موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٢

صلّوا كلَّ حين

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد التاسع والعشرون (الإنجيل لو 18: 1-8)

 

الصلاة هي ركيزة الحياة الروحية وقوّتُها، وهي تتم في جوٍّ خاص لها، هو جوّ الهدوء والاستماع الرهيف لصوت الله فينا. أما الصخب والانشغال الدّائم، كسماع صوت ماتور دائم بالقرب من الأذن، لا يسمح لخلق جو للصلاة، وهو جوّ غير ملائم. ولنا عبرة في هذا المثل:

 

ثلاث ضفادع سقطن في برميل حليب، فأصابهن الهلع. الأولى راحت تحوم في البرميل بسرعة لتجد مخرجاً ولكثرة الدوران تعبت يداها ورجلاها بسرعة فسقطت إلى قعر البرميل وماتت خنقاً. الثانية أصابها الهلع أيضا، لكنها استسلمت للأمر منذ البداية فماتت هي أيضا غرقا. الثالثة ولو أصابها الهلع كزميلاتها، لكنها راحت تحوم كسابحة في البرميل بكل هدوء، ويا للعجب، فقد تحوّل ما في الحليب تحت قدميها إلى زبدة، فوقفت عليها وقفزت وخرجت من البرميل سالمة.

 

أليست هذه حالة النّاس حينما يُصلّون؟ بعضهم يريد استجابة الصلاة بسرعة، لكن الله ليس ساحرا يأمُر فيكون. ومنهم من لا يفطن أن يُصلّي، فما من نجاة، وأمّا الحكيم فيأخذ وقته للتأمل والصلاة، فلا تبقى بلا استجابة

 

قالوا: الحاجة تُعلِّم الصّلاة. لكنّي اقول: تعيس من لا يُصلّي إلاّ وقت الحاجة! إذ لا يمكن أن يكون الإنسان مسيحيّاً صالحاً ومؤمِناً، دون صلاة متواصلة. كلُّنا نعرف ميزان الحرارة، وهو ضروري حتى يُبيِّن لنا درجة الحرارة في المكان الذي نضعه فيه. كذلك الصّلاة، فهي ميزان الحرارة للإيمان عند البشر. من يؤمن يُصلي، ومن يُصلي هو مؤمن.

 

بما أنَّ الإنسان من الله أتي، ففيه غريزة طبيعية، لا يستغني عن التكلّم مع الله. والكلام مع الله نسمّيه صلاة. والإنسان هو الوحيد بين جميع الخلائق، الّذي يستطيع أن يتكلم مع خالقه، والصّلاة هي اللغة الوحيدة بين الإنسان وخالقه، بينما جميع الخلائق الأخرى فهي تمجِّدُ خالقَها تمجيداً بوجودِها، لا بكلامها. فما من إنسان معروف في الكتاب المقدس، سواء القديم أو الجديد، أو مبشّر أو حامل رسالة لله، إلا وكان رجل صلاة. طبعا وأكبر رجل صلاة معروف هو يسوع المسيح، الذي كانت الأناجيل لا تتعب بأن تقول عنه: واختلى مع أبيه للصلاة!

 

القراءة الأولى من قداس اليوم قدّمتْ لنا موسى في موقف صلاة متواصلة، لينتصر شعبه بالتالي على القائد أماليك وجيوشه الفتّاكة. وهذا يبرهن لنا، كيف أنَّ للصلاة مفعولُها الكبير، وكيف أنّها تقود إلى الانتصار على الأعداء أم المخاطر كما ذكرت أعلاه بمثل الضفادع. ونفهم أيضا أن الصلاة لا تسدّ عن العمل، لكن العمل أيضا يحتاج إلى الصلاة، حتى يصل إلى توازن في قلب الإنسان. هذا ما فهمه القديس بندكتس، الذي كتب قوانين للرهبنة البندكتينية في القرون الوسطى، ثم أخذتها كلُّ الرهبات قاعدةَ لحياتها اليومية، وهو المبدأ الأساسي: صلِّ واعمل! هذا ولا تزال هذه القاعدة سارية المفعول في الأديرة الرهبانية إلى اليوم. مَن قام بواحد منها دون الثاني فكأنه يمشي على قدم واحد، فهو سيتعب بسرعة، ولن يصل بعيدا. أمّا الاثنان فيخلقان توازُناً في الحياة. نعم صلِّ واعمل.

