صناعة الحرب وصناعة الحضارة

قبل 600 عام من اكتشاف الطباعة في ألمانيا على يد يوهانس غوتنبرغ، كان الصينيون يمارسون الطباعة ويصدرون المطبوعات المختلفة.

وقبل قرن مِن تعرّف العالم على البوصلة الممغنطة، كانت البوصلة تقود البحّارة الصينيين عبر المحيط الهندي إلى أفريقيا، وعبر المحيط الهادئ إلى الشواطئ الغربية للولايات المتحدة. يوثق هذه الحقائق وكثير غيرها المؤرخ الإنجليزي سايمون وينشستر في كتاب «الرجل الذي أحب الصين»، والذي أحب الصين كان عالِماً إنجليزياً آخر يُدعى جوزف نيدهام (توفي في عام 1995).

استقبل نيدهام في مختبره طالبين صينيين تعلّم منهما اللغة الصينية، وتعرّف من خلالهما على الثقافة الصينية. بعد ذلك هاجر إلى الصين لدراستها من الداخل، وهناك اكتشف أسرار حضارة مغمورة في حينها، فكان له فضل كبير في الإضاءة عليها وتعريف العالم الغربي بها. ثم فجأة توقفت الصين عن العطاء الإبداعي لمدة خمسمائة عام.

حتى القرن الخامس عشر كان للصين أسطول بحري كبير. وكانت السفن الصينية تبحر حتى أفريقيا والخليج العربي، حاملةً معها إلى جانب المنتوجات الصناعية نفوذَها السياسي. ويعتقد المؤرخون أنه لو واصلت الصين هذا الأمر لبسطت سيطرتَها على العالم. إلا أن شيئاً ما قلب الوضع رأساً على عقب. فقد قرر أباطرتها الانغلاق على الداخل. وأدى ذلك إلى تساقط الجسور مع الخارج وتآكلها.. وأسوأ من ذلك، فقد أدّى إلى توقّف عمل مصانع السفن الصينية وترهّلها. لقد انغلقت الصين على ذاتها، وهي اليوم تحاول إعادة إحياء طريق الحرير التاريخية براً وبحراً. حدث ذلك في الوقت الذي شهد ولادة النهضة الأوروبية.

حاول العالِم الإنجليزي البحثَ عن جواب، فوجده في الأمر التالي؛ وهو -كما قال- إن الصين مجتمع كبير واحد، أما أوروبا فمجتمعات صغيرة ومتعددة. المجتمع الصيني انغلق على نفسه وترهّل فكرياً، أما المجتمعات الأوروبية فدفعها تنافسها (حروبها) إلى تحقيق قفزات علمية وفكرية تقدمية متواصلة. كانت هذه القفزات تستجيب لحاجاتها القتالية في الدرجة الأولى، ثم كانت تترجم سلمياً بعد ذلك. بريطانيا احتلّت فرنسا، وفرنسا احتلت بريطانيا.. ألمانيا وفرنسا ما عرفتا السلام والوفاق إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وما يزال مسرح معارك «فردان» في شمال شرق فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى شاهداً على أحد أفظع مسارح القتال في التاريخ الأوروبي الحديث.

أدى اختراع ألمانيا للطباعة إلى الثورة البروتستانتية (الإنجيلية) عن طريق طباعة المنشورات التحريضية ضد الكنيسة الكاثوليكية (الفاتيكان)، وضد مبدأ إصدار «وثائق الغفران»، وانتقلت المعارضة من داخل الكنيسة إلى الرأي العام.

كان التطور في أوروبا يترافق مع الصراعات والحروب المحلية. وكان أحياناً كثيرة نتيجة لها. لم يكن الأمر كذلك في الصين. بمعنى أن التقاتل لم يكن موجوداً ليشكل حافزاً لتطوير الجهد الحربي، ومن ثم لتحويل ثمرات الجهد الحربي إلى إنجازات مدنية. هذه الظاهرة تسود الآن في معظم مجتمعات العالم، بما في ذلك الصين ذاتها، وكذلك روسيا وأميركا. ذلك أن معظم الإنجازات العلمية المدنية الحديثة (الصناعات الإلكترونية) هي ترجمات مدنية لبرامج عسكرية.

والسؤال هو: كيف يتحول الإنجاز العسكري إلى إنجاز مدني؟ وكيف تواكب المجتمعات الإنسانية عملية التحوّل هذه لدفع حركة التقدّم العلمي والتطور الحضاري إلى الأمام؟ فمن إنتاج صواريخ عابرة للقارات إلى إنتاج صواريخ تحمل المركبات العلمية إلى الفضاء.. ومن إنتاج الإشعاع الذري لتدمير العدو (هيروشيما) إلى إنتاجه لمعالجة الأمراض (السرطان).

تلتقي الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة حول إجابة واحدة، وهي استثمار الإنتاج العسكري في الحياة المدنية، تمويلاً وتطويراً.. فهل يكون الصراع حافزاً لا بد منه للتقدّم؟ التجربة الصينية القديمة تقول: لا، وكل التجارب المعاصرة تقول: نعم.

وبين لا ونعم نذكّر بما ورد في القرآن الكريم من أن الله خلق الإنسان ليكون خليفة له في عمارة الأرض.

(الاتحاد الإماراتية)