختتم مقالنا هذا بعد أنّ رأينا أنّ ما تناوله مستقبًا ملاخي النبي في رسالته النبويّة (3: 1-4)، بتقدمة البار بهيكل الله ويصير تقدمة مرضيّة له لأجل جميع البشريّة. تحققت هذه النبؤة في كلمات لوقا (2: 22-40). فرأينا كما أنّ يسوع هو العلامة الّتي تحوي النّور والمجد معًا، وناقشنا العلاقة بين هاتين العلامتيّن كنعمتيّن "المجد" و"النور". يمكننا أنّ نتأمل يسوع كجوهر مجدنا البشري وهو في ذات الوقت علامة حضور الله في حياتنا كمؤمنيّن، فإنه يصبح أيضًا نورًا ينير كلّا منا بحسب جنسه وعرقه، إمرأة أم رجل. هكذا المجد والنّور الإلهيّين دخلا عالمنا حبًا بنا ليرفعانا فيما هو لله الآبّ. والله لم يُرسلهما، لسمعان وحنة، من عُلاه بل أرسلهما في ابنه الّذي حملوه وسبحوا الله لرؤياهم الفداء الـمُنتظر. النّور والمجد في عيد تقدمة يسوع هذا العام، متجسديّن بالقرب منا لنتمكن من إحتضانهما وحملهما مع الطفل. هذا هو حقيقة ما نحتفل به في عيد تقدمة الرّبّ إلى الهيكل. هذا النّور والمجد الّذيّن يستقبلاهما سمعان الشيخ وحنة بهيكل أورشليم. الرّبّ يكشف عن نوره ومجده في ابنه يسوع وحينما نلتقي به يمنحنا من نوره ومجده. نعم، نلتقي بالرّبّ حينما نتعلم كيف نستقبله كعلامة مجدنا أي كعلامة ثقل الله في حياتنا، فمن خلالنا سيكون نورًا لقلوبنا ولحياتنا بل ينير مَن حولنا.