 

الصلاة هي عنصر مهم من الإيمان، لكن ما هو جوهر الإيمان؟ لا أظن أن الجواب صعب. إذ هدف حياتنا هو أن نحبَّ الله. أن نربط علاقة معه. أن نعرفه وهذا ليس من الصعب. فطريقة العلاقة مع الله لا تختلف عن طريقتها لمعرفة القريب وربط علاقة معه بل ومحبّته. فبالتالي هي الصّلاة التي تربطنا بالله، وهي مجمل فضائل روحية كثيرة كامنة في الإنسان، تبرز في الصلاة إلى حيّز الوجود. الصلاة تربطنا بالله كما اللغة، تربطنا ببعضِنا البعض. الحديث المتواصل مع القريب، يُعمِّق الصداقة، كذلك الصلاة، فهي حديث متواصل مع الله، فنتعرّف عليه بالأكثر ومع الوقت نربط معه علاقة أعمق. أما قال بولس " كونوا مواظبين على الصلاة" ( رسالة إلى أهل كولسي).

 

إنجيل اليوم هو بهذا الموضوع، إذ يصف لنا الأرملة وموقفها المتصلّب أمام المحامي الّلامبالي أمام طلبها، لكنّها واظبت على الإلحاح وملاحقته حتى أعطاها حقّها. فهذا الموقف يريد أن يحيي فينا الثقة بالله، فهو لا يخذُل من يواظِبُ على الصّلاة، فهو غير مبالٍ بمصيرنا. الله لا ينسى أحداً، ولا يُهمِل لا ضعيفاً ولا مظلوما، لا ولا مهضوماً حقوقُه, لكن كثيرين يتساءلون: لماذا لا يسمع الله طلباتِنا، فنحن أيضا دائما نُصلّي؟ هذا صحيح، لكن الله لا يستجيب المُلحّين على كلِّ ما يطلبون، وبالسرعة التي هم يريدون أو يفتكرون. الله هو أبٌ حنون، له قلب بشري، يقول دانيال النبي، ونحن أولاده. إذا ما احتاج الأولاد شيئاً، فهم يذهبون دائما إلى والدهم ويطلعونه على احتياجاتهم، لكن الأب لا يحقق لهم دائما طلبهم، إذ هو نفسه عنده مراراً استفساراً، إذ طلباتهم لا تتفق مع إرادته، فهو يؤجّل الاستجابة ولا يرفضها. أمّا الأولاد، إن كان ذلك ضروريّاً، فهم يُكرِّرون الطلب حتى ينالوا مأربهم. صلّوا كلَّ حين، يوصي الإنجيل، وليس فقط عند الحاجة، إذ الصّلاة هي علامة ثقة، ومن نمط ومكوِّنات الحياة اليومي، كالأكل والشرب، بشرط أن تكون علاقة متينة بين المُصلِّي وربِّه، فنعرف أنّه في كلِّ المواقف، خاصة المُحرِجة منها، واقفٌ إلى جانبنا. فالصلاة تعني: إني بحضرة الله، وهو إلى جانبي كظلّي، لا يتركَني لحظة. إنّي أُقرُّ وأعترف أنَّه خالقي ومُخلِّصي ومخلِّصُ جميع البشر، وهو معونتي في ضيقي: نعم معونتنا باسم الرّب. إني أعتبره خطأً جسيماً، أن نفتكر أنّه ما عاد لزوماً لوجود الله في عالم، صار الإنسان فيه يصل إلى القمر ويسير عليه، يخترع سيّاراتٍ سريعةً وطيّاراتٍ خارقَةَ السرعة، فنحن لا نستغني عن قدرته. فالصلّاة تعني وضع يدنا بيده تعالى لئلا تتعثّر خُطانا، كالطّفل الصّغير يُمسك بيد والده على الطريق حتى لا يتعثّر. وهذه علامة ثقة واعية، واقتناع لا شك فيه عن محبّتِه لنا، حتى وإن لم يستجب طلبنا حالا كالسّاحر. لكنه قال: كلَّ ما تطلبونه باسمي تنالونه. فهذا تشجيع لنا أن نضع طلباتنا واحتياجاتنا أمامه بلا ملل، فهو يعرف جميع احتياجاتنا، وله أذْناً حسّاسة، وقلباً مُحِبّاً ويداً مساعدة، لا يغيب عنه طلب. فهذا يخلق فينا الاطمئنان والشّعور بحمايته التي لا تعرف الحدود. إذن لا بدّ من الاتصال المتواصل معه. لا بدَّ من اللجوء إلى الصّلاة بتواصل. صلّوا ولا تملّوا.

 

من يُصلّي، يعرف أنَّ الله شخصاً، وهو أب وليس قوّةً أو شبحاً غامضاً مُخيفا، لا يجوز لا الاقتراب منه، ولا ربطُ أيِّ علاقةٍ معه. التوراة والإنجيل يعرفان اسمه، وهو عمّانوئيل، أي الله معنا. وهو كذلك.